مشهدية ناجحة لحكاية عادية مع هفوات فنية

الريف التونسي من جديد يطرح في السينما التونسية من خلال رؤية إخراجية للمخرج معز كمون في فيلمه الجديد آخر ديسمبر. فيلم يعرض الآن للعموم في قاعات السينما في تونس العاصمة وضواحيها.
الفيلم يقص حكاية بسيطة لعائشة؛ فتاة ريفية تعدت العشرين سنة قامت بدورها هند الفاهم تطرد من مصنع الخياطة الذي تشتغل فيه نتيجة رفضها الاستجابة إلى تحرّشات مديرها وفي نفس الوقت تعيش قصة حب حميمي مع أحد الشبان الذي وعدها بالزواج ثم فرّ من القرية وترك لها جنينا في بطنها. في ذلك الوقت يصل من العاصمة آدم؛ طبيب فارّ من فضاء مديني يذكّره بفقدان عائلته الصغيرة. الطبيب الذي قام بدوره الممثل النجم الآن في الدراما التونسية والعربية ظافر العابدين ظهر أيضا  كعازف غيتار يثير الارتياب في عيون أهل القرية تتعلّق به الفتاة لكن أمها تعرض عليها الزواج من أحد شبّان القرية العاملين بفرنسا والذي يعود إلى القرية بحثا عن زوجة صالحة. الفتاة لا تتردد في القبول لأن غايتها هي الفرار من جحيم القرية الذي يمثل فضاء منغلقا تحاصره الحجارة من كل مكان. تحاول الفتاة التخلّص من الجنين فتنزل إلى المدينة بمساعدة الطبيب, يحرّض رئيسها في مصنع الخياطة خطيبها بتركها لسوء سمعتها.
وينجح في ذلك.القرية تعيش حالة من التوتّر فالحكومة تسعى إلى إنزال المتساكنين في الجبل إلى تجمّع سكني بنته خصيصا لهم. بينما الأهالي يرفضون النزول ويتمسّكون بالحرية في مساكنهم التي توارثوها ويرفضون جميع الإغراءات. يحاول أحد النافذين هناك أن يستميلهم بإنشاء فرقة للرقص العصري فيستنجد بأحد الشطّار فيأتيه بمجموعة من المومسات لأداء عرض راقص فتفشل عملية التدريب التي سهر عليها موظف السلطة الذي ينشغل طوال الوقت بحياة سرية مع زوجة أحد سائقي سيارات الأجرة قام بالدور الممثل الكوميدي لطفي بندقة المهوس بكتابة الشعر مما جعله يهمل زوجته الثانية ولا يستمع إلى إشارات ابنته الصغيرة التي فشلت في لفت انتباهه إلى خيانة زوجته. تتأزم حال البطلة وتهم ببيت الطبيب ذات ليلة ثم تتراجع في آخر لحظة وتركض باتجاه الجبال يتبعها الطبيب إلى القمة ويدعوها إلى النزول لكنها تسقط سقطة قوية تكاد تكون مميتة يطلب الإسعاف، ليظهر في مشهد أخير الطبيب أمام زورقه يريد الإبحار تلتحق به الفتاة فيعرض عليها أن ترافقه في جولة وتشي النهاية بأنهما سيكملان الحياة معا.

 

بطلا الفيلمرظافر عابدين وهند الفاهم 

حكاية بسيطة يرويها فيلم معز كمون في مشاهد رائعة كانت أشبه ما تكون بلوحات رسم كلاسيكي لطبيعة حية، فقد نجح المخرج نجاحا كبيرا في اختيار فضاءات التصوير واختيار تلك القرية النائمة على ربوة جبل قاس بصخوره الناتئة مثل عقول أهله المتوحشة. ومن المعروف أن معز كمون من مناصري السينما الجماهيرية وهو من الجيل الثاني من السينمائيين التونسيين والذي يلي مباشرة جيل الرواد ويحسب له في تجربته السينمائية مع الأشرطة الطويلة ابتعاده عن الطابع الفولكلوري وتعامله بمنتهى الواقعية والجدية مع الواقع التونسي المعاصر بلغة سينمائية جديدة لذلك جاء فيلمه فيلما سلسا دون تعقيد يروي قصة إنسانية ومعيشا تونسيا ممكنا في معظمه لولا بعض الهفوات التي بدت واضحة في الشريط وأهمها اللهجة التي كانت تتحدث بها البطلة خاصة والتي لم تغادر القرية وتحلم بالخروج منها من ناحية ومن ناحية أخرى كانت ترطن بلهجة مدينية في أكثر من مشهد وخاصة مشهد تألّمها اقر اكتشافها لحملها والسقطة الثانية للفيلم هو المغالاة في التخييل الذي بدا ساذجا ومسقطا أحيانا خاصة فيما تعلّق بقصة بعث فرقة للرقص العصري وقد بدت مشاهدها بلا معنى وغير مستساغة في تطوّر الحكاية، حكاية سكّان القرية المتمسّكين بقمم الجبال ومساكنهم القديمة. والذي أهملهم الفيلم بعد ذلك إلى النهاية ولم يحسم في أمرهم أصلا ولا أوضح حتى أنهم ظلّوا متمسكين برأيهم بل انه أظهرهم في مظهر الانتهازيين عندما ختم مشاهدهم بأن اتفقوا أن تدفع لهم الدولة كي يغادروا البيوت العالية وهنا يسقط المخرج عن الرفض الجماهيري رمزيته لأنه أصبح رفضا من أن المساومة لا من أجل المبدأ.
كما كانت النهاية فجائية فالانتقال من ذروة الحدث الدرامي وهو سقوط البطلة من الجبل وظهورها بعد ذلك عند الشاطئ مع الطبيب في مشهد رومانسي ختامي بدا مشهدا مبتورا رغم أن التقطيع والمونتاج كان متميّزا من أول الفيلم إلى غاية النهاية المبتورة. وإن كان البطل قد أنقذ البطلة في آخر الفيلم كأنما هو بذلك ينقذ السنة برمتها وهي قراءة ممكنة للعنوان”آخر ديسمبر” فإن النهاية كادت تسقط الفيلم بفجاجة القطع والقفز لولا ما رأيناه من حرفية عالية على امتداد الفيلم وأحسب أنه في الامكان ترميه بمشهد أو مشهدين واحد عن مصير قصة الأهالي وحكاية الترحيل ومشهد بين حادثة السقوط ومشهد النهاية.

وكان المخرج قد سبق أن تحدّث عن فكرة فيلمه قائلا:
انطلقت فكرة فيلم ” آخر ديسمبر” عن ملاحظة شخصية لحياة و طموحات المرأة الريفية. مقتنعا بوجوب تغيير نظرتنا لها ذلك أن الفتاة الريفية لها أماني و أحلام مثلها مثل امرأة المدينة. فعائشة بالرغم من ضيق ظروفها تطمح لحياة أسعد.
بهذا الشريط أردت أن أقترب إلى هذه الفتاة التي أصبحت متعلمة و منفتحة على العالم و في الآن نفسه أردته شريطا حيا بعيدا عن الميلودراما و ذلك بشخصيات واقعية و طريفة و قريبة من الجمهور في الآن نفسه.

المخرج معز كمون

وكنت قد خيّرت أن أشاهد العرض مع الجمهور بعد يومين من بداية عرضه ولاحظت أن الجمهور مازال غفيرا. وكانت فرصة لأسأل بعض الشباب الذين كانوا يشاهدون الفيلم فأكّدوا لي أنهم لا يعرفون المخرج وأنهم أتوا لمشاهدة نجوم الفيلم الذين أصبحت لهم قاعدة جماهيرية من خلال إطلالتهم التلفزيونية ممثلين أو ضيوفا في برامج التوك شو. وكانوا يقصدون ظافر العابدين الذي أدّى دور الطبيب ببراعة كبيرة ولطفي العبدلي الذي أدّى دور العامل العائد من فرنسا بحثا عن زوجة تقليدية.
وفي المقابل احتد بعض الشباب عن الصورة التي قدمها الفيلم عن المرأة الريفية والتي أظهرها في مناسبتين امرأة متحررة جنسيا تمارس الجنس في العراء أو تخون زوجها وتدخل عشيقها البيت في حضور ابنته.

والواضح أن معز كمون يسلك مسلكا واضحا في الإخراج من خلال البحث عن جماهيرية للفيلم من ناحية ولكنه لا يتنازل عن الرؤية الفنية الراقية من خلال اجتهاده في تنفيذ تلك اللوحات الخلابة حكت حال القرية الجميلة المسماة بالزريبة من ولاية سليانة. سندتها موسيقى تصويرية ممتازة متناغمة مع وجود الغيثارة في الفيلم.
قدّم الفيلم الإنسان المديني المتحضر في صورة المنقذ الذي يساعد الفتاة على التخلّص من حملها الحرام ويسعى إلى مساعدة ثم لا يتردد في أن يتزوجها في النهاية وكأنه بذلك يصلح إن يعالج ما ارتكبه الشاب القروي الجاهل مع أنه لم يهمد لذلك الارتباط بعلاقة حب فقد كانت الفتاة تفكّر فيه أحيانا ولم تكن قصة عشق فهي كل ما يستحوذ على تفكيرها هو الخروج من القرية. والحق هو أن هاجس السفر والهجرة كان التيمة المتكررة في الفيلم من خلال بطلة الفلم التي تتوق إلى الهجرة وترك القرية وصديقها الذي وعدها بالزواج وهي أصلا ابنة رجل هاجر وترك عائلته بلا رجعة وتستقبل رجلا عائدا من المهجر للزواج والعودة إلى فرنسا. الكل يريد أن يسافر ويترك المكان الذي بدا على جماله الأخّاذ خانقا بعقلية سكّانه من ناحية وبالانتهازيين من أعوان السلطة الذين لم يتركوا حتى الأعراض فاستباحوا كل شيء ويهمّون بتهجيرهم من بيوتهم. وقد مثلهم عمدة القرية الذي قام بدوره جمال المداني.

ظافر الغربي جمال المداني

فكرة أن الفضاء الجميل لا يكفي لكي يستقر تستقر فيه العباد كان رسالة واضحة في هذا الفيلم الذي استنجد أحيانا بجمل فجة ليوصل الرسالة كقول كحديث أم الفتاة قامت بالدور دليلة المفتاحي حيث تقول معلقة عن تأخر زواج ابنتها ” يا حسرة كيكانت رجال في البلاد ما بقى كان المعيز”
هذه الجملة كانت قاسية للكثير من الذين شاهدوا الفيلم رغم أنهم ضحكوا في البداية ولكن جملة متشائمة وقصووية والحق أن السؤال هنا يطرح ما جدوى هذا الفيلم إذا كانت البلاد لم يبق فيها أمل لأنه لا أمل في المعيز؟
الفيلم إلى الآن يحقق نجاحا جماهيريا وسخطا صحفيا ونقديا ولكن أعتقد أن الجمهور هو الأقوى وهو ما يطلبه المخرج ولكن ملاحظات من نحو اضطراب السيناريو واللهجة العامية التي لم يقع الاشتغال عليها والنهاية المبتورة ملاحظات جديرة بالسماع إلى جانب ما أشدنا به من مشهدية رائعة وإدارة ذكية للممثلين وأداء عال خاصة لظافر العابدين الذي بدا متألقا من مشهد الأول قبل الجينيرك والذي يظهر فيه متأثرا باكيا اقر فقدانه لعائلته.
أعتقد أن هناك عملية تلقي غير صحية من الصحافة التونسية للأفلام التونسية لأن الهجوم يكون عنيفا  في العادة ومن صحفيين هم أصلا غير مؤهلين للحديث عن السينما فيكون نقدهم انطباعي  وحتى الانطباعية لابد أن ترتكز على خلفية ثقافية تجعل للناقد الحق في أن يقدم انطباعاته لا أن تكون المنطلقات الجهل بالفن نفسه. البعض قال لماذا هذا الفيلم بمعنى أين قضاياه الكبرى وكأن السينمائي مطالب بطرح قضايا كبرى حتى يكون فيلمه كبيرا. بينما السينما التونسية محتاجة إلى طرح تفاصيلنا اليومية الصغيرة وإن كان الفيلم تطرّق إلى مسائل خطيرة كالعقلية المتخلّفة لبعض المهاجرين الذين يعيشون في الغرب بعقول رجعية لذلك يعودون إلى قراهم بحثا عن إناث عذراوات وتشكل العذرية إحدى أسئلة الفيلم وتناولها المخرج دون إطناب، وكانت الهجرة واحدة من مواضيع الفيلم والانتهازية واستغلال النفوذ والريف المهمّش من خلال حال العيادة المهملة والمفتقرة لأي مرافق.
نتوقع أن يحصد الفيلم جوائز في مستوى التصوير وفي الموسيقى التصويرية وربما يف أداء بعض الممثلين مثل ظافر العابدين.
ولكن المشهدية الرائعة التي رأيناها والتي شاهدنا مثيلا لها في فيلم نغم الناعورة يوما ما والشعرية العالية للصورة ألا يكون فلكلورا جديدا يدخلنا فيه معز كمون بديلا عن فلكلور المدينة العتيقة؟
سؤال آخر بقي يراودني منذ أن قرأت تصريحا للمخرج إلى جريدة البيان التونسية يسأله الصحفي عن وجود لقطات ساختة من عدمها فيرد المخرج ” لا ليس هناك مشاهد ساخنة ولا حتى قبل الفيلم نظيف ويتوجّه إلى كل العائلات” السؤال هنا “هل بقية السينما التونسية سينما وسخة وتتوجّه إلى أبناء الشوارع؟ أم أن حمّى المصطلحات المصرية طالت مشهدنا السينمائي؟ أم هذا الرأي منخرط في الصحوة الدينية في تونس؟ ثم ماذا نعني بالنظيفة لطفي العبدلي يصرخ  في وجه الفتاة معيّرا اياها بفقدان العذرية “ما ناخذش أنت مكسّرة حد ما هو مش ياخذك”. ومع ذلك فقد كانت القبل العميقة حاضرة في مشهد من المشاهد.
يشارك فيلم “آخر ديسمبر” في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الذي سينعقد من 30 نوفمبر إلى 9 ديسمبر 2010، كما تم اختيار هذا الفيلم الجديد ضمن الأفلام المتسابقة على الجائزة الكبرى لمهرجان بيروت السينمائي الدولي الذي سيلتئم ابتداء من 6 اكتوبر القادم.
فيلم آخر ديسمبر لمخرجه معز كمون  قصة وسيناريو المخرج وانتاج مؤسسته سندباد للانتاج سنة 2010  في 104 دقائق  35 ملم  كان تحت عنوان “شهرزاد” وغير اسمه لآخر ديسمبر  حتى لا يصير خلطا بينه وبين فيلم مصري ليسري نصر الله “احكي يا شهرزاد”.
للتذكير معز كمون سينمائي تونسي متخرج من المدرسة العليا للسينما والتمثيل بباريس (قسم إخراج)، بعد إنهاء دراسته عاد إلى تونس ليخوض مسيرة طويلة في مجال المساعدة في الإخراج. وهو يمتلك تجربة مهنية ثرية بحكم عمله كمساعد مخرج على امتداد أكثر من 20 سنة مع كبار المخرجين السينمائيين والمسرحين التونسيين و العالميين. 

وقد فاق رصيده في هذه التجربة الستين فيلما تونسيا و أجنبيا من بينها  مسرحية  « كلام الليل»   لتوفيق الجبالي – الأولى و الثانية –  ومجموعة من أفلام  للنوري بوزيد  – «ريح السد»   و « بزناس»  و«صفائح من ذهب»-  وفيلم  «حلفاوين» لفريد بوغدير و«المريض الأنقليزي» لأنطوني مانغيلا و«حرب النجوم» بجزأيه لجورج لوكاس و«السيدة بيترفلاي» لفريدريك ميتران و«بودي شانغي» لفلوراغومس و «ألقوا السلاح»   لرشيد بوشارب  كما شغل خطة مدير إنتاج لشريط «العيش في الجنة» لبورلام غاردجو.
 واخرج معز كمون عدة أشرطة قصيرة وهي «ربما ليلة»(1987) و«صوت النحاس» (1991) و«برج كاستيلو» (1995) و«كاتب عمومي (2001) إضافة إلى فيلم وثائقي بعنوان «مرحلة من التاريخ» (1998) .ويعد فيلم « آخر ديسمبر » ثاني فيلم سينمائي طويل له بعد فيلمه الأول « كلمة رجال» المقتبس عن رواية “بروموسبور” لحسن بن عثمان.


إعلان