رأي : من واقع السينما التونسية إلى سينما الواقع

أنور المبروكي *

ما معنى أن يكون لشعب ما سينما خارج تداعيات المعنى..؟
 نسمع أصواتا خجولة تطالب بتقويض المشاريع التي تجعل من السينما التونسية اليوم فناً بدون جمهور أو “عنكبوت بدون شباك”. لإن مجرد تفكيرنا في حالة السينما التونسية اليوم يجعل منا جمهوراً يتيماً متسكعاً أمام أبواب قاعات السينما العالمية بحثاً عن صورة أكثر جدية من تلك الموسيقى الأنثوية التي مللناها منذ عقود .
وخذ مثلا السينما الوثائقية فوضعها المزري – إلا ما ندر- في بلاد ابن خلدون صاحب الوثائق والتوثيق يعد اليوم بحثا جريئاً في جيوب غالبية مخرجينا ذوي العملات الأجنبية. ذلك لأن القدرة على تصريف الدينار السينمائي التونسي اليوم أصبح صعباً داخل هذا الأسطول الفني الممتد. لقد أصبحت السينما التونسية اليوم سوقاً صورياً قتلت فيه الصورة والعبارة، بمعنى لم يعد للمتفرج التونسي موضوعا يعنيه سوى تلك الرقصات الإشهارية الانثوية ذات اللهجات الجهوية المتسكعة تحت ضل الفن البريء.
إن معنى الجمال في السينما  التونسية اليوم قد قتل فينا تلك الرغبة الملحة على البحث حتى في معنى القبح، مجموعة من الصور المتناثرة ذات البيان الإيروسي المتقوقع داخل زورق يريد الهجرة السرية بأية حال.

لقد حجبت عنا الأفلام نور السينما الصحراوية الحرة، تلك التي عودنا بها ناصر خمير،  فأطفأت عنا مصباح المعنى داخل عالم تبنى فيه القيمة كرباط  ساحلي يحرس أسماك الليل من السطو الأجنبي الذي أصبح تكويناً مستمراً للكثير من مخرجينا اليوم. إن حالة التهميش الغريزي للفيلم الوثائقي التونسي كإنتاج غير مرغوب فيه لهو جريمة فنية تقتل فيه، استيطيقا الصورة الجنسية ارستقراطيات المعنى والواقع ، ذلك أن الجسد العاري مكسو بالأوراق النقدية محمي بالأنضار أكثر من ذلك المتستر العنيد فاقد الدينار .
لقد أصبح جمهور سينما المعنى الجميل مشتاق اليوم إلى النظر بأعين أكثر واقعية إلى الأرض بحثاً عن لقطة حقيقية تواسيه، تؤنسه وتتونسه. لابد من الاعتراف حقيقةً بأن ضعف الإنتاج والمنتج السينمائي التونسي اليوم لهو اعتراف حقيقي بضعف النص السينمائي (السيناريو)، فكيف تبنى البنى بدون هندسة التصميم ؟ لقد طغى عالم الصورة الإيروسية على هذه السينما فهجر فينا معنى النظر بأعين بدوية. إنه قتل صريح لمعنى البداوة داخلنا، وإلا ما قيمة أن يجهل أغلبية التونسيين اليوم سينمائيهم.
لو سألنا 90 % من التونسيين اليوم  عن واحد من الأفلام  التي يعرفونها أو سمعوا عنها لمخرجين بلدهم  لقالوا لك فوراً   -عصفور سطح- أو -صيف حلق الوادي. طبعاً تلك هي حصيلة الثقافة الجنسية السينمائية التي تركها فينا بعض المخرجين التونسيين مستثمري السينما الأجنبية المتوغلة في حمّاماتنا ذات الفسيفساء الأندلسية الصامدة.

عصفور السطح” الفيلم الأكثر مثارا للجدل في تاريخ السينما التونسية

فما قيمة السينما إذا كان السيناريو فيها مبنياً بناءً تغريبياً، مصرفياً، مادياً يشترى فيه الموضوع ذو الماركة الأجنبية المسجلة، فتنصرف فيه الرؤية النقدية انصرافا جنينيا غاضباً حتى من الحديث عن هذا النوع من الأفلام. طبعاً إن حديثنا عن الفيلم التونسي الكفيف اليوم لا يعني أن هذا النوع من التجارة المعاصرة مربحة دائماً لكل رواد هذا السوق، فهناك أيضاً  الكثير من أولئك الذين يضاربون في بورصة القيمة النقدية ذات النفاذ المبكر والنفوذ الغائب، هؤلاء أيضاً يبحثون عن جمهور تائه داخل هذا الزحام المشهدي المنبت.
إن حال الفيلم التونسي اليوم لدليل على حال جمهوره الذي سئم الانتظار وراء هذه الصورة القاتمة لبلد الحضارات الخمسة التي نهشتها مكواة الإخراج السينمائي المتقوقع في “الغربنة” والتهميش ، وإلا مع هذا الهجر الشعبي لدور السينما التونسية ؟ أهو الحب المفرط حد جنون الهجر والتيه للبحث عن بقية الفنون الست، أم هو طلاق كاثوليكي بالتثليث لهذا الروتين السينمائي حاجب الصورة والصوت عن جمهور قرطاج حضارة الحضارات
  أنور المبروكي
   لابد من نص سينمائي جديد، لابد من معنى لهذا الفن السابع الذي نحن معنيون بالبحث في معناه كي لا تقتلنا الحقيقة. إن تلك الحقيقة وذلك الواقع الموجود الغائب داخل الفيلم التونسي يجعل من جمهوره مجهولا لقيطا بين الجماهير السينمائية الأخرى، يتسكع على موائد الاستطيقا أينما كانت.

نقول مع باشلار “ما أجمل أن نستفيق يوماً على تاريخ أخطائنا”، فما أجمل أن يكون للسينما التونسية واقع حقيقي فنتحدث إذاً عن سينما الواقع عوضا عن واقع السينما المرير. إن هذا الحضور الحذر لما تبقى من النفر القليل من متتبعي السينما التونسية، لهو نتاج مباشر لأفلام على نحو -الداوحة – و -الستار الأحمر – و – فاطمة -… وكأنناً نحيا ونموت على هذه الأنوثة المغتالة التي جعلت من السينما التونسية سينما المرأة الثائرة الماجنة المنغمسة في بورصة الجسد الإشهاري . أكيد إن هجر المجتمع التونسي العريق لهذه السينما اليتيمة لهو خير دليل على بلوغه مستويات راقية في الفكر والتفكير. لكن يبقى الحلف الأكثر خطورة داخل عالم هذه الصورة المتحركة الجامدة، هو ذلك التناغم الحميمي بين ثلة من النقاد السينمائيين التونسيين الغاضين النظر والمتورطين هم كذلك في هذه الجريمة الفنية.
إن معنى الفن السينمائي اليوم لابد أن يبدأ من البيت والمدرسة والشارع والسوق والمؤسسة …اننا نحتاج إلى سينما   تمشي على الأرض لا سينما افتراضية… وإلا فلنتدرب أكثر… 

* باحث تونسي في مجال السينما
ستراسبورغ فرنسا


إعلان