“كازانيجرا”: الوجه الآخر للمدينة البيضاء
أخيرا أتيحت لي الفرصة لمشاهدة الفيلم المغربي “كازانيجرا” لمخرجه نور الدين لخماري، وهو الفيلم الذي أثار ولايزال، الكثير من الضجيج من حوله، والكثير من الاختلافات أيضا، كما تعرض للهجوم من بعض من اعتبروه مسيئا للمدينة التي صور بها وهي مدينة الدار البيضاء.
هذا النوع من الجدل سيظل إلى حين، يصبغ الخلافات التي تنشأ في بلادنا العربية حول الأعمال الفنية، وبوجه خاص، السينمائية منها، والسبب يعود إلى كون الكثير من المتابعين لا يستطيعون حتى يومنا هذا، تفهم فكرة أن العمل الفني شيء، والواقع نفسه قد يكون شيئا آخر، وأن التعبير بالكاميرا عما يشغل الفنان، لا يجب أن يكون مدفوعا بدوافع الدعاية والرغبة في التجميل، والترويج السياحي، وكلها عناصر لا علاقة لها بالعمل السينمائي الروائي الخيالي بها بالضرورة.
ومن ناحية أخرى هناك من يرفضون فكرة تصوير الجوانب السلبية في مجتمعاتنا عموما، بدعوى أنها تقدم “الوجه القبيح”، وتنفر بالتالي، المشاهدين من الواقع، وهو أمر غير صحيح، وإلا لتوقفت السينما عن العمل، فمنذ أن ظهر ما يعرف بـ”الاتجاه الواقعي” في السينما، والسينمائيون مشغولون بقضية التعبير عن الواقع الحقيقي المباشر، وهو ما يصل إلى أقصى مداه في “سينما الحقيقة”.
ظهرت الواقعية الجديدة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية تحت شعار “هكذا تسير الأمور”، وجاءت كرد فعل على الواقعية القديمة، أي واقعية الأدب وما يصوره من نماذج بشرية قد لا تكون بنفس المباشرة. بل ويمكن القول إن تاريخ السينما في مجمله كله سعي من أجل نقل الواقع، أو “الإيهام بالواقع” حتى في أكثر الأفلام جنوحا إلى الخيال.
أما فيلم “كازانيجرا” فهو لا يعبر فقط عن الواقع من وجهة نظر المخرج المؤلف الذي أبدعه وجسده، بل ويحقق في رأيي، نقلة نوعية ملموسة في الفيلم المغربي، إذ ينقله خارج محيط الفولكلور تماما ونهائيا، ويحرره من كل القيود المصطنعة التي وضعت حوله، وتلك القوالب التقليدية التي يتصور الكثير من السينمائيين المغاربة أنها تصلح كـ”بضاعة جاهزة” للبيع للغرب، مثل صورة المرأة التي ترتبط بالسحر والشعوذة والاضطهاد، وصورة الرجل كنمط بطريركي مهيمن، والقيود التي تفرضها التقاليد العربية، وموضوع الختان، وغشاء البكارة، والرقص الشعبي، ومناظر الزوار وفك السحر.. إلخ
هنا نحن أمام فيلم “عصري” بكل معنى الكلمة، يستند إلى بناء حديث، وشخصيات من دم ولحم، لها منطقها الدرامي الخاص، لكنها محكومة أيضا بمنطق اجتماعي صارم، يضغط عليها ويفجر باستمرار أزمتها.
إن أزمة بطلي الفيلم، وهما شابان في مقتبل العمر، تنبع أساسا، من فشل مشاريع التنمية في توفير مستقبل واضح أمام الشباب: فرص عمل، زواج، تكوين أسرة، تعويض ثقافي، توازن نفسي، إشباع عاطفي وجنسي، وغير ذلك. وتكون النتيجة اللجوء إلى استدعاء الحلم، حلم التغيير في الخيال، الحلم بالهجرة ومعانقة فتيات السويد الشقراوات مثلا لدى عادل، أو الحلم بالتطلع لامتطاء طبقة أخرى أرقى، من خلال الارتباط العاطفي بفتاة تنتمي قلبا وقالبا إلى تلك الطبقة الأخرى، التي تعيش الحياة التي لا يعرفها المسحوقون، كما نرى عند كريم.
![]() |
بطلا فيلم كازانيجرا
إن وقوف “كريم” و”عادل” في منتصف الشارع، يبيعان أو يوزعان السجائر المقلدة أو المهربة (المضروبة) هو أبلغ تعبير عن لفظ المجتمع لهما والإلقاء بهما خارج الهامش، والفيلم بأسره من الممكن اعتباره محاولة من جانب البطلين الشابين، للانتقال من خارج الهامش إلى داخل المتن الاجتماعي، إلى البحث عن فرصة للتواجد، ولو من خلال الالتحاق بظل مجرم عتيد، هو زريق، لا يتورع عن الفتك بضحاياه بأبشع الطرق وأكثرها عنفا، في الوقت الذي يبكي فيه كطفل صغير إذا ما غاب كلبه المدلل.
هذا النمط المتوحش الذي يسعى طيلة الوقت إلى المال، يتكرر في أنماط أخرى كثيرة في الفيلم، فالسعي لامتلاك المال بغض النظر عن أي قيمة أخلاقية أو اجتماعية، هي ما أصبح يسود المجتمع بطبقاته المختلفة، وهو ما يكشف الإحساس بعدم الأمان، بانهيار فكرة التآلف الاجتماعي.
يتورط بطلانا فعلا في عالم الجريمة المنظمة عندما يوافقان على تنفيذ عملية حقن حصان من خيول السباق بعقار منشط خاص لحساب المجرم المحترف الذي يعدهما بحل مشاكلهما المؤجلة. الحصان يعادل البراءة، ولكن اغتيال البراءة متمثلا في حقن مادة غريبة، يفشل، ويؤدي إلى فرار البطلين وعودتهما مجددا إلى “الهامش”، ولكن بعد أن يكونا قد اكتسبا معرفة وخبرة بالعالم السفلي في المدينة البيضاء التي يرونها وقد أصبحت “سوداء” وهذا هو مغزى عنوان الفيلم بالطبع.
يعتمد الفيلم أساسا، من ناحية الأسلوب السينمائي، على التصوير الليلي في كل مشاهده تقريبا، في المنطقة الفاصلة بين الحلم والواقع، وكأننا نشهد كابوسا طويلا ممتدا بامتداد تلك الرحلة الأرضية المضنية للبحث عن خلاص.
ويعتمد المخرج بشكل أساسي على الميزانسين أي التكوين وحركة الكاميرا وعلاقة الممثل بالفضاء، لخلق الحركة والإيقاع في فيلمه.
وعلى الرغم من اختياره بقعة وسط مدينة الدارالبيضاء المعروفة بانتشار المخدرات والجريمة والهامشيين فيها، إلا أنه يقدم المدينة على مستويين: المستوى الأول الذي نلمسه في معظم اللقطات الخارجية أن المدينة تطغى على البشر، وتحكم وطأتها الثقيلة عليهم، وهو يجسد هذه الفكرة بشكل بصري ملموس من خلال تصوير البنايات القديمة وهي تحلق فوق أشباح الشخصيات الضئية خاصة وأنه يستخدم الزوايا المنخفضة للكاميرا حتى لتبدو البنايات مثل كائنات عملاقة تسحق ما تحتها.
غير أنه من ناحية أخرى يستخدم الإضاءة الناعمة ذات التأثير الخاص، وانعكاسها على الشوارع والمباني، للتغزل في تلك المدينة بمبانيها التي تحمل عبق الماضي الساحر الذي كان. إنها صورة للتعليق الحزين والغاضب في آن.
![]() |
ويتميز الفيلم بإيقاعه السريع، والوضوح الدرامي لشخصياته، وإن كان يفرط قليلا في تصوير رد فعل والدة عادل التي يعاملها زوجها معاملة قاسية، مما يدفع عادل إلى الانتقام وإنزال أشد درجات العقاب به حتى يصبح عاجزا تماما دون أن يثير شفقة أحد. وربما يكون هذا هناك بعض الاطالة والمبالغة الدرامية في هذا المشهد تحديدا.
وفي الفيلم، رغم قتامته وقسوة أحداثه، الكثير من المشاهد البديعة في صورتها وتكوينها مثل المشهد الذي يحلم فيه عادل برؤية عرس في عرض الطريق، سرعان ما يكتشف نفسه فيه وهو يُزف إلى فتاة شقراء من السويديات اللاتي يتطلع إلى اللقاء بهن عندما يتمكن من الحصول على وسيلة للنفاذ إلى السويد. وهناك أيضا مشهد صعود كريم مع فتاته “نبيلة”، إلى سطح بناية عالية تشرف على تقاطع طرق في وسط الدار البيضاء، تعبيرا عن الرغبة في الانطلاق والتحليق والتحرر، والتصوير من أعلى هذه البناية تحديدا يتكرر أكثر من مرة، وهو تصوير ليلي، لكي يتيح الفرصة لبطليه للتعبير الصارخ عن الحب والكراهية، حب المدينة التي ينتميان إليها، وكراهية الواقع الظالم الذي يعتقلهما. ومن هذه الازدواجية المعقدة تنطلق حبكة الفيلم وتدور، وتكتسب عمقها وأهميتها.
إن فيلم “كازانيجرا” هو تعبير بليغ بالصورة والصوت، والأداء التمثيلي البارز لبطليه بل لأبطاله جميعا، عن فكرة ضياع الإنسان وانسحاقه، غير أن الإنسان لا يكف دوما عن الحلم!