” كوران” يضغط كلاسيكيّات السينما ويُخضعها للجراحة

ترجمة صلاح سرميني ـ باريس

لقد سنحت لي الفرصة باكتشاف السينما في فترةٍ ـ الستينيّات ـ كان من المُمكن الحصول على لمحةٍ مُركزة عن الفنّ السابع، كنتُ، على الأرجح، واحداً من آخر الأجيال التي استطاعت امتلاك تلك الرؤية العامة، أقول ” كان من المُمكن”، لأنه، عقدين، أو ثلاثة في وقتٍ لاحق، بلغ انتشار الأعمال السينمائية درجةً بحيث أنّ أيّ شخصٍ يريد الإحاطة بهذه الرؤية، سوف يُخاطر بدفن نفسه في كتلةٍ مُكتظة بالأفلام.
بوضوح، كان الأمر أكثر يُسراً عندما أصبحتُ هاوياً عنيداً للسينما، كانت السينمات الكبرى في العالم مقتصرةً على السينما الأمريكية، السوفيتية، الإيطالية، البريطانية، الفرنسية، اليابانية، وبعض السينمائييّن العباقرة المُنعزلين هنا، وهناك (دراير، بونويل، برغمان،..)، وبدءاً من الستينيّات، وبفضل اختراق الموجة الجديدة، وتقنية السينما المُباشرة، حصلت سينماتٍ جديدة على مكانٍ لها تحت الشمس: السينما الجديدة في البرازيل، وتمكنت سينماتٍ أخرى من الحصول على قطعةٍ في السماء الزرقاء: الواقعيات الجديدة في بلدان أوروبا الشرقية سابقاً (تشيكوسلوفاكيا، بولونيا، هنغاريا،….)، السينما الحرّة في إنكلترا، السينما الجديدة في كيبك،. …كانت تلك الرؤية المُركزة، والشاملة حقيقية دائماً، ولكن، مع بداية التسعينيّات، لاحظتُ ظاهرةً جديدة : هناك أعدادٌ أكثر فأكثر من هواة السينما لا يعرفون شيئاً، أو قليلاً، عن تاريخ السينما، ولسببٍ وجيه، تزايد عدد الأفلام المُنجزة في العالم بدون توقف، وأصبح من الصعب على مرّ السنين امتلاك تلك النظرة العامة، وأكثر من ذلك، مع الاختفاء المُبرمج لنوادي السينما، والمجلات المُتخصصة عن السينما، لم يعد الهاوي المُبتدئ يمتلك علاماتٍ كافية لتشكيل رؤيةٍ واضحة لتاريخ السينما.

من جهةٍ أخرى، يتضاعف عدد الأفلام المُنجزة في كلّ بلد (في فرنسا تخطى الإنتاج من 50 فيلماً عام 1940 إلى 100 عام 1950، وأكثر من 200 في التسعينياّت)، ومن جهةٍ ثانية، يزداد عدد السينمات في الصناعة المُزدهرة بطريقةٍ مثيرة للانتباه دافقاً كلّ عام آلاف الأفلام الإضافية في الأسواق، وهنا لا أتحدث عن المُمارسات السينمائية المُوازية للنظام السائد، حيث تتفجر بدورها: السينما التسجيلية، التجريبية، النضالية، المُؤسّساتية الإعلانية، العلمية، الإباحية،..وتُضاف بدورها إلى الأعداد المُتزايدة من الأفلام التي أغرقت الصالات التجارية، وأيضاً، بدون حسبان الأفلام التلفزيونية التي تتضاعف أرقامها باضطرادٍ بفعل تكاثر القنوات التلفزيونية.
وكانت المُحصلة بأن وجد هواة السينما في التسعينيّات أنفسهم غارقين في زحمة الإنتاج السينمائي، وأصبح من الصعوبة متابعة كلّ شيء.
في أكثر من مرة، كنت ألتقي بهاوٍ شابّ، وكانت تصيبني الدهشة عندما أكتشف بأنّ مُحاوري لا يعرف، أو قليلاً، أعمال عظماء السينما الصامتة مثل الأخوين لوميير، ميلييس، غريفيث، دراير، إيزنشتين، لوهربييه، آبستاين، غانس، كيتون، دفجنكو، فيرتوف، مورناو،.. والذين كانوا، بالنسبة لأبناء جيلي، القواعد الأساسية للسينما (وهنا لن أتحدث عن سينمائيين أقلّ شهرةً مثل أليس غوي، ليونس بيريه،جان دوران، لوي فويياد،…والتي لا تعني أسماءهم شيئاً بالنسبة لهم).
بعد ذلك فهمت، بأنّ فئة هواة السينما الذي أنتمي إليه كان في طريقه إلى الاختفاء، فإذا كنا في التسعينيّات لا نعرف الكلاسيكيّات، كيف يكون الحال إذاً في عام 2020، 2050، 2100 ؟ وأيّ علاجٍ يمكن تقديمه لإيقاف هذا النزيف.
وهكذا، خطرت في بالي فكرة إنشاء مفهوم يستطيع أن يمنح الرغبة باكتشاف بعض تحف الماضي المجهولة اليوم، كانت الفكرة بسيطة للغاية، ضغط أفلام من ساعة، ونصف إلى 3 دقائق بحيث يمكن مشاهدة الفيلم كاملاً بطريقةٍ سريعة بدون أن يفقد لقطة واحدة من العمل الأصلي.
في الستينيّات عمد النحاتان “سيزار”، “أرمان”، وآخرين إلى ضغط كلّ الأجسام، لماذا لا نضغط الأفلام إذاً ؟، بالتأكيد، كان أولئك الفنانين الموهوبين يضغطون أشياء للاستخدامات اليومية، سيارات، أو ساعات، بينما فكرت بالهجوم على الأعمال الفنية، ولكن، كان الفرق ضئيلاً، لأنّ فعل التقليص هنا يحظى بالأهمية قبل كلّ شيء.
وجاءت الفرصة للقيام بهذا العمل في عام 1995 فترة الاحتفالات بمئوية السينما التي تقاطعت مع ذكرى ثلاثين سنة ـ عام 1965 ـ على اختراع شريط السوبر 8 كوداك، و”لقاءات النوع الثامن” في مدينة “تور” الذي كان يُبرمج أفلاماً مُنجزة بهذه الشرائط (وقد استوحى عنوانه منها) طلب من بعض السينمائييّن المحترفين إخراج فيلم عن طريق هذا المقاس، ومع دهشتي الكبيرة، كنتُ الوحيد الذي استجاب إيجابياً لتلك الدعوة، وأنجزتُ وقتذاك تكريماً لعام 1965 بضغط فيلم شهير ظهر في ذلك العام، “ألفا فيل” لـ”جان لوك غودار”، وأطلقتُ عليه عنوان “ألفا فيل المضغوط”.

وبناءً على ردود الأفعال الإيجابية من طرف الجمهور، أكملتُ مشروعي بضغط فيلم “على آخر نفس” لـ “جان لوك غودار”، و”نياغارا” لـ”هنري هاتاواي” مع “مارلين مونرو”، وفيما بعد، في الألفية الثانية، واصلتُ ضغط أعمال عزيزة على نفسي : “نظرية” (بازوليني)، “موت ماريا ماليبران” (فرنر شروتر)، “الكشاف، والخلوّات السامية” (فيليب غاريل)، أفلام “غي ديبور”، ومنها “صرخات في صالح ساد” الذي أنجزه من صورٍ بالأبيض، والأسود، وأصبحت ومضاتٍ مع التسارع الذي أحدثه ضغط الفيلم.
“الاحتقار”، و”شيئان، أو ثلاثة  أعرفه عنها”(غودار)، “سايات نوفا” (بارداجانوف)، فيلم معروفٌ قليلاً “الألعاب”، وآخرٌ أقلّ “المغامرات الأرٍبعة لرينيت، وميرابيل”(وفيه مثلتُ فيه دوراً صغيراً) لـ “إيريك رومير”، حوالي 40 من أشرطة “الأخوين لوميير”، ومجموعة أفلام مثلتها “بريجيت باردو”(الحقيقة، عاشت ماريا، إلخ …).
***
فلنتحدث قليلاً عن الأسرار الصغيرةٌ في صنعها، كانت الأفلام المضغوطة الأولى، بالنسبة لي، طريقاً مليئاً بالعذابات التقنية، لأنني صورتُ صورةً، صورة (صورة واحدة في الثانية) الفيلم معروضاً على شاشة تلفزيون تسجليه مُسبقاً على شريط فيديو، وبعد سنوات، أضفتُ تحسيناتٍ على تلك الطريقة، وذلك بإدخال الفيلم المُراد ضغطه في الكمبيوتر، واستقطاع صورة واحدة من كلّ لقطة، ولصقها متتابعةً الواحدة بعد الأخرى، وعلى الرغم من السرعة التي حصلتُ عليها، كانت العملية تجريبية، ومُملّة.
من أجل الحصول على فيلم مضغوط مدته من 3 إلى 4 دقائق، يجب أن أضع بشكلٍ مُتعاقب من البداية إلى النهاية بين 4300(لفيلم مدته ساعة، ونصف)، و5500 صورة (لفيلم مدته ساعتين).
بالتأكيد، مع هذا الإيقاع يلزمني أكثر من حياةٍ لضغط التحف الأساسية في تاريخ السينما، أخيراً، خلال الألفية الثانية، وبفضل نظام تقنيّ للمونتاج وضعته في جهازي، برمجتُ الآلة كي تضغط الأفلام أوتوماتيكياً، وهكذا، بمُساعدة هذا النظام، استطعتُ ضغط حوالي 30 فيلماً، ومن المُقرر إجراء المزيد من ضغط الأفلام، سوف أنتهي منها في المُستقبل القريب.
من المُؤكد بأنّ الفكرة تُثير عدداً من التساؤلات:
ـ هل يمنح الفيلم المضغوط أهميةً للفيلم الأصلي، ويثير الرغبة بمُشاهدته ؟
ـ هل يحقّ لنا الاقتراب من أعمالٍ سينمائية سابقة، وأكثر من ذلك عندما تكون تحفاً سينمائية ؟
ـ هل بالإمكان إزالة الضغط، وإعادة الفيلم إلى شكله الأصلي ؟
أدعُ المتفرج يجيب عن السؤال الأول، لأنه، في الحقيقة، يتوّجه إليه مباشرةً، وهو الوحيد الذي يستطيع الإجابة عنه.

وبالنسبة للسؤال المُتعلق بحرمة العمل الفنيّ، هل يحقُ لنا، أم لا إضافة نظرة نقدية بتعديل عمل، وتحويله؟.
بإمكاني القول، بأنّ هذا الأمر قد تحقق سابقاً منذ الفنّ المُعاصر، دعونا نتذكر الشاربيّن اللذين وضعهما “مارسيل دوشا” على لوحة “الجيوكندا”، لم يكن أبداً هدف مُكتشف “الأعمال الجاهزة” الاستحواذ على لوحة “ليوناردو دافنشي”، ولكن، بدءاً من عملٍ سابق، إنجاز إبداع آخر، ابتكاراً جمالياً، عملاً جديداً يختلف تماماً عن الأصل.
فيما يخصّ السؤال الثالث، نعم، من المُمكن إزالة الضغط عن فيلم مضغوط، وإعادته إلى حالته الأولية، في لحظة عملية الضغط، يفقدُ الفيلم 96 بالمائة من صوره، ومع الـ 4 بالمائة الباقية، يستطيع الكمبيوتر إعادة تشكيل الفيلم بكامله، حيث تتضاعف كلّ صورة 25 مرة(في الكمبيوتر نعمل وُفق 25 صورة في الثانية مع أنّ الفيلم يتمّ تصويره بنظام 24 صورة في الثانية)، وكلّ واحدة تذوب في الصورة السابقة، واللاحقة، بحيث يتمّ بناء الفيلم عن طريق سلسلةٍ من التلاشي، والظهور المتواصليّن، لقد أقدمتُ على هذه التجربة مع فيلمين “على آخر نفس”، و”شيئان، أو ثلاثة أعرفها عنها” لـ”جان لوك غودار”، وأصبحا بعد هذه العملية المُزدوجة، ضغط/ إزالة ضغط :”كتلة “(À bloc)، و”مشيّ”(Déambulation)، كانت النتيجة مُذهلة،
وإذا تحدثتُ عن “على آخر نفس” كمثال ـ الذي أصبح (À bloc) ـ ندرك بأنّ الفيلم عانى من صدمةٍ إيقاعية، وأُعيد النظر بشكلٍ كامل في حركته، وبنائها، وتكوينها، لقد امتلك الفيلم معنى جديداً، وتراجعت الحبكة البوليسية إلى المستوى الثاني، العملية الجراحية التي أُجريت طبعت فيلم “غودار” إيقاعاً موسيقياً، ومنحت الثنائيّ”بولموندو/ سيبيرغ” أسلوباً راقصاً، ودائرياً.
في نهاية المطاف، نهتم أكثر بحركات شخصياتٍ تتحرك في المكان، وقصة حبّ “ميشيل بواكار” مع “باتريسيا”، أكثر من قصةٍ بوليسية مألوفة تماماً. 

هامش:
النصّ من كتابة السينمائيّ الفرنسيّ “جيرار كوران”، وتمّت ترجمته بمعرفته، وموافقته الشخصية.
لمعرفة المزيد عن “الأفلام المضغوطة” يمكن قراءة :
“جيرار كوران” يصنعُ أفلاماً مضغوطة، صلاح سرميني، موقع الجزيرة الوثائقية، الأحد 12 سبتمبر 2010
http://doc.aljazeera.net/followup/2010/09/201091293254474532.html


إعلان