حبل الغسيل… وثائقي في مهب الحصار

عندما يجتاح جيش مدجج بأعتى الأسلحة وأقواها، مدينة عزلاء، تضيق الدوائر، حتى تكاد تنغلق. تفرغ المدينة من مارّتها، وتنغلق أبواب البيوت ونوافذها، ويعشعش الفراغ في المكان، وتنزوي الأرواح في ظلمات أركان بعيدة، باحثة عن شيء من الأمن والأمان، مستسلمة لعجزها، وقلة حيلتها.
تغدو مدينة “رام الله” مستباحة، والدبابات تطلق صرير جنازيرها، تلوك الطرقات، وتقضم الأرصفة.. تدمّر كل ما يمكن أن تطاله حافاتها القاسية، وسبطاناتها الوقحة. لن يبقى في الشوارع سوى القطط والكلاب الشاردة، وجند الاحتلال.
عن زمن الاجتياح والحصار، وعن عوالم الخوف والقلق والعزلة، لامرأة مفردة في بيتها، تصنع المخرجة علياء أرصغلي فيلمها «حبل الغسيل»، عام 2006، وثائقي مدته 14 دقيقة. حيث ثمة أشياء كثيرة يقولها الفيلم، وأشياء أكثر تبقى متوارية، لن تتعثر في طريق الوصول إلى نباهة المشاهد، الذي سيدرك حتماً أن ثمة ما هو أبعد مما يراه على الشاشة، من تفاصيل، ومن نزف قلق للروح المحاصرة، المتعبة، متروكة نهباً فيما بين الشك واليقين.
مع امرأة وحيدة معزولة في بيتها، وعلى ضوء شمعة ذابل، نمضي وقتاً هو مآل عمر كامل، انتهى بعد شوط الزمن إلى هذه اللحظة الأسيرة لكل ما يمض الروح ويوجعها، ويثير نكبتها مرة أخرى ومن جديد.

هل يصلح البيت مكاناً للاختباء؟.. أي أمان يمكن أن يوفره البيت، وهو مشرع للرصاصات والقذائف، القادرة على نبش أحشائه في طرفة عين، ونثرها ركاماً وحطاماً من موت ودمار؟..
لن نعرف من هي هذه المرأة؟.. أهي المخرجة ذاتها؟.. أم هي موضوعها؟.. لا فرق فالمرأة الفلسطينية تعيش هذه اللحظات التي لا يمكن أن تكون عادية وطبيعية.. في مثل هذه اللحظات تتغير معاني الأشياء ودلالاتها.. يتغير ما بداخل البيت، تماماً كما يتغير ما بخارجه، في تشابك جدلي عجيب. حتى رشفة الماء المتبقية في قعر القنينة ستأخذ معنى آخر. ركوة القهوة، وبقايا الطعام.. افتراش الأرض، والنوم في ركن خوف بات البيت ينزفه من جدرانه، قبل أن يأتي من الشوارع والعندما يجتاح جيش مدجج بأعتى الأسلحة وأقواها، مدينة عزلاء، تضيق الدوائر، حتى تكاد تنغلق. تفرغ المدينة من مارّتها، طرقات والساحات التي أقفرت على جند ودبابات وموت.
تطل المرأة متلصصة، خلسة، من طرف ستارة نافذتها. فيأتيها ما يعزز الوحشة والعزلة والحصار. الخواء يعمر المكان، والظلام يشيعه، ولا صوت إلا لإطلاق رصاص، وقصف قذائف، وصدى يتردد في فضاء المدينة التي لم تعد هي التي كانت قبل الاجتياح والحصار.
ستنتبه المرأة إلى أن حبل الغسيل، وحد بقي خارجاً. كأنما في غفلة منها. بينها وحبل الغسيل، على شرفة البيت، خطوات قليلة باتت مستحيلة العبور. دونها الموت. وحبل الغسيل يحول الثياب المعلقة عليه، راياتٍ تعلن الحياة التي كانت، ويشهر ملاقطه شارات نصر، فهو وحده الذي بات قادراً على المضي في السهر على شرفة البيت، مطلاً على المكان. وهو وحده الذي سيستيقظ مع المرأة في الصباح. تنظر إليه، وينظر إليها، ويتحاوران دونما كلام.
حبل الغسيل مشرّع للصباح، للهواء، والمساء.. والمرأة الفلسطينية مرهونة للخوف، والظلمة، والتلصص من خلف طرف الستارة. ليس لها إلا أن تفتش في أوراقها القديمة، أرقام هواتفها، تعابث قطع نقودها.. تكتب رسالة: تعاتب. تلوم. تتساءل. تنوس بين الشك واليقين. وتقرر في النهاية: «لم أهزم.. لست خائفة.. لن انطفئ»..
تكتب الرسالة كأنما لنفسها، لتستمد القوة. لن نعرف فيما إذا كانت تكتب لرجل غاب، وتركها وحيدة.. أم تكتب ليومها، لغدها، لمستقبل غامض تركها في عراء البيت هذا. قعيدة على الأرض، وفي الفراش.. تتحرك في ظلمة المكان.. وظلمة ما ينتظرها..
تتعالى أصوات الطلقات، ويبقى «حبل الغسيل» في مهب الحصار.


إعلان