المخرج يحيى بركات: راشيل كوري.. ضمير أمريكي
بشار إبراهيم
على عظمة ما قدمته للقضية الفلسطينية، لم يجرِ منح راشيل كوري القدر اللائق مما يمكن أن نسميه عناية السينما، خاصة الأفلام الوثائقية الفلسطينية. وفي الوقت الذي تُرك موضوعها للجوانب الإخبارية، والنشاطات الأهلية الفلسطينية، والاحتفاءات المحدودة، في قليل من المناسبات.. إلا أن الحقيقة المؤسفة تقول إن السينما الفلسطينية، وأفلامها الوثائقية، قصرت تماماً بحق هذه الفتاة/ القضية، والتي كان من الممكن أن ترتقي إلى مستوى الأيقونة، والرمز.
ومنذ مقتلها على أيدي جند الاحتلال الإسرائيلي، عام 2003، وحتى اليوم، سيغدو من النادر أن نجد انتباهات سينمائية ملفتة لفتاة أمريكية، جاءت، وهي في مقتبل العمر (مواليد 1979)، وزهوة الشباب، لتقف مع الفلسطينيين المدنيين العزل، ولتناصرتهم وتتضامن معهم، في وجه آلة القتل والتدمير الصهيونية.. فتُقتل بدم بارد!..
سيبدو المخرج يحيى بركات، بفيلمه الوثائقي الطويل «راشيل كوري.. ضمير أمريكي»، صاحب المداخلة الوثائقية الوحيدة، ربما، وعلى ما نعلم. إذ أنه بادر سريعاً، وخلال أقل من عام على مصرعها المفجع، إلى تحقيق فيلم وثائقي طويل (مدته 90 دقيقة)، عنها، حشد فيه كل ما أمكن من وثائق بصرية، ومقاطع فيديو، صدف أن ظهرت فيها راشيل كوري، خلال تواجدها في قطاع غزة، قبل أن تلاقى حتفها. دعم ذلك بطيف واسع من اللقاءات والحوارات والتصريحات والشهادات والإفادت.. التي بمجموعها جعلت من الفيلم مداخلة قوية وصارخة، لم تتوقف عند مصرع الفتاة، فقط، على عظمة هذا الأمر، ومحوريته، بل جعلت منه قضية.
المشاهدة المتأنية للفيلم، وربما مرة بعد أخرى، ستكشف عن سياقات متعددة اهتم بها الفيلم، إلى الدرجة التي أتخمته، وجعلته يفيض عن الموضوع المحوري، الذي سيغيب في عدة مقاطع من الفيلم، ليعود إليه مرة بعد أخرى، يحاوره ويناوره، ويتناوله من هذا الجانب، وذاك، قبل أن يختم به، مقولة عليا.
التثقيل الذي يتصف به الفيلم، والناجم أولاً عن الخزينة المعرفية الكبيرة لدى المخرج، وتجربته الممتدة على مدى عقود، مواكباً للثورة المسلحة، والسينما الفلسطينية، وعارفاً بالكثير من التفاصيل التي يكشف عنها، ولم يتم تناولها، ولا قولها.. والناجم أيضاً عن رغبة المخرج الواضحة في قول كل شيء، وعلى أكثر من صعيد، وعلى أكثر من مستوى، وجانب. والناجم أيضاً وأيضاً عن ارتباط موضوع راشيل كوري، وتشابكه، بالعديد من العناوين، بدءاً من مسألة التضامن الدولي مع فلسطين، وليس انتهاء بسياسات الحكومة الأمريكية، وخاصة تجاه الممارسات الإسرائيلية، حتى لو كان الأمر يتعلق بمواطنين أمريكيين..
التثقيل هذا، جعل من الفيلم يبدو متعدد المستويات، متعدد الاتجاهات، متعدد الرؤى، إلى الدرجة التي يمكن القول إنه مجموعة أفلام، أراد لها المخرج يحيى بركات، في فيلم واحد، أن تخلق السياق العام لما جرى، ليس فقط على صعيد ملابساته، التي سيمنحها وقتاً كافياً من التدقيق والتحقيق، وتفنيد الرواية الإسرائيلية، سواء عبر مجموعة من الشهود العيان؛ أجانب وفلسطينيين، أو إيضاح ركاكتها وتهافتها، بل أيضاً على صعيد وضع اغتيال راشيل كوري في سياقين متوازيين: أولهما تاريخ حركة التضامن الدولي مع الثورة الفلسطينية، بداية، ومع الفلسطينيين المدنيين، تالياً. وثانيهما فضح تهافت سياسة الحكومة الأمريكية، في التعامل مع الممارسات الإسرائيلية الهمجية.
لن يكتفي المخرج يحيى بركات باللحظة الراهنة، على الرغم من عظم فاجعتها، وقوة تأثيرها. ولو فعل ذلك، لكان انتهى إلينا بفيليم وثائقي، مشحون بالمشاعر، خاصة مع توفر الوثائق البصرية التي تبدو فيها راشيل كوري في مواقع المواجهات، برفقة زملائها من المتضامين الدوليين، أو ضيفة في بعض البيوت الفلسطينية، أو حينما كانت تلاعب الأطفال، وتشاركهم اللهو، أو في مشاهد مشاركتها المؤثرة، وإدلاء الشهادة محكمة برلمان الصغار!..
ولكن يبدو أن المخرج ما أراد هذا!.. ما أراد أن يجرفنا بالمشاعر والعواطف، ولا أن يقع في مطب الميلودراما، ولا الاستغراق في البكائيات.. والأمر كان متاحاً له تماماً، خصوصاً أنه كان يمكن أن يعزز، كل ذلك، بمجموعة من المكاتبات والمراسلات التي أنجزتها راشيل كوري، خلال فترة تواجدها في فلسطين، والتي بعثت بها إلى أفراد أسرتها الصغيرة، حتى أضحت مثل كشاف ضوء ينير لهم جوانب خفية من القضية الفلسطينية.. فضلاً عن رسوماتها، وقصائدها، وعلاقاتها التي تبدو مميزة مع زملاء وزميلات قدموا للتضامن مع الفلسطينيين، من شتى أنحاء العالم، وترك لديهم أثراً طيباً، سيظهر الفيلم جوانب متعددة منه، تفجعاً، وتأسياً، ومن ثم وفاء.
أراد المخرج شيئاً آخر.. ولقد انتصر العقل على العاطفة. وضاهت الموضوعية الانحياز الجارف.. فبرزت هذه وتلك، مثمرة في ثنايا الفيلم، خاصة وهو يمضي بهدوء، ودون أي استعجال لما يريد. فأن يكون الفيلم عن راشيل كوري، وباسمها، ولأجلها، وتقديراً لتضحيتها العظيمة، فهو مما لم يدفع مخرجاً من طراز يحيى بركات للركض والمطاردة، بل سنراه يرجع بالأمور إلى سيرتها الأولى، إلى البدايات، ليكشف جانباً مهماً من تاريخ التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، ومن هنا كان حضور بسام أبو شريف، الذي يعتبر أحد العارفين بتاريخ هذا التضامن، سواء لكونه أحد قيادات اليسار، منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، أو باعتباره كان مقرباً من مركز صنع القرار الفلسطيني، برفقة الرئيس ياسر عرفات.
![]() |
راشيل في فلسطين |
يعرف المتابعون لمسار الثورة الفلسطينية، منذ انطلاقتها عام 1965، وحتى اليوم، أن الثورة الفلسطينية، وخاصة في أعقاب نكسة حزيران عام 1967، وبالتوافق مع مد الحركة الثورية اليسارية في العالم، حينذاك، وانتساب الثورة الفلسطينية إلى ما كان يعرف حينها بحركات التحرر الوطني، واليسار العالمي.. حظيت بأشكال مختلفة من الدعم والتضامن الدوليين، سواء على المستوى السياسي والعسكري، أو على المستوى الثقافي والإعلامي، الأمر الذي تجلّى من خلال توافد الكثيرين من كتاب ومفكرين وأدباء وفنانين وطلبة.. إلى مواقع الثورة في الأردن، قبل العام 1970، ومن ثم إلى لبنان، بعد العام 1971.
وأن يشاء المخرج يحيى بركات، العودة إلى نفض الغبار عن تلك الذاكرة، الآن، وفي حالة راشيل كوري، فإنما ليؤكد أنها تنتمي إلى سياق تاريخي تحقق للثورة، وبالثورة، التي استطاعت استقطاب الكثيرين من المتضامنين، حتى من الأسماء العالمية الكبرى، في مجالات الأدب والفكر والسينما، بدءاً من جان لوك غودار، وليس انتهاء بجان جيينه، أو البرتومورافيا، أو مونيكا ماورر، أو بيا هولمكويست.. والقائمة تطول. بل إن ثمة أفلام (مثال: فيلم قائمة غولدا لإيمانويل فرانسوا) تؤكد بقوة إن إسرائيل قامت باغتيال عدد من الشخصيات الفلسطينية (مثال: غسان كنفاني، وائل زعيتر)، لأنها تمكنت من عقد صلات قوية مع شخصيات عالمية مرموقة، ونسجت لها علاقة مع الثورة والقضية الفلسطينية!.
سننتبه مع فيلم «راشيل كوري.. ضمير أمريكي»، أن قليلاً من الأفلام الفلسطينية هي تلك التي أعطت المتضامنين الدوليين حقهم من الاحتفاء والتكريم، ووضعتهم في دائرة الضوء، وقدمتهم، حتى للفلسطينيين أنفسهم!.. وربما استضافة الفيلم لشخصية استثنائية من طراز الهولندي (بن)، الذي نذر عمره، وجهده، وعلمه، للتضامن مع القضية الفلسطينية، منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، وحتى اليوم؛ أي منذ مأساة تل الزعتر عام 1976، وحتى مأساة رفح عام 2004، تاريخ إنتاج الفيلم.. إنما تشكل إلماحة ذكية، ونبيلة، في آن معاً.
لن يتوقف الفيلم عند المتضامن الهولندي العتيق، فقط، بل سيرصد أجزاء من وقته للكثيرين من الشباب الجديد، المتضامن باجتهاد، والقادم من شتى أنحاء العالم؛ شرقه ومغربه، للوقوف مع المدنيين الفلسطينيين، فلا يكتفون بمراقبة الأحداث فقط، بل سيشاركون في أعمال أغاثة، وفي محاولات التصدي السلمي لآلات التدمير الإسرائيلي، تلك التي لم تتردد في قتل الشابة الأمريكية راشيل كوري، والشاب البريطاني توم هيراندل، وأوقعت إصابات متفاوتة الخطورة في العديد منهم.
ومن جهة ثانية، يتناول الفيلم مأساة الديبلوماسية الأمريكية، وسياسات الإدارة الأمريكية الخرقاء، وانحيازها الواضح لمصالح إسرائيل، والسكوت عن ممارساتها، حتى لو كان الأمر يمس سلامة وأمن وكرامة مواطنيين أمريكيين. يحضر الديبلوماسي الأمريكي (إدوارد بيك) ليدلي بشهادة الواضحة النفور، مما تفعله الحكومة الأمريكية، ويحاول تبرئة الشعب الأمريكي من المسؤولية، على الأقل بسبب قلة المعرفة، أو قلة الاهتمام بتفاصيل ما يجري، إلى الدرجة التي نسمعه يقول: «من الحقيقي القول بإن الشعب الأمريكي لا يعير اهتماماً كبيراً لما يحدث. وإذا أضفت إلى ذلك أن معظم المعلومات التي تصلنا منحازة.. وفي دولة حرة يمكن أن يحدث ذلك.. لدينا مشكلة، هي أن الأمريكيين لا يرون الفلسطينيين كما يرون الإسرائيليين. لو فكر الأمريكيون للحظة، لأدركوا أن الإسرائيليين هم من يقمع الفلسطينيين طيلة عقود».
كما أن الممثل الأمريكي الشهير (ريتشارد غير)، سوف يحضر، ليدلي بتصريحه المتضمن إدانة لما تقوم به الإدارة الأمريكية، فيقول: «من المحزن رؤية ما يجري في هذه البقعة من العالم. وكأمريكي يعرف تأثير الأمريكيين على ما يجري في العالم، لذا يجب استخدام هذا التأثير بطريقة صحيحة. نمتلك ديمقراطية، ولكنها ليست مثالية. نستطيع أن نؤثر على سياسات حكومتنا أحياناً. إن من مسؤوليتنا أن نعرف ما يجري، وأن نفرض على حكومتنا التصرف بعقلانية».
لا عقلانية في ممارسات الإدارة الأمريكية.. نعم!.. وخاصة فيما يتعلق بإسرائيل، هذه التي لا تفتقد للعقلانية فقط، بل لأدنى مقومات الحسّ الإنساني، فينفلت عقال استخدام القوة لديها، ليفوق كل حدّ عرفته البشرية. لا حد لاستخدام القوة، لدى إسرائيل، حتى لو كان في الجهة المقابلة، طفلاً صغيراً، أو امرأة، أو شيخاً.. وحتى لو كان بين أنياب الجرافة العاتية، فتاة ناحلة البنية، أمريكية الجنسية، لا شغل لها، في المكان، سوى التضامن مع مدنيين، تتعرض بيوتهم وأشجارهم، للتدمير والاقتلاع، ريثما يتعرضون هم أنفسهم للقتل.
يجدل الفيلم هذه الخيوط الكفيل كل منها بالنهوض بفيلم وثائقي، أو قل بمجموعة أفلام وثائقية، وينسجها جميعاً، لتشكل مع استطرادات أخرى لازمة، السياق والخلفية التي يمكن النظر من خلالها إلى قضية راشيل كوري، لتغدو المسألة أبعد من مجرد الفتك بحياة فتاة، أمريكية، مدنية، عزلاء.. وتتحول إلى إصبع اتهام جريئة لكل من بوش وشارون، وما يمثلان من سياسات، ويقومان من ممارسات.
جهد كبير، يتوفر في هذا الفيلم الوثائقي الهام. ولا شك أن فيلم «راشيل كوري.. ضمير إنساني»، ومخرجه يحيى بركات، قدما شهادة لن تُمحى، وقولاً لا ينطفئ.. تماماً، كما كشفا عن مدى التقصير الذي جرى تجاه الفتاة راشيل كوري، في استعادة موجعة، وتكرار مؤلم، للتقصير الذي طال الفتى محمد الدرة.. فما أبأسنا!..