الأرجنتيني سيزار: الآذان هز كياني.. فأخرجت فيلما

بابلو سيزار (Paplo César) مخرج أرجنتيني يعمل باستمرار على أن يكون حلقة وصل بين شعوب الجنوب ليكشف تنوع إرثها الثقافي وليكسر الطوق المنمّط لأساليب الإنتاج السينمائي على شاكلة النموذج الهوليودي. سعى إلى تنويع إنتاجه المشترك مع بلدان إفريقيا وآسيا منتصرا إلى السينما المقاومة المنفتحة على قضايا الإنسان وهمومه. أخرج تسعة أفلام طويلة ونحو عشرين فيلما قصيرا ودرّس الإخراج السينمائي بالجامعة الأرجنتينيّة وأشراف فيها على ندوة سينما المؤلف.
التقته الجزيرة الوثائقيّة وكان لها معه الحوار التالي

* مسيرتك ثريّة بصفتك كاتبا ومخرجا مبدعا وبصفتك مدرّسا للفنّ السينمائي.. مما يصعب علينا تقديمك للقراء..
 لقد بدأت تجربتي منذ زمن بعيد، في فضاء خاص سمته الأولى الحوار والنقاش والمطالعة. ولكن على المستوى العام كانت رغبتنا في التعبير تصطدم بقمع الحكم الديكتاتوري المهيمن على الأرجنتين وقتها. فكان الفن السينمائي ملاذي الذي منحني هامشا من الحريّة. وفي سن العشرين أنجزت أول أفلامي الطويلة: وجوه المرآةDes visages du miroir 1982.
سنة 1989 دعيت إلى مهرجان قليبية الدولي لفيلم الهواة فكان لقائي الأول بإفريقيا والعرب والمسلمين، أذكر وقتها أنّ الآذان قد هزّ كياني فحفظته وقرأت القرآن بالإسبانيّة والعربيّة لاحقا وبفضل هذه الأفق الروحية الجديدة التي انبثقت أمامي وبالاشتراك مع الجامعة التونسيّة للسينمائيين الهواة أنجزت فيلم حديقة الورود “Equinoxe : Le jardin des roses وفيه أدرجت شيئا من سورة التكوير. والآن حينما أتأمل مسيرتي أستطيع أن أجزم أن هذه التجربة منحتني بعدا روحيا عميقا ورغبة في اكتشاف الآخر ممثلا في ثقافته وأفكاره  للتعبير عنه سينمائيّا.

* إذن هذا ما جعلك تختصّ لاحقا في الإنتاج المشترك وفي الأفلام ذات التمويل المحدود؟
نعم هذا صحيح بكل تأكيد فضلا عن رغبتي في اكتشاف الآخر. فالمتفرج في الأرجنتين مثلا يتوق إلى أن يكتشف السينما في إفريقيا والعالم العربي وعموما يريد سينما تخترق النّمط الهوليودي الاستهلاكي الآسر. وهذا ما أكرس أفلامي له، أنا أحاول أن أفتح الأبواب على الجانب المضيء في ثقافات الآخر وأن أمنح المتفرّج صورة مختلفة عن بلدان لا يرى منها في وسائل الإعلام غير الكوارث والحروب والجفاف وخطر أسلحة الدمار الشامل.
رسالتي أنّ قيم الخير والجمال شاملة لكل الحضارات الإنسانيّة ولا يمكن اختزالها في النمط الغربي. ومن ثمة كان إخراجي لحديقة الغلال سنة 1996 بالاشتراك مع الهند Unicorne Le jardin des fruits وحديقة العطور سنة 1998 بالاشتراك مع مالي Aphrodite :Le jardin des parfums أما آخر أعمالي فيتمثل في فيلم Orillas أخرجته هذه السنة بالاشتراك مع البنين. كما صورت مع شعوب الكوالي وهم مسلمون يعيشون على الحدود الهندية الباكستانيّة جعلت حياتهم البدويّة البعض يعتقد بأنهم غجر.

 

بابلو سيزار أثناء تصوير فيلم ( Orillas) بالبنين

ورغم أن معرفتي بالسينما العربيّة تظل محدودة. فقد شاهدت حلفاوين للتونسي فريد بوغدير وأعرف سينما الجزائري الأصل مهدي الشريف وشاهدت أفلاما عربية أخرى هنا أو هناك. وتواصلت مع الجالية العربيّة والإسلامية في بوينس آيرس التي قدّمت لي  مراكزها الثقافيّة مساعدة قيّمة في إنتاج فيلم “حديقة الورود” وفي مزيد التعرف على تونس حينئذ.
* لنتحدث عن السينما الأرجنتينيّة هي تنتج الآن من سبعين إلى ثمانين فيلما طويلا في السنة وتعدّ الأفلام القصيرة بالمئات. ألا تدفعنا هذه الأرقام إلى الاعتقاد بكونها تشهد نهضة مستعادة بعد أن كانت محظورة على أيام الحكم الدكتاتوري؟.
 في بلادنا نحظى بالدعم من المعهد الوطني للسينما والفنون السّمعيّة البصريّة (الذي يستقي موارده من آداءات موظفة على شبكات التلفزيون والإشهار لا من المال الوطني) ممّا أفضى إلى غزارة في الإنتاج وارتفاع في الأرقام بالنتيجة. وبدافع من هذه القنوات التي تحتاج مادة سينمائيّة أصبح الوثائقي اختيارا يكشف غياب العدالة في المجتمع أو الاستغلال المفرط للطبيعة وما يخلّف التلوث من أمراض. ولكننا مع ذلك نظلّ نفتقد إلى الحركيّة والعمق اللذيْن ميّزا سينما الستينيات. وبعض الأفلام المحليّة تعرض فلا يتجاوز عدد متفرّجيها الألفين.
إننا نرى اليوم ملايين المواطنين يعيشون الفقر المدقع دون أن نكون قادرين على أن نقدّم لهم شيئا لأن الوجه الآخر للسينما هو المال والتجارة ولكي تشاهد فيلما لابدّ أن تحدوك الرغبة في دفع ثمن مقابل الدخول. ولا سبيل إلى ذلك أمام  نسق (le système) ينتج شبابا يبحث عن سينما الإثارة والمتعة ولا يهتم كثيرا بالسينما الملتزمة بمشاغل المجتمع. لقد دخلت السينما عندنا بداية من التسعينات، مع التوجه اللّيبرالي لحكم كارلوس منعم، في كل ما هو سطحي وساذج. كيف تستفيد السينما من نظام سياسي يجيب رئيسه حينما يُسأل إن كان في الأرجنتين سود بأن “ليس لدينا سود في بلادنا، هذا المشكل يوجد في البرازيل” كما لو أنّ وجود السود في حد ذاته يمثّل مشكلة؟

سيزار أثناء تصوير أحد أفلامه 

وبالمقابل لا يجب أن تتركنا هذه العوامل المحبطة مكتوفي الأيادي. وكما لهذا النسق العالمي نقاط قوة تعمل على تسطيح الفكر، له أيضا نقاط ضعفه: إنها الإنترنت بكل تأكيد فمن خلالها يمكننا أن نبلغ للناس ما يحدث حولهم ونقطع الطريق على من يريد أن يسوقهم كما القطيع. 
 
*  باعتبارك احد رموز سينما المؤلف إبداعا وتدريسا: كيف تحكم على اعتقاد البعض أن هذا النمط السينمائي قد وقع أسير شكلانيّته وأنه أضحى يتغافل كليّا عن مشاغل لليومي ليخوض في الحياة الباطنة لمخرجه وليعرض أحلامه وهلوساته.
ما أقدمه لا علاقة له إطلاقا بهذه السينما الأنانيّة التي قد تظهر هنا أو هناك. سينما المؤلف عندي هي البحث سينمائيا عن طرائق مختلفة للتعبير تجعلنا ندرك ما يوجد حولنا ولا ننتبه إليه بفعل تأثير أنساق فكريّة تعمي وتُصمّ. إنها سينما تقطع مع الأكاذيب التي تطوقنا: أين أنفلونزا (H1N1) الآن؟ سينما المؤلف في اعتقادي هي التي تكشف تلاعب المؤسسات الاقتصادية، ومن يقف خلفها من المتنفذين، بالرأي العام الدولي لتحويل حبنا للحياة إلى حقن وأمصال تباع في الصيدليات. خذ لك مثلا الفيلم الوثائقي (zeitgeist) الذي يتضمن شهادات بأن تفجيرات 11 سبتمبر2001  قد حدثت قبل انهيار برجين التجارة العالميين فيقاوم هذه الأنساق ويكشف زيفها. هذا مثال جيّد لسينما المؤلف ورغم أنه ممنوع من العرض للعموم إلا أنه يحقق أرقاما خياليّة لعدد مشاهديه عبر الإنترنت. في كلمة سينما المؤلف عندي هي أن نتمسك بحريّة التعبير وأصالة الصورة السينمائيّة بعيدا عن القواعد المحنّطة.
 
* فيلم (ZEITGEIST) نموذج لسينما مقاومة تفضح التلاعب بالرأي العام الدولي  أمام الصعوبات التي يواجهها سينمائيو  الجنوب إنتاجا وتوزيعا أضحى الكثير منهم يعتقد أنّنا دخلنا زمن الوثائقي وأن زمن الفيلم التخييلي إلى زوال.
لست بهذا القدر من التشاؤم. القنوات المهيمنة على المشهد الإعلامي لا تبثّ الوثائقيّ فحسب. هل تعلم أن نيجيريا تنتج أكثر من 400 فيلم في السنة تتوزع بين وثائقي وتخييلي؟ وأن أغلبها يروج في شكل أقراص على قارعة الطريق؟ إذن فحظ التخييلي ما زال قائما هناك رغم أنها لا تصل إلى المتفرّج الغربي. صحيح أن طريق هذا الجنس السينمائي أصعب. ولكن ذلك قدره وعليه أن يسير فيه إلى النهاية. عندما أنجزت فيلما عن تونس وجدت معارضة شديدة من قبل الذين لم يستسيغوا فكرة أن يكون ممثلو فيلم أرجنتيني وتقنيوه تونسيين ولكننا قاومنا وأنجزنا ما نريد وأسسنا لنمط جديد من الإنتاج المشترك.

* مع ثورة علوم وتقنيات السمعي البصري نشأ تصنيف سينمائي جديد بات يصطلح عليه بسينما المدارس وهي تلك التي ينجزها الطلبة في مشاريع تخرّجهم. وباعتبارك أحد المؤطرين لهذه السينما هل لك أن تحدثنا عن المعادلة بين امتلاك التقنية وتوظيفها إبداعيّا؟
التقنية في السينما على قدر كبير من الأهميّة. إنها وسيلة للعمل نتعلمها في المدارس أو الورشات. ولكننا لا نتعلّم، مدرسيّا، كيف نكون فنّانين. فالجانب الباطني والروحي من المبدع رهين خياله ومشاعره وقدرته على الابتكار. خاصّة في عالم السينما والموسيقى. أنا أوكل للفنّ مهمّة إخراج المشاعر العميقة من أجل خلق الحيرة وتوليد القلق في الإنسان. والتقنيّة عنصر مساعد لتجسيد هذه المهمّة ولكنها تبقى عاجزة على خلقها دون موهبة وقدرة على الابتكار توجّهانها.


إعلان