“Armadillo” من هلمند الى كان

ماذا يفعل الدنماركيون في أفغانستان؟

 قيس قاسم  – هولندا 

في العام الماضي ذهب المخرج الدنماركي يانوس ميتس وفريق عمله الى مقاطعة هلمند الأفغانية، حيث تشارك وحدات من جيش بلاده ضمن  قوات المساعدة الأمنية الدولية (ISAF). بقوا هناك مع الجنود قرابة ستة أشهر، عاشوا، وصوروا أدق تفاصيل حياتهم، في معسكر”Armadillo” (المدرع، حيوان من الثديات يتميز بجلده الذي يشبه المدرعة الحربية) وبعد عودتهم بأشهر قليلة، أكملوا تفاصيل فيلهم الذي ذهب مباشرة الى مهرجان كان الأخير وخرج منه بجائزة “اسبوع النقاد”. ومنذ عرضه والنقاش مستمر في البلاد. لقد أثار فيلمه الوثائقي مشاعر متضاربة وسط الجمهور الدنماركي، ليس لأنه نقل واقع وحال الجنود هناك، بل ولأنه أيضا، كشف الميل المتزايد للعنف وسط شبابهم لم يعرفه الناس، من قبل،  بهذا الشكل الصارخ.   

فيلم “المدرع” Armadillo

من كوبنهاجن حتى وصولهم الى هلمند ظلت كاميرا لارش سكري تسجل رحلة الجنود، أولبي، مادس ودافيد. في المطار صور لحظات وداعهم الحزين لأهلهم وأحبتهم، وقبلها بيومين صور حفلتهم الصاخبة الأخيرة قبل ذهابهم الى الحرب. لم يكن عند هؤلاء الشباب، الذين تجاوزوا للتو سن المراهقة والتحقوا مباشرة بالخدمة العسكرية، تصورا واضحا، الى أين هم ذاهبون؟ كل ما عرفوه من قادتهم العسكريين أنهم في الطريق للانضمام الى المجموعة الدنماركية المكلفة هناك بتقديم مساعدات للشعب الأفغاني. وفي قاعدة “المدرع” التي تقاسموها مع الجنود الأنكليز، لم يشعروا بأي علاقة مباشرة تربطهم بأهل هذة المنطقة!. على العكس من ذلك كانت المواجهة المنتظرة مع قوات طالبان هي التي تشغل بالهم، وكانوا أكثر تحمسا لها، من تحمسهم للتعرف على سكان القرى الفقيرة عن قرب وتقديم يد العون لهم. لقد شعروا في البدء بالضجر فكانوا يبددون الوقت في مشاهدة الأفلام الأباحية والثرثرة. وعندما وصلت أنباء اقتراب موعد مهاجمة طالبان لمعسكرهم صاروا أكثر ترقبا لها. لرصد هذه المرحلة من عمل الجنود طلب ماتس تثبيت الكاميرا وتركها تسجل لوحدها حالة الملل والترقب. 
بعد أيام أخذت حركة الكاميرا شكلا مختلفا؛ اهتزازات سريعة، وانتقالات حادة بين الوجوه. نقلت حالة الاضطراب التي سادت بين الجنود أثر مواجهات سريعة.

حالة الاضطراب على وجه الجنود

لقد بدأ الاحساس بالخطر يسري بينهم وبعد استماعهم الى تقارير القيادة أخذ الشعور بالخطر يزداد، وخاصة، حينما كانت تحمل أنباء عن وقوع إصابات أو سقوط  قتلى بين زملائهم. ومسار العلاقة بين أبناء المنطقة سيأخذ هو الأخر شكلا مختلفا، متناسبا مع الحالات النفسية للجنود أنفسهم. أما تسجيل الجولات التفقدية وعمليات البحث المستمر عن مقاتلي طلبان ففضح هشاشة العلاقة بين المحليين والأغراب الذين قدموا من وراء البحار. لقد اعتقد قادة الوحدات ان توزيع الحلوى على الأطفال، وتقديم تعويضات مالية للمتضررين من سكان القرى، سيمتن العلاقة بينهما. فبعض دولارات للذين خسروا زرعهم وبعض مئات للمهدمة بيوتهم وحتى ألف دولار لوالد طفلة تمزق جسدها اربا، خلال المواجهات اللليلية بينهم وبين طلبان، ستكفي لتحقيق المطلوب.
طلبان بدورهم اكتفوا بشراء صمت المزارعين بالخوف. ولم يدرك الطرفان ان الناس قد سأموا وجودهم، ولم يعودوا قادرين على قبول خضوعهم لقوتين مؤذيتين: الأولى تدعي وتبرر وجودها باسم الدين والثانية باسم الحرية. هم في الحقيقة لايريدون الأثنين. كل ما يريدونه هو العيش بسلام، وهذا ما لم يعبأ به لا الدنماركيون ولا طلبان. فالمتحاربون يريدون متاريس تحميهم، والناس متاريسهم. وفي مرحلة متقدمة من الصراع مع “أشباح طالبان” سينسى العسكر، تماما، القرويين المحليين ويتفرغوا لقتال مفتوح مع خصوم لم يعلن عن وجودهم منذ البداية. لقد تجلى الموقف. فطالبان تريد اقلاق وجود الجنود الأغراب وبدورهم يريد هؤلاء اشعار خصومهم باستحالة سيطرتهم الكاملة على الأرض. كل هذا، كان يصل الى المشاهد بطريقة مذهلة، وسيزداد ذهوله عندما يشاهد اللقطات التي نقلها ميتس ومصوره من أرض معركة شرسة جرت على أطراف معسكر “المدرع”. كان مجرد التفكير في تصويرها يعد مخاطرة تتطلب شجاعة استثنائية.

المخرج يانوس ميتس 

في هذه المعركة سجلت الكاميرا المحمولة والمهتزة أشد اللحظات دراماتيكية وأكثرها تأثيرا. سجلت حالة الخوف التي اعترت كيان جندي أصيب برصاصة مدفع رشاش. عيونه المفتوحة بذهول وصمته العميق كانا كافيان لنقل احساسه الينا. لعلعة الرصاص، وهدير طائرات الهليكوبتر والأصوات المتعالية للجنود أشعرتنا وكأننا نشاهد واحدا من أفلام الحرب الكلاسيكية. الفارق اننا كنا أمام فيلم حقيقي، تسجيلي من الطراز الرفيع. حتى موسيقاه التصويرية لم تستخدم لرفع درجة توتر مشاهده، ولا ترافق صعودها مع قساوة الصورة المنقولة. لقد استخدمت بعناية، ونقلت بأمانة الحالة العامة للجنود وصدمتهم. كما حققت الكاميرا مهمتها في نقل المشهد كما هو، ولهذا سببت وقبل إغلاق عدستها مشكلة سياسية في الدنمارك.
لقد وصل إلى مسامع وسائل الاعلام، كلام أحد المتطوعين قد تفاخر أمام زملائه بأنه أصاب برشاشه عددا من طلبان وأنه جرهم وسحلهم من مخابئهم قتلى. لم يصدق الناس ان جنودهم يتلذذون بمشاهد القتل، ويحملون في دواخلهم قسطا كبيرا من حب التعذيب. هذه الإشكالية الخارجية، عاد واستخدمها ميتس، من خلال تسجيله للحوارات الداخلية والخاصة بين الجنود وقادتهم وكيف ان المؤسسة العسكرية  كانت تغذي الروح العدائية عند جنودها، بل وكانوا يمنحون أوسمة الشجاعة للجنود الذين يصرحون بأفعالهم المشينة. لقد اتضح ان تغذية الميل للعنف كان يتطابق غالبا مع ميل شخصي عند بعض الجنود، وان الحرب تدفع بعضهم للادمان. وهذا ما عبر عنه الدنماركيون. فأغلب الجنود المنتهية خدمتهم تمنوا العودة الى الحرب ثانية.
هذه الرغبة أعادتنا الى “خزانة الألم” الفائز بجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مسابقات أوسكار العام الماضي، وأضفى، بطريقة غير مباشرة، مصداقية مضاعفة على عمل مخرجته الأمريكية كاثرين بيجلو، التي وفقت في نقل حالة الادمان على الحرب عند بعض الجنود الأمريكان. اليوم نرى المشهد يتسع وهذة المرة على يد عمل رائع ومهم وربما يستحق وصفه بأنه واحد من أهم الأفلام التي صورت الحرب بعد فيتنام. صحيح ان مرجعيته تعود الى إرث كبير وطويل من السينما التسجيلية التي نقلت الحروب، لكنه امتاز بتفرد أسلوبه وإخلاصه لموضوعة وشجاعة صناعه، والمشتركين فيه. على مستوى الأسلوبي اقترب “Armadillo” من الفيلم الدرامي الروائي، حيث يذهب ذهن المشاهد، أغلب الوقت، الى أنه يتابع فيلما من هذة الفئة. والسبب جودة وتكامل عناصره الفنية، من بينها سيناريوه المتوفر على عناصر درامية، وأيضا عفوية حركة المشاركين فيه. فالجنود الدنماركيون كانوا صادقين في نقل مشاعرهم، بنفس الدرجة مع صدقهم في الحياة العادية. وجمالية الصورة استثنائية، والأهم الدرجة العالية من فهم الموضوع وخطورته، والتي ربما كلها مجتمعة، ستجبرنا على تذكر اسم مخرجه يانوس ميتس طويلا.        


إعلان