معاناة في غياهب التعذيب

وراء كل تعذيب وحشي أمريكا

ناصر ونوس

“أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا”. عبارة قالها الشاعر محمود درويش قبل نحو ثلاثة عقود. مرت العقود الثلاثة واستمرت خلالها أمريكا تقدم لعبارة الشاعر الفلسطيني المزيد من المصداقية. بل أكثر من ذلك، ازدادت أمريكا وحشية يحسدها عليها الطاعون… ولا نريد هنا الاستطراد أكثر لإثبات قضية غدت معروفة وبديهية… فالمناسبة هي فيلم بثته قناة الجزيرة الوثائقية في حلقتين قبل أيام بعنوان “معاناة في غياهب التعذيب”، موضوعه التعذيب الوحشي الذي يتعرض له المعتقلون في السجون والمعتقلات الأمريكية. من سجن أبو غريب في العراق، إلى معتقل غوانتانامو في  كوبا، إلى سجن باغرام في أفغانستان، إلى السجون السرية التي أقامتها الولايات المتحدة في عدد من الدول الأوروبية والشرق أوسطية خلال السنوات الأخيرة، إلى “مدرسة الأمريكيتين” التي تخرّج الجلادين والقتلة والكارهين لشعوبهم.
في هذا الفيلم يأخذ المخرج نماذج من الناس الذين تعرضوا للتعذيب في تلك المعتقلات والسجون. يبدأ مع “مراد ابن شلالي” الشاب الفرنسي من أصل جزائري الذي قاده فضوله للتعرف على جماعة طالبان في أفغانستان، وهناك يجد نفسه فجأة في مكان لم يكن يتوقعه أو يريد المجيء إليه، وهو معسكر للتدريب على القتال، ولم يعد أمامه من مفر. حدث هذا قبل أحداث الحادي عشر من أيلول. وبعد تلك الأحداث وغزو أفغانستان استمر الشاب في محاولات الفرار، لكن دون جدوى، وسرعان ما اعتقل وسلم للقوات الأمريكية. وهنا بدأت رحلة تعذيبه في غياهب المعتقلات الأمريكية. اقتيد أولاً إلى مركز اعتقال في مطار قندهار، ومن هناك نقل إلى معتقل غوانتانامو. يتحدث مراد عن تجربته في ذاك المعتقل السيئ الصيت. فيقول إن هناك غرفة تحقيق علق على بابها كلمة “جهنم”، مدهونة كلها بالأسود، وفيها مكبرات صوت وأضواء. وقد أدخل إليها وأجبر على الجلوس مقيداً، وسرعان ما أداروا الموسيقى الصاخبة والأضواء المزعجة، واستمر ذلك لساعات، وعندما انتهت حفلة التعذيب خرج وهو يهذي ويتملكه إحساس بالجنون.
يعرض المخرج بين مقطع فيلمي وآخر فقرات من “كتيّب التعذيب السري” الذي تستهدي به وكالة الاستخبارات الأمريكية. ومما جاء فيه: “التحقيق المضاد (كو بارك) هو كتيب تستخدمه وكالة المخابرات المركزية لإجبار المعتقلين على البوح بالمعلومات قسراً. وهو يحتوي كل الأساليب والتقنيات لانتزاع الاعترافات قسراً. وهي مصممة لكسر إرادة المعتقلين، وإجبارهم بعد انهيارهم على الاعتراف بما لم يفعلوه. تتلخص تلك التقنيات بما يلي: الاعتقال، الاحتجاز، الحرمان من استخدام الحواس بطريقة طبيعية، الترهيب، الألم، الإيحاء والتنويم المغناطيسي، المخدرات، ودفع الجسد للوهن حتى أقصى الحدود”.
كما يطعّم الفيلم بمقاطع أرشيفية من خطابات الرئيس بوش الابن وهو يتهدد ويتوعد “الإرهابيين” بالقتل والتعذيب.
يكمل مراد حديثه عن تجربة غوانتانامو لنر كيف كانت تطبق عليه وعلى زملائه المعتقلين تلك التعليمات التي جاءت في الكتيب السري. لقد أجبروهم على تناول المخدرات. كما كانوا يجربون الأدوية عليهم. لينتهي بعضهم في المستشفى. لقد تفننوا في إيجاد وسائل التعذيب التي تهين كرامتهم كمسلمين على وجه التحديد. وبعد خروج مراد من المعتقل لازمته الكوابيس والكآبة المزمنة، ويقول المحيطون به إنه أصبح عدوانياً. مما منعه من ممارسة حياته الطبيعية. بعد خروجه من المعتقل وعودته إلى بلده فرنسا لم تتركه السلطات الفرنسية وشأنه، بل اعتقلته لمدة عام ونصف العام، ولم تطلق المحكمة الفرنسية سراحه إلا بعدما توصلت لقرار يقول إن مراد “لا يشكل تهديداً للمجتمع”. لكن رغم ذلك لا تزال قضيته مفتوحة.
يأتي مخرج الفيلم بالدكتور “بيتون لي” طبيب ومستشار الرئيس بوش الأب ليعلق على تلك الممارسات. فيتحدث عن الحروب الصليبية مذكّراً إيانا بأساليب التعذيب التي كانت تمارسها محاكم التفتيش في اسبانيا والكنيسة الكاثوليكية، ومقارناً إياها بوسائل التعذيب الأمريكية التي ربما فاقتها وحشية. ثم يقول إن إحدى الحملات الصليبية لإخضاع المسلمين استمرت عقوداً طويلة وأن الحرب كانت حرباً دينية. وهنا يضع المخرج مقطعاً من خطاب للرئيس بوش الابن يقول فيه إن “الحرب مستمرة” وأن الولايات المتحدة ستنتصر فيها. فيصفق له الحضور تصفيقاً مدوياً، وفي مقدمة هؤلاء الحضور أعضاء الإدارة الأمريكية ومنهم رامسفيلد وكولن باول وديك تشيني، نائب الرئيس ومهندس الحروب الأمريكية على العالم الإسلامي، والذي كان يقف على يمينه فوق المنصة. وهنا نتيقن أننا أمام مخرج ذكي يعي تماماً المشهد السياسي والتاريخي الذي يتناوله. بعدها نرى صوراً وقد نبشها المخرج من سجلات محاكم التفتيش تظهر أساليب تعذيب المعتقلين مقارناً إياها بصور أساليب التعذيب في المعتقلات الأمريكية.

يلتقي المخرج باثنين من بين المئات، وربما الآلاف، الذين اعتقلوا في أفغانستان وعذبوا على أيدي الجنود الأمريكيين، الأول هو سعيد نبي، ضابط الشرطة الأفغاني، الذي لم تشفع له رتبته العسكرية من التعرض للاعتقال والتعذيب. لقد بقي خمسة عشر يوماً يتعرض للضرب والتعذيب، والذي مازال يعاني من آثاره حتى اللحظة. ثم أطلقوا سراحه بعدما اكتشفوا أن لا علاقة له بطالبان أو القاعدة. أما الشخص الثاني فهو مواطن عادي يمارس بعض الأعمال التجارية الصغيرة. لقد اعتقلوه مع والده البالغ أربعة وتسعين عاماً، يقول: “ضربوني كثيراً وارتكبوا أفعالاً لا يمكن تخيلها… كان يتواجد ثمانية أشخاص أمريكيين يتناوبون على ضربي لثلاث ليالٍ متتالية”. ويتابع أنه تم اعتقاله بناء على خلاف شخصي مع أحدهم. لقد اعتقل لمدة ثلاثة عشر شهراً في قاعدة باغرام ولم يوجه إليه أي اتهام. ثم أتوا إليه وقالوا له إنه ليس في سجله أي مأخذ وأن المحققين أخطئوا باعتقاله. وبعد أربعة أشهر تم إطلاق سراحه.
من أفغانستان ينتقل المخرج إلى العراق، حيث سجن أبو غريب وعشرات السجون المماثلة التي لم تحظ بشهرته. وفي العراق يلتقي بالمدرّس المتقاعد الحاج علي القيسي، الذي اعتقل وزج به في سجن أبو غريب. إن صورة الشبح التي وسمت ذلك السجن المشؤوم، وهي صورة لمعتقل مصلوب زجَّ رأسه بكيس، وجسده بعباءة فضفاضة، وعلقت الأسلاك الكهربائية في أصابع يديه ورجليه، هي صورة للحاج علي القيسي، كما يخبرنا في الفيلم. يروي الحاج إنه بعدما زجّ به في تلك الوضعية أحس وكأن هناك ضوءاً قوياً خرج من عينيه، واصطكت أسنانه، وفي إحدى الصعقات الكهربائية عضّ لسانه وبدأ الدم يخرج من فمه. وإنه في حالة الصعق الكهربائي يحس المرء أن عينيه تنقلع من محجريها. ثم يروي حادثة طلبه من السجّان الأمريكي مسكِّن ألم ليده التي أجري عليها عمل جراحي قبل دخوله المعتقل، فما كان من السجان الأمريكي إلا أن طلب منه وضع يده على الأرض، وعندما فعل قام السجان بكل ما أعطي من وحشية بسحلها بقدمه وهو يقول له: “هذا هو المسكِّن الأمريكي”. لقد تركت عملية السحل هذه عاهة دائمة في يد الحاج القيسي. يكشف القيسي عن وجود ثلاثة عشر سجناً في العراق شبيهة بسجن أبو غريب، وستة وسبعين قاعدة أمريكية في كل منها سجن شبيه بسجن أبو غريب. إن أساليب التعذيب الوحشية يتحدث عنها الأمريكيون أنفسهم الذين مارسوها أو شاهدوها. فها هي المحققة كايلا ويليامز تكشف عن الأوامر العليا المعطاة لهم باتباع أشد أنواع التعذيب وحشية بغية انتزاع المعلومات من المعتقلين، ومنها أن الجنود الأمريكيين كانوا يطفئون أعقاب السجائر على أجساد المعتقلين العارية. هذا عدا عن الصفع والركل وغيرها من أشكال التعذيب.
يلتقي مخرج الفيلم عدداً من ممثلي الجمعيات التي تعني بحقوق الإنسان، ومنها جمعية أورسولين الأمريكية، التي تقول ممثلتها دايانا أورتيز إن أساليب التعذيب التي يتبعها الأمريكيون في العراق ليست حوادث معزولة كما يزعم المسؤولون الأمريكيون، بل كانت معممة على كافة السجون الموجودة لدى الأنظمة التي كانت تدعمها أمريكا مثل البيرو وبوليفيا والباراغواي والأرجنتين والفلبين وفيتنام. وكمثال على ذلك ينتقل المخرج إلى غواتيمالا، حيث ارتكبت الحكومة المدعومة أمريكياً مذبحة ذهب ضحيتها مئتا ألف شخص. ثلاثة وثمانون بالمئة منهم كانوا من هنود المايا. وإلى جانب ذلك ارتكبت 646 مجزرة ولم يقدم أحد للمحاكمة أو المحاسبة أو المساءلة. وقد نجت دايانا أورتيز من تلك المجازر بأعجوبة، حيث كانت تعمل هناك في تدريس الأطفال واعتقلت عن طريق الخطأ بعد اشتباه مع إحدى النساء المعارضات للسلطة القمعية. تتحدث دايانا عن التعذيب الذي تعرضت له وتقول إن ندوب الحروق بالسجائر مازالت ماثلة على جسدها، منها مئة وإحدى عشرة ندبة على ظهرها، عدا عن الندوب الموزعة في بقية أنحاء جسمها. كما أنها تعرضت للاغتصاب والضرب الوحشي على أيدي عدد من السجانين.

وقد وضعت كتاباً عن تلك التجربة، يعرضه المخرج، بعنوان “عيون معصوبة – رحلتي من التعذيب إلى الحقيقة” بمساعدة باتريشيا دايفس. يشبِّه مخرج الفيلم حكاية دايانا بحكاية ينبشها من القرن الخامس عشر عن امرأة تقول: “في القرن 15 اتهمت امرأة بالسحر على يد محاكم التفتيش في اسبانيا. وأخضعت لقانون الطفو. فإذا طفت فوق الماء فهي مذنبة ويجب أن تحرق بالنار. أما إذا غرقت فهي برئية”. وكأن المخرج يقول لنا إن عبثية جرائم التعذيب التي كانت تمارس في القرون الوسطى على أيدي محاكم التفتيش، ليست أكثر عبثية من جرائم التعذيب التي ترتكب داخل السجون الأمريكية، أو داخل سجون الحكومات المدعومة أمريكياً.
ينتقل المخرج إلى مدينة كولومبوس في ولاية جورجيا الأمريكية، وهناك نجد باتريسا إساسا، الأرجنتينية التي اعتقلت وتعرضت للتعذيب ونجت بأعجوبة من مذبحة الأرجنتين، وهي تتحدث أمام جمهور غفير عن “مدرسة الأمريكيتين” وتطالب بإغلاقها. تقول باتريسا: “أثناء الحرب الباردة افتتحت الولايات المتحدة مدرسة حربية شنيعة لبلدان أمريكا اللاتينية علّموا فيها الضباط من أمريكا اللاتينية كيف ينقلبون على شعوبهم ويستعدونهم ويرتكبون بحقهم المجازر”. وهنا يبين المخرج حجم النفاق السياسي الأمريكي الذي رافق تأسيس تلك المدرسة والإعلان عنها، وذلك من خلال إعلان تلفزيوني يستعيده من الأرشيف يقول: “مدرسة الأمريكيتين الحربية – الشراكة في الديمقراطية”. يتبع ذلك الإعلان تدوين لواقعة تاريخية تقول: “في 24 آذار/ مارس عام 1976 وقع انقلاب في الأرجنتين. اثنان من الجنرالات الذين نفذوا الانقلاب وحكموا الأرجنتين بديكتاتورية مطلقة من العام 76 حتى العام 83 تخرجا من مدرسة الأمريكيتين”. ثم تتحدث باتريسا عن تجربة اعتقالها على أيدي أولئك الانقلابين، وذلك بتهمة “الإرهاب”. كان عمرها ستة عشر عاماً عند اعتقالها. والآن وبعد أربعة وثلاثين عاماً تتذكر تلك التجربة وترويها وتتأمل في ثناياها، لقد قيدت عارية إلى ما يسمى “السرير التركي” ومورس عليها الصعق الكهربائي. ومن بين ما قالته: “شعرت بالبرد وبالأجزاء المعدنية في بطني… شعرت أولاً بصعقة كهربائية. إنها مرعبة بكل ما في الكلمة من معنى. دخلت في عالم آخر. كانت الصدمة من القوة بحيث جعلت كل عضلاتي تنقبض. استمرت لفترة. من يدري كم طالت. بدا كل شيء أبدياً سرمدياً مع أنها كانت لحظة. لا أستطيع أن أشرح كيف… تشعر بلحمك يحترق. تشم رائحة لحمك يحترق. وجاءت لحظة قلت: يكفي. إن أردتم قتلي افعلوا. لكن يكفي. أحدهم أخرج سلاحاً ولقّمه فانتظرت. كان الانتظار أبدياً مع أنه استغرق لحظة. سمعت صوت التلقين فأغمضت عيني ومازالت أسمع الصوت. ضحك المتواجدون وكأن الأمر نكتة. في حفلات التعذيب الضحك أسوأ الأمور. إنه يؤلم أكثر من الصدمات الكهربائية… لقد تألمت كثيراً، ومازلت أتألم”. لا تريد باتريسا لأحد أن يمر بتلك التجربة. ولهذا تشارك في الاحتجاجات المطالبة بإغلاق “مدرسة الأمريكيتين” التي خرّجت وتخرّج مثل أولئك الجلادين. وبسجن أبو غريب، وبكل السجون التي يمارس فيها التعذيب الوحشي على بني البشر. إنها، وبعد مضي كل تلك السنوات لا تستطيع أن تنسى ما حدث معها.
لكن هل التعذيب، بكل أشكاله الوحشية ودرجات قسوته، يؤدي لانتزاع المعلومات؟ كايلا ويليامز، الضابط الأمريكي التي شهدت التعذيب في سجون أبو غريب تجيب بالنفي. “فبعد نقطة معينة يصبح عديم الفائدة. والناس ستعترف بأشياء وهمية لوقف التعذيب. وهذا يضلل التحقيق”. وهو ما يجمع عليه كل الذين تمت مقابلتهم في الفيلم. فالدكتور “بيترون لي” يتحدث عن النتائج العكسية لمثل هذه الممارسات. فإذا عذبت المزيد من الناس فسيكرهك المزيد، فهل تلقي عليهم قنبلة هيدروجينية؟ هل تدمّر الكوكب؟ بالطبع لا. وبالتالي فإن البديل هو الحوار، والمزيد من الحوار.
إن فيلم “معاناة في غياهب التعذيب” لهو فيلم كاشف وفاضح للوحشية الأمريكية في التعامل مع المعتقلين في السجون والمعتقلات التي أسستها أو تديرها أو تشرف عليها الولايات المتحدة الأمريكية. مع أن معظم هؤلاء المعتقلين هم من الأبرياء. ورغم ذلك نجد الرئيس بوش يصدر في 17 أكتوبر عام 2006 قراراً يعفي فيه الجنود الأمريكيين الذين ارتكبوا الجرائم بحق “الإرهابيين” من المحاكمة. إنها العدالة الأمريكية فعلاً.


إعلان