“نانوك الشمال” و”ارض بلا خبز” ..وثائقيات مؤسسة
في الدراسات السينمائية المعاصرة ،وفي الدروس التي تقدم في كليات الفنون والسينما، لايمكن الحديث عن السينما الوثائقية دون التوقف عند مجموعة من الوثائقيات الكلاسيكية التي كان لها تأثير بالغ على هذا الصعيد وفي هذا المرور نختار ثلاثة أفلام سجلت كآثار لاتمحى في تاريخ الفيلم الوثائقي وهي : “نانوك الشمال”عام 1921 للمخرج الأمريكي روبرت فلاهرتي، “ارض بلا خبز” عام 1932 للإسباني لوئيس بونويل و “ليل و ضباب” عام 1955 للمخرج الفرنسي آلن رينه.
إن كان يمكن أن نطلق على فيلم قديم يعود تاريخيه إلى بدايات القرن العشرين (1921) بأنه فيلم وثائقي بالتعريف المعاصر فذلك سيكون من نصيب فيلم “نانوك الشمال” Nanook of the North للمخرج روبرت فلاهرتي ، الذي وثق بشكل ملفت لحياة مجموعات بشرية عاشت قبل اكثر من مئة عام ومن ذلك فيلمه هذا وفيلم آخر حمل عنوان “ماونا” عام 1926. ويعتبر “نانوك الشمال” فيلما وثائقيا روائيا . عاين فلاهرتي الذي كان عالم معادن في منطقة القطب الشمالي عن قرب حياة قبائل الأسكيمو الشاقة ، واستوقفت تلك الحياة إهتمامه الذي قاده لصناعة هذا الفيلم.
![]() |
فيلم “نانوك الشمال” Nanook of the North
قام فلاهرتي عام 1920 بالسفر و الإقامة مع إحدى عائلات الإسكيمو ، وكان في تلك الإثناء يقوم بتصوير الحياة اليومية لهم من خلال رجل يدعي نانوك ، وبعد 16 شهرا عاد فلاهرتي و في جعبته كم لايستهان به من الأفلام ، ومن بينها استطاع أن يخرج فيلم “نانوك الشمال” بمدة 75 دقيقة ، ولقي الفيلم عندما عرض توجه النقاد و المشاهدين على حد سواء. و كان من أسباب نجاحه غرابته في ذلك الوقت ودقة صنعه فقد كان أول فرصة يتعرف فيها عامة الناس على الإسكيمو و طريقة عيشهم.وفضلا عن فرادة موضوعه جاء الفيلم من الآثار التي يمكن القول عنها بأنها “منحصرة بفرد” من حيث الجاذبية، وبما حققه من نجاح كان “نانوك الشمال ” يفتح الباب واسعا أمام عرض أفلام وثائقية أخرى تصور حياة أقوام مختلفين يعيشون في أماكن قصية من الكرة الأرضية. وعلى صعيد الكلفة الإنتاجية جاءت الكلفة المتواضعة للفيلم لتشجع على إنتاج الأفلام الوثائقية و هو ما جعل شركة بارامونت (Paramont Pictures ) تقرر تمويل فيلم آخر على غرار “نانوك الشمال” .
بعد فيلم “نانوك ” إنطلق فلاهرتي ليصنع فيلمه “موانا” ، وتضمن الفيلم مسحة شاعرية و هو يروي الحياة اليومية لسكان جزرالبحيرات الجنوبية في ساموا، وتم هذا الفيلم بعد عشرين شهرا من العمل المتواصل . في هذا الفيلم أدخل فلاهرتي استخدام نيكتيف ال”بانكروماتيك ” الذي كان من الممكن مشاهدته بجميع الأطياف اللونية ،وكان منتجا حديثا في ذلك الحين. حاز هذا الفيلم على إعجاب النقاد لكنه لم يحظي بارحيب مماثل من قبل المشاهدين.واصل فلاهرتي صناعة أفلام وثائقية ، لكن هوليوودو بإدخالها لنظام الإستديو، وتدخلها المبالغ فيه في طريقة إنتاج الأفلام الوثائقية و سعيها المحموم لإنتاج أفلام تجارية أصابته بخيبة الأمل،ليهاجر بعده إلى المملكة المتحدة.
أرض بلا خبز..
![]() |
فيلم “أرض بلا خبز”
في 22 دقيقة قدم المخرج الإسباني لويس بونويل عام 1932فيلمه الوثائقي “ارض بلا خبز” ويحكي الفيلم قصة شعب “هوردانو” الفقير في سفوح الجبال التابعة لمنطقة انفصلت عن اسبانيا. يرد اسم هذا الفيلم وحيدا عندما يجري الحديث عن السينما الوثائقية الإسبانية ،لكن بونويل لديه الكثير من الأفلام الهامة ومنها أثره العظيم ذا النظرة السوريالية “الكلب الأندلسي” وفيلم آخر حمل عنوان “العصر الذهبي” إضافة إلى أفلام كوميدية.
يصور الفيلم صراع شعب “هوردانو” مع الطبيعة للبقاء على قيد الحياة ، بينما يحاصرهم الجوع و المرض و اليأس في محيط طبيعي قاس، لايقل قسوة عن ذلك الذي نراه في “نانوك الشمال ” ،لكن مع وجو د اختلاف و تفاوت لايمكن تجاهله ،فالطبيعة في “نانوك الشمال” وإن كانت قاسية و خشنة إلا أنها ليست عدوا للإنسان، والفرصة متاحة أمام نانوك و عائلته أن يجدوا قوتهم في قلب الطبيعة، أما في “ارض بلا خبز” فالطبيعة وحش عظيم ، وهي في ذات الوقت سبب الفجيعة وأبرز مظاهرها، لكن المجتمع أيضا مساهم في هذه الفجيعة.
في هذا الفيلم يتساوي كل من في هذا المجتمع في الشقاء وجميعهم يتحمل وزر هذه الفاجعة، وإن كان بونويل قد طرح مشكلة إجتماعية غير أنه أحجم عن تقديم حل لها. ونرى في الفيلم جوانب راديكالية ، تشبه تلك التي نجدها عند الفيلسوف الألماني فرديريك نيتشه، وهي راديكالية فلسفية وليست سياسية . يمكن القول ان بونويل يشترك بالفكر مع نيتشه ،فكلاهما يرى بضرورة تغيير المجتمع، لكن تغيير المجتمع لايتم مالم نتغير نحن، ونحن لانتغير مالم تتغير أفكارنا. يرى بونويل أن مشكلات كالإقطاع و تغول رأس المال لاتنتهي مالم يتم اقتلاع الجذور الفكرية التي تغذيها.
لاتكمن القضية في “ارض بلاخبز” في “هوردانو” فقط ، ولكنها مشكلة العالم أجمع من وجهة نظر بونويل ، إنها قضية “الأرض الخراب” أو “الأرض غير الموعودة” ، فأهالي هوردانو برغم الفقر و العوز ليسو أكثر بداوة من غيرهم من الشعوب . إنهم ممثلون و معرفون للبشرية ، فنحن كبشر نعيش في عالم “لاخبز فيه” من الناحية المادية و المعنوية، العالم المطرود من الرحمة الإلهية.
ليل وضباب..
![]() |
فيلم ليل وضباب
ورغم أن البعض يميل إلى القول بأن “ارض بلا خبز ” هو فيلم سياسي ، إلا أن الإمعان فيه كفكر يجعله في قائمة الأفلام الفلسفية ، لكن “ليل و ضباب” هو فيلم سياسي بإمتياز ، وهو الفيلم الوثائقي الذي أخرجه الفرنسي آلن رينه عام 1955 ، هذا فيلم فيه من الصخب ما يناقض الهدوء الذي كان يلف معسكر أشفيتش النازي بعد المحرقة .يوظف الفيلم بذكاء صورا ارشيفية للحرب العالمية الثانية لنشر حالة من التأمل و إعادة التفكير و الشعور بالذنب. بمدة 32 دقيقة وبالأبيض و الأسود يحدث رينه مشاهديه عن مصير السجناء في ذلك المعتقل الشهير، ويعمد إلى إلى طريقة مركزة و مختصرة ، لكنه يركز بشكل أكبر على طرح أسئلة ملحة حول المسؤولية الإنسانية أمام معاناة السجناء و عذابهم. وحصل الفيلم على الجائزة التي تحمل اسم جان فيغو عام عام 1955.ويصنف الكاتب فرانسوا تروفو “ليل و ضباب” بأنه من أكبر الأفلام التي عالجت موضوع الحرب ، وهو في الواقع فيلم ضد الحرب ينفر منها و يصور جحيمها. وجاء”ليل و ضباب” بداية إنطلق منها رينه ليخرج أفلاما مهمة أخرى مثل “هيروشيما ..معشوقتي” عام 1959 و “العام الماضي في مارين” عام 1969 و “المشيئة الإلهية “عام 1977.