فيلم النهاية: وقائع سنوات الرصاص
ابو ظبي: رامي عبد الرازق
ضمن اثنا عشر فيلما يمثلون مسابقة آفاق جديدة أحد فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان ابو ظبي(13-22اكتوبر2011) عرضت التجربة المغربية المثيرة للجدل “النهاية” للمخرج الشاب هشام العسري والذي سبق ان فاز بالجائزة الاولى في مهرجان طنجة الوطني في يناير الماضي.
يعتبر فيلم العسري واحدا من أهم التجارب المغاربية الجديدة على مستوى الواقعية الشعرية او الواقعية الرمزية حيث توظيف الرمز”الواقعي”الخشن لتفجير الدلالات وليس مجرد استخلاصها بنعومة, فما يريده هشام أن يؤذي ذهن المتلقي الخامل صاحب النظرة المسبقة والمشاركة السلبية في عملية المشاهدة داخل الظلمة الأمنة لدار العرض.
العالم السفلي
يبدأ فيلم هشام بكادر مقلوب لنفق طويل تبدو فيه السيارات وكأنها تسير على السقف, هذه اللقطة الواسعة للنفق ثم للشارع تدوم زمنيا لفترة معينة حتى نتصور أن ثمة خطأ في عرض الفيلم ولكننا في الحقيقة أمام مفتاح اساسي من مفاتيح قراءة المادة الفيلمية يمنحه لنا المخرج من اللقطة الاولى, اننا امام تصورين دراميين اساسين الاول هو مدخل العالم السفلي الذي سوف تدور فيه احداث الفيلم والثاني هو انعكاس العالم كأننا أمام عالمين الأول ارضي واقعي معروف والثاني يقع اسفله تماما ويشاركه نفس الارضية فتبدو شخصياته وتفاصيله كلها مقلوبة او كأنها انعكاس على سطح مرآة للعالم الفوقي.

ويتوازي الكادر المقلوب مع استخدام الأبيض والأسود كلون اساسي للفيلم وكأننا امام شخصيات من نيجاتيف فوتغرافي أو كأن عالمنا الواقعي هو الملون أما انعكاسه الشعري الدموي فهو بالابيض واسود.
من هنا يسهل التعامل مع الواقعية”الرمزية”التي يقدم لنا الفيلم من خلالها اطاره الفكري وتفاصيله الخشنة العنيفة, فالكادر المعكوس هو وجهة نظر الشخصية الرئيسية التي تركب فوق أحد سيارات الشرطة متخفية للوصول إلى محرقة المخدرات التي يتصاعد من مدخنتها العالية دخان عملية اعدام المخدرات من قبل الشرطة أنها ترى هذا العالم عبر هذا المنظور المقلوب نتيجة اختلال كل شئ.
شخصيات انعكاسية
شخصيات الفيلم واقعية جدا ورمزية جدا في نفس الوقت فالشخصية الرئيسية ميخا هو شاب تائه النظرات زائغ البصر يعمل في مهنة عادية هي وضع الكلابش الحاجز للسيارات التي تتوقف في غير اماكن الانتظار أو لا تسدد قيمة كارتة الأنتظار, وبينما هو يؤدي عمله عقب جرعة ليلة من دخان المخدرات المحترقة في محارق الشرطة يشاهد تلك الأميرة السمراء المحبوسة في سيارة تقيدها السلاسل.
هنا يتجلى الاسطوري في الواقعي حيث تتكامل عناصر تراثية معروفة (الاميرة السجينة- البرج الأسطوري – الشرير او الغول او التنين – الشاطر حسن أو الشخص العادي الذي يحوله حبه للأميرة ورغبته في انقاذها إلى بطل حقيقي)
هذه الفتاة/الاميرة تصبح الدافع العاطفي والنفسي الأساسي لكل القرارات التي سوف تتخذها شخصية البطل وتدريجا سوف تتخذ الفتاة دلالات اكثر سياسية كلما توغلت الاحداث خلال رحلة تحريرها.
يحاول ميخا دخول السيارة/البرج العاجي وعبر مشاهد قليلة نتعرف على التنين أو الغول الشرير الذي هو عبارة عن عصابة من اربعة افراد هم”اخواتها” يحتجزونها كي لا تهرب منهم بينما هم في الداخل يقومون بعملية سطو مسلح عنيفة على احد المتاجر.
شرار الخلق
يشعرنا المخرج بحقيقة القول بأن القيامة لا تقوم إلا على شرار الخلق, فنحن في عالم على وشك ان تقوم قيامته وبالتالي فأغلب شخصياته من شرار البشر ونفاياتهم الأنسانية.
أن العصابة التي يصطدم بها ميخا لكي يحرر حبيبته التي وقع في هواها من النظرة الاولى تمثل الخصم الأساسي في الصراع الدرامي والغول الشرير في المستوى الأسطوري وبطانة العالم السفلي في المستوى الرمزي.
ويتمكن ميخا من الهرب بحبيبته مستنجدا بواحدة من أهم شخصيات الفيلم والتي تتقاسم البطولة والثقل الدرامي مع شخصية ميخا ونعني بها شخصية مفتش المباحث أو رجل الشرطة.
تمثل شخصية المفتش رمزا واقعيا واسعا لحقبة سنوات الرصاص باكملها والتي شهدت فيها المغرب اعنف درجات التنكيل بالخصوم والعيش في رعب دائم من مجرد التفكير في المعارضة او الخروج على الحاكم ولو بالنية.
هذا الرجل يقدمه المخرج من خلال لقطة واحدة/مشهدية طويلة تتجاوز الخمس دقائق منذ أن يدخل مسرح الجريمة للتحقيق في السطو المسلح وحتى يعود إلى بيته لنراه بعد عنف التحقيق والأسئلة الشرطية رجل اسرة وديع يحرص على اعطاء زوجته المشلولة الدواء وتدليلها للتسرية عنها.
صحيح أن اسلوب اللقطة الواحدة يتكرر في الفيلم ولكن اثقل اللقطات درامية وقوة بصريا هي اللقطة الأولى لشخصية المفتش الذي تبدو الكاميرا نفسها غير قادرة على ان تحول عدستها عنه لسطوته الجبارة وشخصيته القوية بحكم مركزة الحكومي الخارق ومن هنا يصبح مبررا استخدام اسلوب اللقطة الواحدة في تقديم المخرج له.
ويتوازي ظهور شخصية المفتش مع لقطات دخيلة او سريعة او تكوينات بصرية تظهر فيها بوضوح صور الحسن الثاني بكل ما تمثله الصورة من تجسيد حي للحقبة واحداثها فالصورة موجودة في كل مكان وباوضاع مختلفة وبملامح وملابس عديدة بعضها رسمي وبعضها عسكري وبعضها بالزي المغاربي الشعبي.

ولكن كثرة ظهور صورة الحسن ومباشرة الدلالة في اكثر من مشهد هو عيب ايقاعي ودرامي كان يجب أن يتخفف منه المخرج خصوصا ان الرسالة وصلت منذ التوازيات الأولى لشخصية المفتش وصورة الملك واصبح حضور احدهم يغنى عن ظهور الاخر.
كذلك من سلبيات العلاقات الدرامية بين الشخصيات كون افراد العصابة يعتبرون أن لديهم ثأر شخصي مع المفتش لأنه قتل اباهم الذي كان مجرما هو الأخر فمحاولة التاكيد على أن مقتل والد افراد عصابة الاخوة الأربعة هو السبب في مطاردتهم للمفتش والقبض عليه والتنكيل به هو سبب ميلودرامي لا يرق إلى مستوى الواقعية الرمزية التي انتهجها الفيلم من البداية فلم يكن مقتل الوالد هو سبب في تحول ابنائه إلى مجرمين ولكن يبدو أنهم نتاج لحالة اجتماعية وسياسية تناسب النهاية الوشيكة التي تقترب من كل شئ وكان الأولى أن يركز المخرج على علاقة العصابة بالمفتش في اطار الوضع السياسي والبوليسي خاصة أن المفتش تحول إلى منتقم رهيب بعد أن ماتت زوجته اثناء احتجازه لدى العصابة والتنكيل به.
ويعود هشام للمستوى الاسطوري في الحكاية عندما يجعل المفتش يحمل حذاء احد افراد عصابة الأربعة لكي يتعرف على الشخص الأساسي من بينهم الذي دفنه في مقلب الزبالة وهو استخدام ينتمي للكوميديا السوداء حيث يوظف تيمة اسطورية هي حذاء سندريلا ولكن بدلا من أن يكون العثور على صاحبة الحذاء مقدمة للزواج منها يصبح العثور على صاحب الحذاء هو سبب قتله.
ورغم واقعية شخصية المفتش الشكلية إلا اننا نجد ان العصابة التي يتصارع معها هو وميخا تتخذ اشكال اقرب للكرتونية فالأخ الاكبر يرتدي جاكت بغطاء رأس طوال الوقت والأصغر منه “عايق” يحرص على اناقته ويرتدي بذلة اربعينيه بقبعة ويحمل مكواة لكي ينتشي زيه ومظهره أما الاصغر منهم يشبه الهيبز في زيه الفضاض وشكل شعره ثم اصغرهم يرتدي زي الأطفال الخاص بالهالويين”عيد القديسين المرعب”مرسوم عليه هيكل عظمي ويحمل مسدس ماء دلالة على صغر سنه نسبيا بالنسبة للاخرين, هذه الكرتونية في الشكل مقصودة بالطبع وتناسب لحد كبير الواقعية الرمزية فنحن في العالم السفلي حيث الشخصيات انعكاس لما تمثله دلالات او تفاصيل الواقع انها اشكال سريالية لكنها لا تشطح للخيال أو تعيق ترميز الواقعي ولكنها فقط تؤكد على درجة من العبثية والكابوسية التي تتسم بها حقب النهايات, ان ظهور العصابة يمثل كابوس عبثي وقاتم للشخصيات الأخرى وبالتالي فإن اشكالها المخيفة والمضحكة في نفس الوقت تمثل حالة بصرية مقلقة للمشاهد.
القيامة الأن
الدخان عنصر بصري اساسي من عناصر السرد والأيحاء بالفيلم, فنحن امام عالم يحتضر ينتهي, عالم مدمر تملئه الأطلال والمخازن المهجورة وبقايا البيوت ومقالب القمامة وهي اغلب المواقع التي تدور فيها الأحداث, إلى جانب الدخان الذي يأتي دوما أما من عوادم السيارات او حرق القمامة او اعدام المخدرات والحرائق اليومية في كل مكان, نحن امام نزعة ابوكاليبسية”نهاية العالم”أو بالاحرى”نهاية عالم”واضحة تترادف مع العد الزمني التصاعدي بداية من شهر يوليو 1999 حتى يوم وفاة الملك الحسن الثاني في نفس الشهر.
وإلى جانب الدخان والاطلال هناك هذا الخلو القصدي للمدينة التي نعرف انها كازابلانكا ولكننا لا نرى أهلها بل فقط بقايا من يسكنون فيها عقب الدمار”الأيحائي”الشامل الذي اصابها خلال حقبة سنوات الرصاص, أن أخلاء المخرج المتعمد للشوارع وحرصه على اظاهر بقايا اهل المدينة متشرذمين كسالى في حركتهم وفقراء هو جزء من تصوره السياسي عن نتاج مرحلة بأكلمها.

يخرج الحي من الميت
ينتهي الفيلم بمقتل افراد العصابة على يد المفتش المنتقم ولكن بعد أن يكون قد اصيب بشدة واصبح هو الأخر على وشك الموت وفي اللحظة التي يحاول ان يهرب فيها ميخا وحبيبته من هذا الدمار يعترضه المفتش راغبا في قتل الفتاة لانها تنتمي للعائلة/ العصابة وهي دلالة سياسية معروفة تذكرنا بوقائع التنكيل بأسر بأكملها حيث كان التنكيل في زمن سنوات الرصاص لا يشمل الانتقام من المعارض أو صاحب الرأي او حتى المتأمر فقط ولكن اهله وذويه ايضا.
ولكن المفتش يموت في اللحظة التي تعلن فيها الاخبار ان الملك قد مات,وتحدث الفوضى المتوقعة ويبدأ كل من تقع يده على شئ يسرقه وحتى المفتش الملقى على الأرض بين الحياة والموت يتم سرقته وتجريده من ملابسه في لقطة علوية شديدة التأثير, وكأنها عين الرب تنظر إليه بعد كل ما فعله, حيث عذب من عذب وطارد وانتقم وفي النهاية يعود إلى الأرض الملقى عليها عاريا لا تستره سلطة ولا يحميه سلاح.
دلالة الموت كبداية هنا يبلورها هشام في لقطة كلاسيكية لكنها معبرة جدا وكأنه يُخرج الحي من الميت حيث ينطلق ميخا وحبيبته في سيارة مكشوفه خارجين من النفق, نفس النفق الذي بدأ الفيلم به في كادر مقلوب ولكن الكادر في هذه المرة معتدل يكشف عن نهاية النفق التي يملؤها ضوء ابيض ساطع دلالة على صفاء ونور يحتوي الشابين بعد ان انتهت حقبة دموية ونجا البطل وفتاته لكي يعيدا انتاج الحياة مرة اخرى ويصنعا مستقبل افضل في عالم جديد.
بطاقة الفيلم:
العنوان: النهاية
تأليف وإخراج : هشام العسري
إنتاج : لمياء شريبي
مدة الفيلم : 105 ق