إدانة الاعلام في “الحرب التي لا تروها”
محمد موسى
يفتتح فيلم “الحرب التي لا تروها” ، للصحفي والمخرج الاسترالي المعروف جون بليغير بمشاهد سريعة لاطلاق نار على عراقيين مدنيين في بغداد. قصة العراقيون هؤلاء ستعود بشكل مفصل في مكان آخر من الفيلم ، والذي اريد له ان يغطي فترة تقترب من المائة عام من علاقة الاعلام والحكومات الغربية ( بريطانيا وامريكيا). العلاقة التي تتجلى وتنحدر أخلاقيا في اوقات الحروب والازمات الكبيرة. أول قصص الفيلم ستكون من الحرب العالمية الاولى ، وهي الحرب الاولى التي انتبهت فيها الدول المتحاربة، الى أهمية الاعلام المرئي (والذي بدأ قبل سنوات قليلة فقط) اضافة الى الاعلام المقروء وكيف يمكن ان يسخرا في تمجيد الحرب او إبعاد الانتباه عن ويلاتها. فالجنود الذين ظهروا فرحين في الفيلم الدعائي الاول للجيش البريطاني وهم يرسلون التحيات لأمهاتهم. يجب ان يبقوا بعيدا عن الكاميرات في اوقات حالكة قادمة ، والكاميرات لن تسجل ابدا صراخ بعضهم على خطوط النار مناديا أمهاتهم البعيدات ، في وصف بليغ للمخرج.
ما بين قصص الحرب العالمية الاولى وتفاعلات قصة موقع “ويكليكس” المتواصله ، يسترجع الصحفي جون بليغير مجموعة من اهم احداث القرن ومعضلاته ، والصور التي ظهرت بها تلك الاحداث في الاعلام الشعبي الشائع ، والعلاقة المريبة بين حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وجهات إعلامية معينة ، وسقطات هذه الأخيرة الجسيمة. تبدو مهمة فضاضة من هذا النوع مجازفة كبيرة ، مقربة مشروع الفيلم من العمومية والتبسيط ، وهي التهم نفسها التي وجهها الفيلم الى الاعلام في الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، الدولتين التي اهتم بهما الفيلم التسجيلي ، لدورهما ودلالتهما والنتائج التي تترتب على أداء الإعلام هناك ، إضافة الى قرب تجربة الصحفي الاسترالي من هاتين الدولتين وعمله في بريطانيا لسنوات.فكيف يمكن اعداد منهج او اطار بحثي واضح لبحث تجربة الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية وتغطيته لموضوع مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في العشرين عاما الماضية دون فريق بحثي متخصص؟ لم يشأ الفيلم التقرب من موضوع الإحصائيات. هو اختار ضيوفه من مدراء مهمين في مؤسسة “البي بي سي” البريطانية وقناة “الاي تي في” البريطانية الخاصة ووجه إليهم أسئلة محددة تخص ملفات شغلت الرأي العام العالمي، مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية والملف الإسرائيلي الفلسطيني.
![]() |
جون بليغير |
ويدين الفيلم بالكثير لشفافية الضيوف وخاصة البريطانيين والذي عبر بعضهم عن خجله الشديد من أدائه وأداء مؤسسته في تغطيتها لموضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية. فيما اعترفت مديرة في “البي بي سي” بأنهم أخفقوا كثيرا عندما لم يبذلوا جهود تذكر في تدقيق القصص الرسمية الأمريكية والبريطانية عن موضوع الأسلحة العراقية، والتي كانت أحدى الحجج المهمة التي تذرعت بها أمريكيا وبريطانيا في حربها الأخيرة في العراق في عام 2003.وفي موضوع الأسلحة العراقية أيضا ، كشف الفيلم عن تقرير صحفي ميداني لصحفي امريكي من وكالة (أسوشيتد برس) كان قد زار كل المواقع التي ذكرها وزير الدفاع الأمريكي وقتها كولن باول في تقريره الشهير قبل حرب 2003، ليؤكد انها مغلقة منذ سنوات. لكن عندما وصل التقرير إلى العديد من الصحف ومحطات التلفزيون الامريكية ، أمتعنت معظمها عن نشره. هذه القرائن المتعددة عن تقصير العديد من وسائل الإعلام الغربي او تبعيتها واعتراف المسئولين دون جهود كبيرة بتقصيرهم ، قلل من النفس الغاضب في الفيلم ، لتفسح المجال للحظات الإنسانية الكبيرة ، التي حفل بها الفيلم. مثل قصة العرس الأفغاني الذي ضربته بالخطأ طائرة أمريكية وقتلت العشرات. ولم تصل القصة وقتها الى العديد من النشرات الإخبارية الأمريكية ، او حلت في مرتب متأخرة في الأهمية في بعض النشرات. الفيلم قام بإجراء حوار مع صحفي فوتغرافي بريطاني، كان اول الواصلين الى القرية التي وقع بها الحادث. يصف المصور في حواره المؤثر القرية المنكوبة ، والحياة التي شعر انها سلبت حتى من الأطفال الأفغان الناجيين من الحادث ، والذين صادفهم بالقرية.
الفيلم يخصص الكثير من وقته أيضا لقصة العراقيين المدنيين الذين قتلوا في بغداد على ايدي القوات الامريكية ، وتم نشر الفيديو الذي يصور ضربهم على موقع “وكيليكس” ، لتنال القصة على اهتمام وغضب عالمي واسع. الفيلم يقدم شهادة احد الجنود الامريكيين الذين وصلوا الى موقع الحادث بعد الضربة الجوية ، والذي يصف الطفلين الجريحين الذين كانا موجدين مع والدهم وقت الحادث ، كذلك يكشف الجندي عن اللغة العنصرية المستخدمة من بعض الجنود الامريكيين الذين كانوا في الحادث ، والذين دعوه لترك الطفلين لمصريهم. ورغم العاطفية الكبيرة في المأساة الإنسانية العراقية ، الا ان هذه القصة بالذات حصلت على الكثير من التغطيات الإعلامية الغربية وقت الكشف عنها في العام الماضي ،لتشذ بالنهاية عن الاتجاه العام للفيلم ، والذي ركز على القصص الإخبارية الإشكالية والتي أثارت تغطياتها الإعلامية شكوك عن توازن وسائل اعلامية معينة.
![]() |
الخوف من إسرائيل!
من حادثة باخرة السلام التركية من العام الماضي ، يبدأ الفيلم القسم الخاص بالتغطيات الاعلامية الغربية للملف الفلسطيني الإسرائيلي. والذي يعرج فيه الى حادثة قتل الإعلاميين الفلسطينيين بنار القوات الإسرائيلية دون ان يثير الاعلام العالمي كثيرا وحسب المخرج ، والذي لا يخفى تعاطفه مع الفلسطينيين. فلحظة الانفعال الوحيدة له في الفيلم ، كانت عند الحديث عن تغطيات “البي بي سي” لحادثة السفينة ، وظهور ممثل المتحدث الاعلامي للحكومة الاسرائيلية مارك رجيف المتكرر على “البي بي سي” ، وغياب شخصيات فلسطينية تمتلك نفس فصاحة المتحدث الإعلامي الإسرائيلي. ومرة اخرى تعترف ممثلة “البي بي سي” في الفيلم بتقصير ما ، في البحث عن شخصيات فلسطينية ، غير تلك التي تظهر بشكل متكرر في برامج القناة البريطانية وغيرها.
ويكشف احد ضيوف الفيلم من خبراء الاعلام البريطانيين ، إن الخوف من إسرائيل ومن انتقادها الذي يشل أحيانا قدرة الصحفيين البريطانيين في تغطياتهم للموضوع الفلسطيني الإسرائيلي ، وبحثهم المتكرر عن لغة “معتدلة” في تقاريرهم الصحفية التي تتعرض للازمات هناك.
خبرة وعاطفية
ينضم الفيلم الى مجموعة الأفلام التسجيلية الاستقصائية التي أنجزها المخرج منذ نهاية الستينات من القرن الماضي لليوم. الفيلم الجديد يستعيد بعضا من تلك الأفلام ويقدم لقطات أرشيفية منها.لا يسعى المخرج في فيلمه او افلامه الأخيرة الى ابتكار شكلي او تجديدات اسلوبية ، هو ينطلق من موضوع وغاية ، وينتظر ان تقدم اللقاءات التي يجريها مع ضيوفه التصادم الذي يعزز قوة الوثيقة التسجيلية ويزيد من إثارتها.وهو الأمر الذي يقرب افلام جون بليغير التسجيلية من من افلام زميله الامريكي مايكل مور ، في ثقتها بيقينها ، وعاطفيتها الكبيرة. وشعبيتها الصاخبة. هي تقترب أحيانا لتكون الوجه الآخر المضاد للإعلام اليمني الشعبي والذي تقدمه قنوات تلفزيونية مثل قناة “فوكس” الامريكية المعروفة. يمكن تحدي الكثير من اتهامات فيلم “الحرب التي لا تروها” ، خاصة ان بعضها يتعلق بتغطيات إعلامية ( وخاصة في الإعلام البريطاني) عمرها اقل من خمس سنوات. ويمكن سرد أمثلة من تغطيات إخبارية مميزة للبي بي سي او غيرها لمواضيع العراق او فلسطين. كذلك تجعل الصيرورة المستمرة والتنوع الإعلامي دراسة أداء القنوات التلفزيونية والصحف ناقصا كثيرا بدون وسائل الإعلام الحديثة من انترنيت ومواقع تواصل اجتماعي.
عن جون بليغير
بدأ الصحفي والمخرج جون بليغير حياته المهنية كصحفي في بلده استراليا في عام 1958 لكنه سرعان ما انتقل في بداية الستينات الى لندن والتي يقيم منذ ذلك الزمن. عمل الاسترالي في عدة وظائف صحفية منها في وكالة رويترز الدولية للإخبار كمحرر في موضوع الصراع العربي الفلسطيني ، وعدة صحف بريطانية. بدأ في عام 1968 عمله كمراسل حربي في الصفوف الأمامية في حرب فيتنام ، ليتنقل بعدها في عدة دول مغطيا العديد من النزاعات المسلحة بعضها في العالم العربي ، حيث انجز عدة افلام عن العراق وفلسطين. تفرغ منذ بداية الثمانينات لعمله كمخرج ومؤلف افلام تسجيلية ، حصل على العديد من الجوائز الصحفية العالمية منها: جائزة “الايمي” الامريكية في عام 1991 ، ومؤخرا جائزة مدينة سيدني للسلام في عام 2009.
• المعلومات الخاصة بالصحفي جون بليغير من موقعه على الانترنيت ، كما يمكن مشاهدة افلامه التسجيلية السابقة على نفس الموقع