“دجاج بالخوخ”: السينما كما ينبغي أن تكون!

أمير العمري

كان من أجمل المفاجآت التي كشفت عنها مسابقة مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي عرض الفيلم الفرنسي “دجاح بالخوخ” Poulet aux prunes  لماذا؟ لأنه أولا، جاء من طرف مخرج ومخرجة، هما ماريان سوترابي وفنسنت بارونو، اللذان يعملان بالتآلف معا،فقد سبق لهما أن أدهشا جمهور السينما في العالم بفيلمهما “برسيبوليس” Persepolis الذي عرض في مهرجان كان للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات. والفيلم الجديد “دجاج بالخوخ” هو في الحقيقة أول فيلم روائي طويل تمثيلي للثنائي الموهوب، يظهر فيه ممثلون من لحم ودم.
الجانب الثاني أن الفيلم يكشف عن الطاقات السينمائية التي كانت كامنة داخل خيال هذين المخرجين وهما يخرجان فيلما روائيا تمثيليا، ولكنها طاقة مشبعة بالخيال المستمد من الرسوم، كونهما من الرسامين.
الجانب الثالث: رغم أن ماريان سوترابي قدمت في الفيلم السابق قصتها الشخصية في بلدها  الأصلي إيران في الفترة التي سبقت ثورة الخميني عام 1979 أي قبل أن تفر هي إلى فرنسا، إلا أنها هنا في هذا الفيلم، تعتمد على رواية مصورة أصدرتها عام 2004 في فرنسا، لكنها تبتعد عن تجربة حياتها الشخصية المباشرة لكي تروي قصة، صحيح أنها ترتبط بشقيق جدها (والد أمها).. بما سمعته عنه واستطاعت أن تجمعه من هنا ومن هناك، إلا أنها تعرض شخصيته بعد أن تضيف إليها من الكثير من خيالها الخاص عن تلك الفترة التي عاشها في ايران الثلاثينيات والأربعينيات، وبما يجعل الفيلم مقبلولا من جانب الجمهور في كل مكان، لأنه يقترب بالشخصية من كل واحد منا.

السينما السحرية
ينتمي فيلم “دجاج بالخوخ” إلى تلك السينما التي يمكننا أن نطلق عليها “السينما السحرية”.. تلك السينما التي تقوم، ليس على سيناريو يخضع للتتابع المنطقي والحبكة الدرامية القوية التي تقبض على بنيان الفيلم، بل على بناء يعتمد أكثر، على التداعيات، على القفز بين الأزمنة، من الماضي الى الحاضر أو إلى المستقبل، والعودة الى الماضي، في سياق سردي متداخل، وليس صاعدا باستمرار نحو الذروة.

من حيث الخيال يقترب الفيلم من الواقعية السحرية التي تميز الكثير من الأعمال في سينما وأدب أمريكا اللاتينية، وهو قريب من عالم فيلليني، خاصة في “أماركورد”، ومن عالم حكايات الجدة التي ترويها عادة للأطفال في القصص القديمة الخرافية، يختلط فيه التأمل الشعري، بالسخرية والمرح، بالتطلع في “نوستالجيا” مبرحة، الى الماضي، بالتعاطف المؤثر مع شحصية المبدع الفنان، ومع أزمته، وكيف يمكن أن يصبح الحب مدمرا في حياته بعد أن يعجز عن التحقق من خلاله لسبب أو لآخر، وهنا يأتي موضوع الموت: الموت كشبح قائم طوال الوقت إلى جوار الحياة، نتذكره وننساه يوميا، نهمله، لكنه لا ينسانا، نخافه، لكننا قد نسخر منه.
إن الصور الموجودة في خيالنا عن شبح الموت: “عزرائيل” (واسمه هكذا في الفيلم اتساقا مع الثقافة الاسلامية التي تنتمي اليها ساترابي) يتجسد في هذا الفيلم ويأتينا كشخص غامض، لكنه يمتلك حكمة راسخة والكثير من القصص والحكايات ذات المغزى، التي يروي منها لبطلنا أيضا ما يسليه ويدخل السكينة على نفسه، وكلها قصص مليئة بالحكمة التي استمدها من استمراره في عمق الزمن. وعزرائيل ليس عجوزا مفرا مخيفا بل كائن له شكل مميز حقا، لكنه ليس مروعا. 
والرواي في هذا الفيلم هو عزرائيل نفسه، ويبدأ الفيلم بصوته وهو يروي لنا قصة ناصر علي خان- الذي كان فنانا موسيقيا تفوق على أقرانه في العزف على الكمان في بلاد فارس. هذا الرجل الذي نراه الآن بعد أن تقدم به العمر وهو يعود الى طهران، يسير في شوارعها فيلتقي امرأة عليها مسحة من جمال لم يزول بعد، يوقفها ويناديها باسمها وهو “إيران” ويسألها إن كانت تتذكره، وعندما تنفي معرفتها به يبدو وقد تحطم قلبه الى الأبد.
نحن في طهران عام 1958، حيث يغشى ناصر محلات بيع الآلات الموسيقية بحثا عن آلة كمان يعوض بها آلته التي خسرها بعد أن انكسرت لأسباب سيكشف لنا الفيلم عنها فيما بعد، أي بعد مرور زمن طويل من الأحداث، لكنه لا يعثر على الآلة المنشودة بل يتعرض للاحتيال من طرف بائع جشع يعود ليلقنه درسا، ثم يتردد على أماكن تدخين الأفيون ربما لكي ينسى محنته التي تتمثل في عجزه كفنان عن الاستمرار في العزف وتأليف المقطوعات الموسيقية الخلابة، وعذابه كإنسان فشل في الزواج من الفتاة التي أحبها.
وفي فلاش باك طويل يعود الفيلم الى بدايات علاقة ناصر علي خان بالفتاة، وهي ابنة ساعاتي في طهران، وكيف رفضه أبوها بسبب مهنته، ويروي لنا الفيلم أيضا تفاصيل تتعلق بالتناقضات داخل أسرته، كأسرة من الطبقة الوسطى الايرانية، الأم متسلطة، والشقيق يلقى معاملة خاصة بسبب تفوقه في الدراسة، في حين لا ينجح ناصر سوى في الموسيقى، في الابداع الموسيقي ويلقى تقديرا كبيرا في أوساط هواة الفن في طهران، لكنه يفشل في اقناع الساعاتي بتزويجه ابنته الفاتنة التي تبادل ناصر الحب.

الهرب من الحياة
يقرر ناصر الانتحار فيغلق على نفسه باب غرفته، ويرقد على الفراش طالبا الموت أن يأتيه. ولكن عندما يحضر عزرائيل مجسدا بالفعل، يشعر ناصر بالهلع منه، لكن عزرائيل يطمئنه بأن دوره لم يأت بعد. إن عزرائيل هنا يبدو رجلا مكلفا بمهمة، يحسب الأمور بدقة شديدة، ولا يبدو متعجلا أو شرسا في القيام بدوره، بل إنه يبدي الكثير من التعاطف مع ضحاياه.
غير أن القصص تتداخل، ومن داخل الفلاش باك ندخل في فلاش باك آخر، ومن قصة صغيرة الى قصة أخرى، ومن تفصيلة داخل تلك القصة الأخرى، ننسحب الى قصة جديدة، لكن دون اصطراب، ولا تضارب، ودون أن يفلت الايقاع ولا مرة واحدة، فالفيلم بأكمله مصنوع بدقة الساعة السويسرية. والصور التي تظهر في حجم السينما سكوب (الأكثر مناسبة لموضوع الفيلم دون أدنى شك على العكس تماما من ذلك الحجم الصندوقي في فيلم “فاوست” الروسي الفائز عن دون حق، بالأسد الذهبي في فينيسيا) هي صور تغلب عليها مسحة لونية خاصة تضفي جمالا وسحرا على المشاهد واللقطات، بل إن المخرجين يستخدمان أيضا، ذات مرة، الرسوم المتحركة التي يعشقانها باعتبارها الفن الذي ينتميان إليه، لكي يعكسا من خلالها القصة التي يرويها عزرائيل لناصر.

سر العرض
ناصر له زوجة تزوجها فقط ارضاء لوالدته لكنه لم يحبها أبدا. وهي لا تفهمه ولا تبدي أي اهتمام بموهبته الموسيقية. له منها طفلتان. يصطحب واحدة منهما ذات يوم الى عرض من عروض الماريونيت أو العرائس في الشارع.. والطفلة الجميلة تصدق أن العرائس أشخاص حقيقيون لكنه يأخذها الى خلف المنصة لكي ترى بنفسها كيف تتم الخدعة.
ناصر أيضا يهوى تناول الدجاج بالخوخ. كانت أمه تطهيه له في الماضي. وتطهيه زوجته أيضا دون نجاح يذكر. ورغم كونها تتفانى من أجله إلا أنه يرفضها، وعندما تلح عليه أن يترك الكمان لكي ينضم للأسرة عند تناول الطعام، يرفض أن يستجيب فما ي��ون منها، خاصة بعد أن يصارحها بنفوره منها، سوى أن تختطف الكمان منه وتحطمه، فيتحطم قلبه معه!
كون عزرائيل هو الذي يروي لنا قصة ناصر، يكفي لأن نعرف أنه سينتهي بموت البطل. لكن النهاية ليست هي المهمة، فالأحداث والمشاهد تكمل بعضها البعض بحيث يمكن أن يكون الموت، استمرارا لحياة أخرى أفضل، فالفيلم ليس من تلك الأفلام المأساوية، بل يتميز بطابعه المرح، وفلسفته العميقة التي تقدم لنا من خلال قصة تبدوة كقصص الأطفال.
يتحدث ناصر من صديقه في الفيلم عن السينما، عن الأفلام التي يعشقانها فيأتي ذكر الممثلة الفاتنة صوفيا لورين، وفي مشهد آخر فيما بعد، يتخيل ناصر أنه يدفن نفسه وسط صدر صوفيا الكبير بحيث لا يمكنك سوى أن تتذكر نساء فيلليني في أفلامه الشهيرة.

كمال فني
يبدو كل شيء مكتملا في هذا الفيلم وفي موضعه تماما: الديكورات الرائعة التي تعيد لنا طابع الحياة في طهران الخمسينيات من القرن الماضي، سواء في الشوارع أو داخل منازل الطبقة الوسطى، وقد صور الفيلم في ستديوهات بابلسبيرج في برلين، وهي تلك الاستديوهات التاريخية.
الموسيقى البديعة التي ألفها أوليفييه برنيه، وهي تناسب أجواء “الحكاية” السحرية وتضفي عليها المزيد من السحر والرونق والجمال.
المونتاج الدقيق الذي يضبط الانتقال بين الماضي والحاضر والمستقبل والعودة الى الحاضر الروائي ببراعة ودقة، ودون أن يشعر المتفرد بأنه قد ضل طريقه، بل يتمنى أيضا أن يستمر الفيلم الى مالا نهاية.
وتستعين ساترابي بمجموعة من الممثلين والممثلات مناسبة تماما للشخصيات، ويتميز بينها بوجه خاص، الممثل الفرنسي الكبير ماتيو أمالريك، بطل فيلم آلان رينيه “العشب البري” Wild Grass وهو يؤدي دور ناصر علي خان بعبقريته الخاصة في الأداء.. بعينيه المندهشتين.. وايماءاته التي تقترب من فن البانتوميم (التمثيل الصامت)أحيانا، ومبالغات في الحركة التي تضفي بعدا غير واقعي على الأداء عموما.
هذا البعد اللاواقعي والمبالغة في الحركة، هو عنصر مشترك بين معظم الممثلين مثل إدوار باييه (عزرائيل) وماريا دي ماديروس (فارينجيس، زوجة ناصر، وهي ممثلة برتغالية)، وجولشفته فرحاني (الحسناء ايران)، وكيارا ماستروياني، (ليلي ابنة ناصر بعد أن تكبر)، وايزابيلا روسيلليني (والدة ناصر)، وجمال دبوز الذي قام بدورين هامشيين في الفيلم.
إن “دجاج بالخوخ” هو فيلم ينتمي لجوهر السينما التي نعرفها، كفن رواية القصص ببراعة وابتكار، ويجعلنا نجلس لنشاهده وكأننا نشاهد السينما للمة الأولى. وذلك هو سر عظمته.


إعلان