أبواق الدعاية: السينما ليست نوعا طاهرا

 فجر يعقوب

يقول أحدهم :” عندما نشاهد أفلام اليوم نشعر وكأننا في حفل تسوق “. يبدو الكلام مقدمة ذهبية للحديث عن برنامج ( ماوراء الشاشة : أبواق الدعاية ) الذي بثته مؤخرا محطة الجزيرة الوثائقية . يكشف البرنامج عن لحظات مهمة في تاريخ صناعة الأفلام الأميركية . ربما لاينتبه لها المشاهد العادي الذي أدمن مشاهدة هذه الأفلام ، ومن المؤكد أن هذا الكشف يضع في مجال الرؤية ، وبشكل مكثف المعنى القائل بأنه ” مامن لحظة في هووليود لم تكن مرتبطة بالتجارة ، منذ أديسون وحتى يومنا هذا “. السينما كما يؤكد عالم اجتماع أميركي مشارك في البرنامج ” ليست نوعا طاهرا ، فلقد حدث تحول نوعي في الأفلام ، فالبيع والتسويق تغلغل في مسامات الثقافة ، وأصبحت الأفلام مثالية للتسويق “. في الخمسينيات كانت إحدى الشركات مثلا تقوم برشوة النجوم والنجمات للتركيز على خواتم الخطوبة في أفلام هووليود  ، الأمر الذي كان يؤدي بالطبع إلى مبيعات أكبر لهذه الخواتم بين المقدمين على الزواج . لقد كان يجري بالفعل صفقات بين المعلنين وبين المنتجين ، لدرجة أن الشركات كانت تفخر بدورها بأنها تراقب نصوص هووليود .

حرب النجوم

ثمة مثال ساطع حول مبيعات ذلك المسدس الحربي من إحدى الماركات بعد ظهوره في فيلم ( هاري القذر ) واستعماله من قبل كلينت ايستوود فقد ارتفعت مبيعاته بشكل لا يصدق ، وهذا دفع بالشركات لاستخدام الأفلام بغية تسويق منتجاتها ، وأصبح المعلنون يبحثون دائما عن بيئة حاضنة لجمهور لا يعمل على ” تغيير المحطة ” ، وبدا أن المنتجون راضون تماما لأنهم يحصلون على المال اللازم من أجل صناعة أفلامهم . وهكذا أخذ تسويق الفيلم كمنتج يدفع بالمنتجين لعرض منتجات تجارية في خلفيات مشاهد كثيرة  ، وإضافة حوارات في النص ، وهو ما سمي من قبل أستاذة في علم الاجتماع ب ” تركيبة الفخامة ” ، وهي لقطة للنجم يستسيغ فيها المنتج . وهكذا أصبحت الأفلام السينمائية هي دعائم الإعلانات الرئيسية ، ومعها لم يعد مفاجئا مشاهدة مجموعات من الرجال وهم يحتسون شراب بيبسي كولا ، ويقومون بإظهار الكؤوس أمام الكاميرات ، وهي أساسا تحمل شعارات لافتة لأنظار الجميع . وقد قامت شركة كوكاكولا بشراء شركة كولومبيا بكتشرز قبل ثمانية عقود ، وأخذت تضّمن أفلامها دعايات مكثفة عن مشروباتها الغازية ، وهو الأمر الذي لم يعد عديم المغزى ، فهو جلي وواضح يتمثل بصناعة إعلان مجاني عن منتج . في فيلم ( المفقود ) مثلا سوف نشهد على حرب المياه الغازية بين بيبسي كولا ، وكوكا كولا ، فقد أخذنا نرى الأشرار التشيليين ، أتباع الديكتاتور بينوشيت يحتسون المشروب الأول ، فيما يشرب الأميركيون الأخيار الشراب الثاني .وهكذا صرنا نشهد على منتج تجاري يزعم بأنه يحكي عن مشروب في خمسينيات القرن الماضي ، بما يوحي بأنه كان موجودا في ذلك الوقت ، أو في فيلم مستقبلي ، وكأن المشروب سيبقى للأبد . وشاع تقليد سينمائي يقضي بالسخرية من المنتجات التجارية ، وهو الأمر الذي كان يزيد من حجم مبيعاتها كما في فيلم ( برنامج ترومان ) ، فقد لحظ علماء الاجتماع وجود إعلانات ساخرة لعبت دور مصفاة  الدخان لأن الفيلم يؤدي دور إعلان مدفوع . يقول مواطنون إنه من الواقعية أن تظهر المنتجات على الشاشة ، ولكن الفرق شاسع بين العالم الذي نعيش فيه ، والعالم الذي يقبع في الأفلام ، فهو يظهر الإعلانات جيدة ، علما أنها غير ذلك ، وهكذا غدت المنتجات تشكل النواة العاطفية للأفلام ، كأن يسترد أعمى بصره ، وأول شيء تقع عليه عيناه هو علبة كوكاكولا .
 في فيلم ( لديك رسالة ) يصبح موضوعه سلسلة مقاهي ستار باكس ، ولا يعود الموضوع قصة الحب ، بل خدمات الشركة ، اذ يصبح صعبا من بعدها أن تتخيلوا حياتكم من دون هذه المقاهي . أفلام أشبه بتحف من عصور سحيقة ، وإذا ما كانت الدراما وسرعة الأحداث عناصر غير كافية ، فهذا يعني أن الفيلم غير مجد .

صنع الأفلام للمسوقين
قبل 40 عاما ظهر فيلم ( فطور في مطعم تيفاني ) . الغريب يومها أن مطعم تيفاني لم يستفد شيئا من الفيلم ، بعكس أفلام اليوم التي يتداخل معها ما يمكن تسميته ( التسويق الضمني ) . ففي فيلم ( فرقة الموضة ) يقوم نجوم الفيلم بارتداء ملابس levis  ، وفيلم ( الغد لايزول أبدا ) تناول سياسة التسويق الضمني بشكل شبه كامل . وقد أصبح الهدف هو جني الأرباح ، ولا يبقى الفيلم هنا مجرد فيلم ، فهو يشمل تسويق الكتاب والرسوم الهزلية والأسطوانات الموسيقية والملابس ، وبحسب التعبير الهوليوودي الشائع ، فإن الشخصيات ترغب في التحول إلى دمى . هكذا تبددت الحدود بين الجانب الإبداعي ، والجانب التسويقي ، وأصبحت ( جوراسيك بارك ) مثلا مملكة سحرية في عالم التشويق .في فيلم ( حرب النجوم – تهديد الشبح ) الذي تكّلف تصويره 115 مليون دولار ، كان القائمون عليه قد أبرموا عقودا تجارية من حوله بقيمة 3,5 مليار دولار ، ومعه لم يعد مهما للفيلم أن يحقق رصيدا لشباك التذاكر ، فالمهم ” بيع  البضائع المحشوة في الفيلم”. في هوليوود لا يهتمون بصنع أفضل الأفلام ، بل بعقد الصفقات . جورج لوكاس صاحب الفيلم يضحك ويؤكد على ذلك بقوله إنه كلام منصف .

جوراسيك بارك                                                       الاسد الملك                       

                    
اختطاف الأفلام
عمليات البيع الجديدة للأفلام في هوليوود أصبحت تأخذ منحى جديدا اثر عمليات دمج الشركات الكبرى ، فأي شركة ضخمة هناك من الضروري أن تمتلك شبكة تلفزيونية ، وأسهم في الكابلات، وأصول لمنافسة شركات الإعلان الضخمة . و قد اكتشفت الشركات أنه يمكنها أن تربح أكثر إذا ما تكتلت . وشركة ديزني أفضل مثال للحديث عن التآزر ” فأنت تفكر في إنتاج الفيلم ونوعية البضائع التي ترافقه ، ونوعية مدينة الملاهي “. فيلم ( الأسد – الملك ) 1994 ، اعتبر حينها من أعظم أفلام الرسوم المتحركة في تاريخ هوليوود . شركة ديزني ربحت مليار دولار صافيا من خلال إنتاج برنامج تلفزيوني للمحطة ، وتصميم جولات في مدن الملاهي الأوروبية ، ناهيك عن وجود مئات المنتجات المستوحاة من الفيلم .
مايكل ايزنر أحد مسؤولي ديزني يلخص كل ما سبق بقوله :” لسنا مجبرين على دخول التاريخ … هدفنا جني المال فقط “.


إعلان