أي الثورات أبقى؟ (1-2)

مهرجان كابالبيو يحتفي بالفيلم القصير والربيع العربي

محمّد رُضــا
الشغل الشاغل لمهرجانات عديدة حول العالم هذه الأيام هو تقديم السينما العربية لجماهيرها.
من فرنسا إلى السويد ومن فنيسيا إلى تورنتو، تم تقديم أفلام عربية جديدة تتمحور حول الانتفاضات الشعبية التي وقعت في تونس ومصر وسوريا ولا تزال.
مهرجان كابالبيو، القاطن جبال منطقة توسكاني البديعة في الوسط الإيطالي، لم يكن ليختلف. لقد قدّمت مهرجانات عدّة هذا العام أفلاماً عربية عدّة حظيت باهتمام المشاهدين كونها تتبع الأحداث الحاضرة، لكن هذا المهرجان في دورته الثامنة عشر، والمتخصص بالأفلام القصيرة، والذي يرأسه توماسو موتولا بجدارة، يختلف في أنه عرض لمجموعة بارزة من هذه الأفلام، ليس فقط بالمعنى النوعي بل بالمعنى الكمّي.
طبعاً لا يجب الاعتقاد بأن الاهتمام نابع من تقدير لسينما فقدت بوصلتها منذ بضعة عقود ولم تعد تثير إلا القليل من الاهتمام عبر القليل من المخرجين، بل هو نابع من المتابعة الحثيثة لمعرفة ما الذي يحدث وسيحدث في هذه المنطقة القريبة من أوروبا أكثر من سواها. وهذا الاهتمام يفضّل الموضوع، او المحتوى، على الشكل. او بكلمات أخرى، هو معذور إذا ما فضّل المضمون على الفن كون السينمائيين العرب القادرين على تحقيق أعمال تعالج الأحداث بصيغ فنية، أكثر منها ديماغوجية، مثل داوود عبد السيد وخيري بشارة ومحمود بن محمود ومحمد خان ومجدي أحمد علي، أسامة محمد، نبيل المالح وسواهم، موضوعون على الرف، إما باختيارهم او- غالباً- باختيار المنتجين العرب.
وحتى مع الصحوة المفاجئة لبعض المنتجين الذين كانوا حتى مطلع هذه السنة يؤمنون بالسينما الجماهيرية وحدها، ويمارسونها في كل شكل ممكن ومع كل صباح ومساء، الذين انقلبوا الآن باحثين عن موضوع يلامس الثورات او يعكسها، يفضّلون الطريقة التي كانوا يعملون بها سابقاً وهي نظام من المتعاملين الذي يؤمن لهم: مخرجون جدد لا يكلفون كثيراً ويمكن إدارتهم، ممثلون في وسط الطريق بين الصعود والهبوط، ومواضيع لـتدجين الثورات الشعبية في حقن من الكوميديا والدراما.
لذلك، وحتى اليوم لم يتم الاتصال بمعظم هؤلاء المخرجين الذين وردت أسماءهم أعلاه للبحث في كيفية إنجاز أعمال تحمل معالجاتهم الناضجة ضمن طروحات  الحاضر.

لكن لا يمكن لوم المهرجانات إذا ما التفتت إلى المطروح حالياً وأخذت به. سوف لن تبتعد عن المتوفّر لكي تنتظر أن يعود خان او بشارة او بن محمود او المالح من منافيهم الاختيارية. وبالنسبة لمهرجان كابالبيو فإنه علاوة على انه تظاهرة خاصّة تم فيها عرض خمسة عشر إنتاجاً دجيتالياً من آخر ما تم تنفيذه تعليقاً على الثورات العربية، أقدم المهرجان على تخصيص مؤتمر للحديث عن السينما العربية في زمن التويتر والإنترنت وعنها كمستقبل واعد.
أسندت إليّ عضوية لجنة التحكيم الرئيسية كما كنت أحد المتحدثين في ذلك المؤتمر ولاحظت، فيما لاحظته، أن الإيطاليين يعتبرون أن ما حدث في مصر وتونس وما يحدث الآن في سوريا أعمالاً بطولية جريئة. واثنان من الحاضرين فتحا باب النقاش حول “هل نحن الإيطاليون جبناء لدرجة أننا لا ننزل إلى الشارع لإسقاط حكومة فاسدة؟”، أحدهما عدد مناخات الفساد في الدولة وختم: “لذلك أقول أن إيطاليا تعيش في فساد مماثل، على الأقل، لفساد الحكومات في الدول التي ثارت حديثاً، لكن الإيطاليين يتحمّلون ذلك من دون سبب واضح”.

من ناحيتي، تحدّثت عن أمرين لافتين وهما أن الثورات الشعبية التي تقع حالياً عليها أن تأخذ زمام المبادرة قبل أن تخطفها المصالح الفردية او الحزبية وهي متعددة، وأن هذه الثورات عليها منذ البداية أن تعي أن التغيير الثقافي ليس من كماليات الثورة، كما تعتبر الحكومات الانتقالية في تونس ومصر، بل من الأساسيات. فالثورات لا يمكن تجزئتها بل هي صياغة كاملة للمستقبل.
إلى ذلك، هناك حقيقة أن الثورات الحالية إذ اعتمدت على التقنيات لكي تنتفض وتنمو وتنطلق، مستفيدة من الإنترنت والتويتر ومجاليهما الشاسع، الا أنها كانت حاضرة وجاهزة منذ أمد بعيد بسبب سياسات القمع واعتبار المواطنين جزءاً من ممتلكات الحاكم كقصره وحاشيته وماشيته.
لكن الحقيقة الأهم هو أن هذه الثورات ليست جاهزة للتغيير الثقافي لأنها لم تولد في حاضر ثقافي متميّز. 
بالمقارنة مع الستّينات، كانت الثورات الثقافية تتصدّر أوجه التعبير ولا تلحق به. كان العالم يعيش حالة غليان ضد الاحتلال الأميركي في فيتنام، وكانت المظاهرات المدينة لهذه الحرب ترتع في شوارع سان فرانسيسكو ونيويورك ولوس أنجيليس وسواها. كذلك فإن المظاهرات المنددة بالعنصرية كانت مشتعلة في هذه المدن والكثير من سواها تبعاً لحاجة الأفرو- أميركيين التحرر من قيود عبثية كانت لا تزال بعض الولايات والكثير من المجتمعات يعمل بها.
هذا سرعان ما التقى مع بروز تيارات فنية في الولايات المتحدة كحركة سينما الأندرغراوند من ناحية، والسينما المستقلّة، جنباً إلى جنب مع الأعمال الأدبية والشعرية إلي جانب الفنين الموسيقي والغنائي بكافة أنواعهما. في السينما، كانت الموجة التعبيرية التي عرفت بـ “سينما الأندرغراوند” من بين أهم تلك النتائج وهي التي سرعان ما قادها أندي وورهول، كما هو معروف.

في الوقت نفسه كانت هناك حركة سينمائية رائعة في البرازيل والأرجنتين وسينما ذات أسلوب أخّاذ في كوبا. في أفريقيا، انطلقت مجموعات من المخرجين الذين حاولوا وضع سينماهم والسينما الأفريقية بأسرها على الخارطة.
وكانت هناك سينما فرنسية وإيطالية وبريطانية وسويسرية وألمانية واسكندنافية جديدة بشكل او بآخر هي التي ساهمت بتقديم مخرجين طوّروا فن العمل السينمائي والتعبير من خلال الفيلم إلى ما أصبحنا نعرفه اليوم. أتحدث عن برغمن وتروفو وفيلليني وروزي وسكولا وغودار وريفيت وانطونيوني  من بين عديدين.
لم تكن صدفة أن حققت السينما الفرنسية موجتها الجديدة بمساهمة جان-لوك غودار وإريك رومير وفرنسوا تروفو وجاك ريفيت وسواهم، في الوقت الذي اندلعت فيه نار السينما البريطانية الجديدة التي كان قوامها وكارل رايز ولندساي أندرسون ورتشارد لستر وبيتر ياتس وييرزي سكولوموفسكي وغيرهم، ولا صدفة أن اشتغل عدد من المخرجين الروس على أعمالهم فأنجزوا ما هو مختلف عن السائد المفروض وفي مقدّمتهم المخرجة لاريسا شوبتكو.
كل هذا التغيير  تم بمنأى عن الكومبيوتر والتويتر وبمنأى عن التغطية التلفزيونية التي ساهمت هذه الأيام بنقل الوقائع وإثارة المواقف. فأي من الثورتين أهم وأبقى؟

الحلقة الثانية: أفلام من كابالبيو


إعلان