فيلم “ظلال”: رحلة بالكاميرا داخل عالم مغلق
![]() |
أمير العمري |
يقتحم الفيلم الوثائقي الطويل الجديد “ظلال” (90 دقيقة) لماريان خوري ومصطفى الحسناوي، عالما غير مألوف، هو عالم المرضي النفسانيين والعقليين، الذين يطلق عليهم العامة في بلادنا “المجانين”، أي فاقدي العقل، في حين أنهم في الحقيقة، لم يفقدوا عقولهم بل أصيبوا لأسباب عديدة، باضطرابات نفسية شديدة تركت تأثيرها على قواهم العقلية، وهي حالة قد يتعرض لها أي منا تحت ضغوط معينة.
إنها المرة الأولى على حد علمي، التي تتسلل فيها الكاميرا داخل مستشفى العباسية الشهيرة في القاهرة التي تعرف باسم مستشفى المجانين، والاسم الرسمي لها مستشفى الصحة النفسية بالعباسية، وكذلك مستشفى الخانكة، والاثنتان تأسستا في القرن التاسع عشر، ولهما تاريخ طويل تطور مع تطور أساليب العلاج النفساني.
كان التصوير داخل هذا النوع من المستشفيات في الماضي، يعد من الممنوعات، بسبب الأوضاع السيئة التي يعيشها المرضى داخلها، وما عرف عن ذلك النوع من المستشفيات من استخدامه أيضا للعقاب أو لعزل بعض الحالات التي كانت تصنف على أنها حالات غير اجتماعية أو حتى خطرة سياسيا، كما كان الحال مع الكاتب والمترجم الكبير إسماعيل المهدوي، والشاعر الشهير نجيب سرور في فترة ما.
ماريان خوري، ابنة شقيقة المخرج الراحل الكبير يوسف شاهين، تهدي الفيلم الذي اشتركت مع المخرج التونسي مصطفى الحسناوي في إخراجه، إلى ذكرى “جو”، أي خالها الراحل الكبير. وهو إهداء في محله تماما، فالفيلم يبدأ من حيث انتهى فيلم آخر شهير بيوسف شاهين هو فيلم “باب الحديد” أحد الأفلام الروائية القليلة في السينما، التي تدور حول شخصية رئيسية من المضطربين نفسيا. وقد قام بأدئها شاهين نفسه في أحد أهم أفلامه.
اما فيلم “ظلال” فهو يصور لنا العديد من الشخصيات، من النساء والرجال، ومن المسلمين والمسيحيين، من نزلاء مثل هذه المصحات العلاجية الضخمة.
بعضهم قضى أكثر من ثلاثين سنة داخل جدران المستشفى، والبعض الآخر كان من الممكن أن يغادر المستشفى خصوصا وأنه لا يتناول أي نوع من أنواع العلاج، لولا خشيته من مواجهة مجتمع يرفضه، أو يعجز عن استيعابه بما في ذلك الأهل والأقارب.
وللوهلة الأولى، يوحي لنا أسلوب التصوير بأننا داخل سجن، وأمام شخصيات لمسجونين: الزوايا وأحجام اللقطات (القريبة والمتوسطة)، واختيار الأماكن الملائمة داحل المستشفى: الردهات، الأبواب نصف المغلقة، الأركان المظلمة، محاصرة الشخصية داخل اللقطة، وترك المجال لها للتعبير حتى مع عدم قدرتها على الحديث المترابط وعدم المقاطعة بالأسئلة.
هذا الجو الموحي بالسجن، يتسق تماما مع حالة التشتت والضياع والعزلة الشديدة التي يعيشها المريض.
هناك شاب أتى به والده، مصاب بما يعرف بالفصام، قام بحرق أثاث شقيقته قبيل زفافها، وهناك امرأة من الصعيد، مسيحية لكنها تحفظ القرآن وتردد آياته، وامرأة أخرى مسلمة ترتدي الحجاب وقد بدت عليها علائم التزين، تتحدث بمنطق واضح إلى حد كبير وتروي كيف أنها كانت ضحية لزوجها الفظ الذي تسبب في إصابتها بعقدة نفسية بسبب إهاناته المتكررة لها بل وسخريته من أنوثتها، وهي تخوض في رواية الكثير حول تفاصيل علاقتها الجنسية المعقدة بزوجها، وكيف اعتدى عليها واغتصبها ليلة زفافها.
هناك من يتخيل نفسه نبيا، بل ويتصور أنه المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) وقد بعث مجددا لهداية البشر في الأرض، وهناك شاب تتصور أمه التي أحضرته إلى المستشفى بنفسها، انه مسكون بامرأة من عالم الجان، مسيحية، تريد أن تستولي عليه، وهي تروي كيف أنها كانت تضع له الدواء في الشاي والطعام دون أن يدري لكنه لم يساعد على تقدم حالته، ثم أخذته إلى بعض المشايخ، وكيف أنه كان يغضب عندما يسمع الآذان ويبدأ في السب واستدعاء اللعنات، ثم ذهبت به إلى الكنيسة وهناك وضع القس صليبا في رقبته فشعرت الأم بالغضب ورفضت هذا، وقال لها القس إن ابنها يخضع لسيطرة جنية من العالم السفلي.
الإبن مقتنع تماما بالأمر، فهو يسمع أصواتا، ويتخيل أن المرأة- الجارة التي تسكن فوق سطح البناية، عفريتة تظهر له بملابس شفافة تحاول إغراءه، وحرفه عن الدين.
![]() |
البعد الديني واضح كثيرا في حكايات المرضى الرجال خصوصا داخل المستشفى، لكن هناك الكثير من القصص التي تعكس رغم عدم ترابطها، أوضاعا اجتماعية مضطربة هي التي انتهت بالكثير من هؤلاء المرضى إلى المستشفى. فالمستشفى في هذا الفيلم معادل للمجتمع. وليس من الغريب أننا نسمع كثيرا على ألسنة المرضى تعبير “إن المجانين هم الموجودون في الخارج وليسوا نحن”!.
هناك مثلا العم الذي أراد الاستيلاء على ميراث شقيقين فوضعهما في المستشفى رغم أنهما لا يعانيان من الخبل، وهناك الزوج الذي أراد الخلاص من زوجته لكي يتزوج بغيرها، والشقيق الذي اعتدى على شقيقته ودفعها دفعا للعودة إلى المستشفى بعد خروجها وعودتها للمنزل.
الصورة العامة لعالم المضطربين نفسيا هي صورة موازية لمجتمع يعاني من خلل واضطراب وفوضى وعدم وجود ضوابط للتعامل مع تلك الحالات التي تعاني من ضغوط نفسية شديدة وقد تصبح عرضة للانهيار.
والنماذج التي يستعرضها الفيلم كثيرة ومتباينة، منها ما يجعل المشاهد للفيلم يتساءل كيف تم عزلها لسنوات داخل المستشفى رغم أنه لا تبدو عليها أي أعراض مرضية، ومن هذه النماذج أيضا ما يبرز العنصر الاجتماعي سببا لمأساتها الممتدة، ومنها أيضا من يختار بارادته البقاء في المستشفى خوفا من مواجهة العالم في الخارج.
ويتميز الفيلم بتلك العلاقة الوثيقة التي يبنيها بالكاميرا، بين المكان بتفاصيله، وبين الشخصيات التي نشاهدها، ومنها ما يتوقف الفيلم أمامها طويلا، ومنها أيضا ما يعبر عليها سريعا.
ويستخدم المخرجان في كثير من اللقطات، طريقة سماع الصوت قبل ظهور الصورة، أو الحديث القادم من خارج الصورة، كما يتوقف الفيلم كثيرا أمام ما يقوم به المرضى من غناء متقطع وانتقالات غير مفهومة أحيانا، من أغنية إلى أخرى، أو هتافات أو نداءات ذات طابع ديني. ويصور الفيلم الاحتفالات الدينية داخل المستشفى، وإقامة الشعائر والصلوات الإسلامية والمسيحية في المناسبات الدينية.
![]() |
ومع كثافة المادة المصورة والمقابلات من وراء الكاميرا مع عدد كبير من المرضى والمريضات، يعاني الفيلم من بطء الإيقاع، ومن الطول المفرط، سواء لبعض اللقطات والمشاهد، أو للفيلم ككل، فمن الممكن أن يستمر الفيلم على هذا المنوال ساعات وساعات، خصوصا وان المخرجين لا يتحكمان في البناء الفني للفيلم بحيث يصبح بناء قصصيا، يرتكز على محور واحد، ويتم التحكم في إيقاعه الذي يمكن أن يرتفع تدريجيا إلى أن يصل إلى نهايته الطبيعية.
ومع ذلك لا تقلل أي ملاحظات سلبية من قيمة الفليم كوثيقة ذات دلالة اجتماعية وسياسية.
كان من الممكن دون شك، أن يأتي الفيلم أكثر إحكاما وأن تصبح الحوارات من وراء الكاميرا مع المرضى وأقاربهم، أقل إرهاقا للعين وللأذن، إذا ما تم صياغة مادته البصرية والصوتية في حيز زمني أقل وأكثر توازنا، مع التغلب على التكرار والقضاء على الترهل في الإيقاع الذي أصاب بعض أجزائه.
لكن ما يحسب للفيلم استغناءه التام عن التعليق التقليدي الصوتي المصاحب، واعتماده على أن تروي الشخصيات حكاياتها بنفسها دون أن يبدو أن هناك تدخلا من جانب صانعي الفيلم، بالإضافة إلى شريط الصوت الثري المصاحب، وقلة ظهور الطرف الآخر في القصة، أي الأطباء والإدارة التي تبدو غائبة تماما، باستثناء مشهدين أو ثلاثة للعلاج بالصدمات الكهربائية، أو المناقشات بين الطبيب وبعض المرضى.
ولابد من الإشادة بمشهد النهاية على وجه الخصوص: المريض الذي يتناوب العمل مع أحد الموظفين بالمستشفى وكأنه قد تبادل معه الأدوار، وأصبح جزءا عضويا من المكان، وهو مقيم بالمستشفى منذ 35 عاما لكنه لا يتناول الدواء، وجوابه على سؤال حول ما إذا كان يرغب في الخروج هو الصمت. لقطات للحدائق في المستشفى عن الغسق. شاب يخرج من الباب.. سيارة تمر تنثر مادة كيميائية في الجو لتعقيم المكان… عنبر الرجال: لقطات متنوعة للرجال.. أشكال وسحن مختلفة.. صوت الآذان.. باب يغلق.. صراخ!
فيلم “ظلال” تجربة فريدة في مجال توثيق الجانب الآخر من المجتمع، ذلك العالم المغلق القائم امامنا، والمستغلق علينا، وهو جدير بالعرض في القنوات التليفزيونية التي تهتم بمناقشة الأبعاد ااجتماعية للاضطرابات النفسية.