“السينما التسجيلية- الدراما والشعر”

ما الذي يجعل من الواقع المنعكسة قسماته على شريط سينمائي، فيلما تسجيليا إبداعيا يتجاوز ما هو عابر وإخباري؟ ما هي التخوم التي تفصله عن الروائي؟ وهل ثمة أرضية مشتركة يمكن أن يقف كل من التسجيلي والروائي عليها؟
في هذه الأسئلة الأساسية يبحث الناقد السينمائي عدنان مدانات، في كتابه “السينما التسجيلية- الدراما والشعر” الصادر حديثا عن مؤسسة عبد الحميد شومان، محاولا عبر عدة مقالات كُتبت على فترات مختلفة، أن يقدم إجابات هي خلاصة رؤيته التي تشكلت عبر سنوات الدراسة في موسكو، وبعدها عقود من العمل كناقد سينمائي مطلع ومنفتح على تجارب كثيرة ومتنوعة، ومرورا بتجربته القصيرة في مجال إخراج الأفلام التسجيلية في مطلع حياته العملية، والتي أثمرت عن أربعة أفلام قصيرة، بالإضافة إلى فيلم غير منجز.
الدراما والشعر
“لا تكون السينما فنا إلا عندما تكون الكاميرا في عين شاعر” يتفحص مدانات في كتابه هذه المقولة، ويقدم للقارئ المدى الذي يمكن معه للفيلم التسجيلي أن يصل بمادته المعرفية المستندة على الواقع إلى حدود الشعر، والمدى الذي يمكن معه للسينما التسجيلية أن تلتقط نبض الحياة، عبر التقاطها للدراما الكامنة في مادة الواقع الذي يجري تصويره، سواء أكانت هذه الدراما حدثا أو سلوكا بشريا…
كما يأتي هذا الكتاب في وقت بدأت فيه الأفلام التسجيلية تحتل اهتمام عدد كبير من الفضائيات والمهرجانات السينمائية، إلا أنه ما زال يختلط على الكثير منا الفرق بين الفيلم التسجيلي الإبداعي والتقرير الإخباري، وهنا يقدم الناقد للقارئ العادي كما للمتخصص، معرفة مهمة تساهم في كشف الأسرار الإبداعية لوسيلة التعبير الفنية هذه، وكي لا يبقى الحديث مجرد كلام نظري، يقدم الناقد هنا بعض النماذج الفيلمية -الكلاسيكية والمعاصرة- كتطبيق عملي لما يذهب إليه عندما يتحدث عن الحلول الإبداعية، أو الدراما، أو الشعر، أما البعض الآخر من هذه النماذج، فيشير الناقد من خلالها إلى مواضع الخلل التي حالت دون أن تصبح تلك أفلاما تسجيلية إبداعية، فبقيت تراوح في ما هو إخباري وعابر.
المختبر الإبداعي
لم تكن أسئلة الماهية والجوهر الإبداعي للفيلم التسجيلي فقط ما يشغل الناقد مدانات، إنما الذهاب أبعد من الفيلم كمُنتَج، إلى البحث في خالق هذا الفيلم (المخرج/ المؤلف)، ومقاربة ذهنيته، والتعرف على هواجسه، خلفيته الثقافية، والاجتماعية، وعلى بذور العمل في خياله، والسيرورة التي أفضت إلى هذا المنتج الإبداعي السينمائي، وهو ما أطلق عليه الناقد (المختبر الإبداعي)، والبحث في عوالم مبدع الفيلم يغدو ضرورة، عندما تكون ثمة حلقة مفقودة بين مبدع العمل / المرسل، وبين الجمهور /المستقبل، تُعَطل إيصال الرسالة للمتلقي وفهمها، وهو ما لمسه الناقد مدانات أثناء مشاركته في عدد كبير من المهرجانات السينمائية، فغالبا ما يفهم الجمهور أمورا في الفيلم على نحو لم يقصده المخرج، أو أن تكون رسالة الفيلم غامضة بالنسبة للجمهور فيطالب المخرج بإيضاح قصده، من هنا ولدت الرغبة عند مدانات للبدء بمشروع (المختبر الإبداعي) ولكن المشروع لسبب ما لم يكتمل، لكنه أثمر ثلاث مقابلات مطولة مع ثلاثة مخرجين، اختار منها للكتاب مقابلة كان قد أجراها مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي في مطلع ثمانينات القرن الماضي، بعد عرض فيلمه “صور من ذكريات خصبه” الذي أحدث أثرا طيبا في حينه، وشكل نقلة نوعية في تاريخ الفيلم التسجيلي العربي، وحاول الناقد مدانات من خلال هذا الحوار الحفر بعيدا في ذهن، وذاكرة، ولا وعي المخرج والتعرف على الآلية التي وفقها أبدع هذا العمل.

وإذ نحاول مع الناقد مدانات في بداية الكتاب اكتشاف المختبر الإبداعي لدى ميشيل خليفي، فإننا في نهاية الكتاب نتعرف ونكتشف مختبرا إبداعيا آخرا لكن بنكهة خاصة، نكهة تغلب عليها الموضوعية التي تجلت في إخضاع الناقد مدانات لتجريته الخاصة في مجال إخراج الأفلام التسجيلية إلى الدراسة والتحليل والتقييم، وهي مهمة غير سهلة على الإطلاق، إذ تستلزم صدقا كبيرا مع الذات، هو ما لا ينقص عدنان مدانات، كما أنه يجيد الوقوف على مسافة كافية تمكنه من رؤية ما ينبغي رؤيته، أين أصاب في تجربته الإخراجية وأين أخطأ، وما هي الحالة العاطفة والنفسية والخلفية السياسية والاجتماعية وغيرها من الأمور التي ساهمت في تشكيل وصياغة هذه الأعمال في صورتها النهائية.
تعميق الوعي السينمائي
في “السينما التسجيلية…” يستكمل الناقد عدنان مدانات مشروعه الذي بدأ مع كتابه الأول “بحثا عن السينما”، مرورا بـ “أسئلة السينما العربية”، “أزمة السينما العربية”، “عدسات الخيال”، “وعي السينما”، وهو مشروع معني أولا وأخيرا بتعميق الوعي بفن السينما، من خلال بناء ثقافة سينمائية تساهم في صياغة ذائقة الجمهور، وهي مهمة حملها الناقد مدانات على عاتقه منذ أمد بعيد، لذا لم يحصر اهتمامه بنقد الأفلام، إنما مَنَحَ جُل عنايته لبحث مختلف المجالات والقضايا المرتبطة بالسينما، إيمانا منه بأن هذه المعرفة قادرة على خلق وعي كاف لدى المتلقي، سيمكنه لاحقا من قراءة وتقييم الأفلام التي يشاهدها بذاته، دون الحاجة للاعتماد على الناقد.