أصداء، لقاءات سينما المواطن

أحلامٌ، انتفاضاتٌ وثورات

صلاح سرميني ـ باريس

منذ تأسيس (أصداء، لقاءات سينما المواطن) في عام 2001 برعاية بلدية مدينة “بوبيني” القريبة تماماً لباريس، انحازت هذه التظاهرة السينمائية الفريدة، والمُتفردة إلى الدفاع عن سينما ملتزمة من خلال أفلام طويلة، وقصيرة، روائية، أو تسجيلية قادمة من جميع أنحاء العالم، واللقاء مع مخرجيها، وأفلاماً موجهة للشباب، ومنح مساحة واسعة للسينما الفرنسية.
وطوال مسيرتها، استقبلت شخصياتٍ سينمائية مُعتبرة، ومنها: يان لو ماسون، كلير سيمون، رينيه فوتييّه، هانا شيغولا، برونو مويل، فرانشيسكا كومنشيني، جان ميشيل كاريه، جان بيّير آميري، جان بيّير تورن،..
وبمناسبة الدورة الحادية عشرة التي انعقدت خلال الفترة من 3 وحتى 8 نوفمبر 2011 كتبت “دومينيك باكس” مدير القاعة التي تحتضن التظاهرة كلمةً تعريفيةً، تمهيديةً في النشرة الإعلامية :
“في معظم الحالات، الأفلام هي مرآة العالم الذي نعيش فيه، وبرنامج دورة 2011 الذي يتمحور حول تيمة آنية (أحلامٌ، انتفاضاتٌ، وثورات) يعكس بطريقةٍ ما هذه الحقيقة”.
في افتتاح المهرجان تجسّدت انتفاضات النساء مع فيلم “نورما رييّ” لمخرجه “مارتان ريت” (الولايات المتحدة، 1979)، هذه المرأة التي انتفضت في السبعينيّات ضدّ شروط عمل عصر آخر في الولايات المتحدة، ويبدو بأنها تعود بقوةٍ في العقود الأخيرة، حتى في فرنسا نفسها.
بينما يأتي فيلم “لويز ويمر” لمخرجه “سيريل مينوغان” بمثابة صدى يكشف عن مأزق امرأةٍ محصورة في أنياب نظام اقتصاديّ لا إنسانيّ.

انتفاضة ضدّ التعسف أظهرها “الجميع في لارزاك”، فيلمٌ تسجيليّ لـ “كريستيان روّد” يتعقب أثر مقاومة الفلاحين في منطقة “لارزاك” للدفاع عن أراضيهم التي أرادت وزارة الدفاع الفرنسية الاستحواذ عليها في عام 1971 لتوسيع موقع عسكريّ.
البحث عن الأحلام في “السعادة، أرضٌ موعودة”، فيلم طريقٍ لمخرجه “لوران هاس”، وفي المُقابل “ثلوج كيليمنجارو” لمخرجه “روبرت غويدغيان” الذي يريد من خلاله “إعادة السحر إلى هذا العالم”.
ولكن أيضاً أحلام، انتفاضات، وثورات الشعوب العربية التي اندلعت ضدّ أنظمتها الديكتاتورية، والأفلام التي جاءت من هناك تقدم شهاداتٍ قديمة، أو آنيّة عن هذه الأحداث، والطاولة المُستديرة التي نظمّها المهرجان في تلك المناسبة رُبما ساعدت الجمهور المحليّ على فهم كيفية انتشار التكنولوجيا الحالية، ومن ثمّ مساهمتها في تنشيط ما نُسميه “الربيع العربي”.
الاختيارات الحرّة التي طلبتها  (أصداء، لقاءات سينما المواطن) من جمعية (Périphérie) قدمت نظرةً ناضجة حول عمال أحواض بناء السفن في مدينة نانت عام 1955، صورها “جاك ديمي” عام 1982 في فيلمه “غرفة في المدينة”، أو أولئك المُستغَلين الذين صورتهم “مانويلا فريسيل” عام 2011 في فيلمها “مدخل خاصّ بالعمال”.
الحدث الآخر الذي ابتهج به المهرجان، ولم يكن الوحيد، كان العرض الأول لفيلم “كلّ رغباتنا” لمخرجه “فيليب ليوريه” المُستوحى من رواية لـ”إيمانويل كارير” تحمل عنوان “حياة أخرى مختلفة عن حياتي”.
ولم ينسى المهرجان الجمهور من الشباب، والمؤسّسات المدرسية مع برمجة نوعية موجهة لهم حول تيمة ” كلنا مختلفون، كلنا متحدّون” لأنه، كما تذكر النشرة الإعلامية، “من الصعب أحياناً قبول الآخرين كما هم، باختلافاتهم”.
من بين الأفلام التي قدمها المهرجان الفيلم الفرنسي القصير “ياسمين، والثورة” من إنتاج 2011 لمخرجته  “كارين آلبو”، “ياسمين”، شابة تخطت مرحلة المراهقة، تزور صديقها الذي لم تلتقٍ معه منذ أسابيع، ولكن، بدل أن يعيش الحبيبان لحظاتٍ من المتعة، لا تدور الأحداث كما يشتهي الطرفان، الثورة التونسية التي بدأت في 14 يناير 2011 تجعلها تفهم أهمية الالتزام السياسي، وبعودتها إلى المنزل، تُفاجئ أخيها يتحدث هاتفياً مع أبيه في تونس، ونفهم بأنه لا يريد من أبنائه الاشتراك في المظاهرات التي بدأت في باريس تضامناً مع الثورة التونسية.
وفي معرضٍ للصور الفوتوغرافية تحت عنوان “ثورات” يقدم عشر وجهات نظر عن “الربيع العربي”، وطاولة مستديرة بعنوان “صور الثورات العربية”، وتمحور موضوعها الأساسيّ حول هذا الكمّ الرهيب من الصور الفوتوغرافية، والأشرطة الفيديوية التي أنجزها موطنون عاديون، وأصبحت أرشيفاً بصرياً، وصوتياً لهذه الانتفاضات، حيث الكثير من المتظاهرين يسجلون بعفويةٍ، أو عن قصدٍ بهواتفهم المحمولة التي تحولت إلى كاميرات، وهم، غالباَ، يعرضون أنفسهم للقتل، أو الاعتقال.
كما طرحت الندوة أسئلةً من نوع :
ـ أيّ مكانة نمنحها لهذه الصور التي تنتزع من هذه الأخبار المُلتهبة بقايا/شظايا من واقع قبل أن يتمّ تحميلها في الأنترنت، وتبثها مواقع التواصل الاجتماعي، كي يشاهدها عدداً لا يُحصى من البشر؟
بالتأكيد، لم تكن تلك الصور الوحيدة التي سجلت ما حدث في البلدان العربية، ومازالت، حيث هناك سينمائيون محترفون ينجزون بدورهم أفلاماً، ولكن، بطريقةٍ أخرى، أكثر تمهلاً، وأحياناً يخلطون مابين التسجيلي، والروائي، أو حتى إعادة بناء الأحداث من خلال المفردات السينمائية.

وتحت عنوان”الثورات العربية” نتساءل عن الأسباب التي جعلت إدارة (أصداء، لقاءات سينما المواطن) تقدم فيلماً من إنتاج 2011 مجهول المخرج عن إيران؟ في مناسبةٍ كهذه، نفهم أهمية، وضرورة عرض أفلاماً أنجزها مخرجون أجانب، كحال الفيلم التسجيلي “تحرير” لمخرجه السويسري “ستيفانو سافونا”، ولكن، لا نستوعب زجّ إيران في برنامج تحت عنوان “الثورات العربية” ؟.
تُثير الاختيارات الحالية لبعض الأفلام مشكلةً أخلاقية، حيث يبدو للمُتابع بأن المهرجانات السينمائية، العربية، والأجنبية على السواء، بدأت تنظر إلى أيّ فيلم قديم، أو جديد من خلال الجوانب “الثورية” التي تختبئ فيه (حتى وإن لم تكن موجودة أصلاً) كما حال الفيلم الروائي الطويل “على الحافة” لمخرجته المغربية “ليلى كيلاني”، والذي لولا الأحداث الحالية لما أضافه أحدٌ في برنامج عن “الثورات العربية”، أو “الربيع العربي”، صحيحٌ بأنه فيلم جيدٌ، حاذقٌ، ومختلفٌ كحال أفلام كثيرة في تاريخ السينما العربية، والمهجرية، ولكن، يبدو بأننا، والغرب معنا، صحونا فجأة كي نبحث في أيّ فيلم نشاهده عن كلّ ما يُوحي، أو يُبشر بالثورة من قريبٍ، أو بعيدٍ، ورُبما لم يتعمّد المخرج تضمين فيلمه بأيّ أفكار احتجاجية، أو ثورية، ورُبما كان سابقاً مناصراً عنيداً لنظام البلد الذي يعيش فيه، ولكن، من المؤسف، دائماً، وأبداًُ، بأن تسيطر الجوانب العاطفية، الفضولية، أو حتى الانتهازية على اختيارات الكثير من المهرجانات السينمائية، وحالما يلتقط أحدنا جملة حوارٍ، أو لقطة في فيلم، نقفز من مقاعدنا، ونمنحه شرف التبشير بالثورات العربية، وحتى إضفاء الثورية على الفيلم، والمخرج، وهكذا، وجدت إدارة (أصداء، لقاءات سينما المواطن) في الفيلم الجزائري القصير “قراقوز” لمخرجه “عبد النور زحزاح”(والذي لا أنفي عنه أهميته) شكلاً من أشكال مقاومة التطرف الديني.
بينما يقدم الفيلم حالة إنسانية بسيطة، وشفافة، تجمع ثلاثة أطراف من المجتمع الجزائري، والعربي بشكلٍ عام، رجلٌ خمسينيّ يصنع الدمى المتحركة، وينتقل بسيارته مع ابنه “نبيل” من مكان إلى آخر في أرجاء الجزائر كي يقدم عروضه للأطفال، ويمنحهم القليل، أو الكثير من المعرفة، والبهجة، وفي إحدى جولاته يقابل أفراداً من الجنود يتمركزون عند حاجز تفتيش، ومن ثمّ مجموعة أخرى من المُتدينين الذين يوصلهم إلى مكان ما، وفي الحالتين، تُظهر بعض التفاصيل الصغيرة تصرفاتٍ حمقاء من الطرفين تعبر عن احتقارهم للرجل، وابنه، والمهنة التي تخيراها .
هوس بحث المهرجانات السينمائية عن ملامح معارضة للأنظمة المُستبدة تمثل في الفيلم التسجيلي “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” من إنتاج عام 2006، وإخراج “هالة العبد الله”، و”عمار البيك”، فيلمٌ شعريّ جميل، “ثوريٌّ” في صياغته الدرامية، والسينمائية، يلتفّ حول بقايا من ذكريات الماضي، ومشاعر الحاضر، ويستحضر صوراً عن الحنين، والمنفى، الحب، ورُبما الكراهية.
بالمقابل، يأتي الفيلم التسجيلي “لا خوف بعد اليوم” من إنتاج 2011 لمخرجه التونسي “مراد بن شيخ” كي يقدم نموذجاً عن الأفلام التي سجلت الثورات العربية مباشرةً، واقتربت من التحقيقات التلفزيونية، أو ابتعدت عنها بمستوياتٍ متباينة بين فيلم، وآخر.

(أصداء، لقاءات سينما المواطن) ـ كحال زميلتها “لقاءات السينما في مونترويّ”(موقع الجزيرة الوثائقية الخميس 03 نوفمبر 2011 ) ـ تخيرت خطةً برمجيةً مغايرة للمهرجانات التنافسية، واعتمدت على تيمة محددة سلفاً، أو متغيّرة في كلّ دورة، ولهذا، فهي تغرف كما تشاء من التراث السينمائي في ماضيه، وحاضره أفلاماً تتفق مع التيمة الرئيسية، والفرعية، ومنحت لنفسها خصوصية جعلتها توازي المهرجانات ذات الصبغة العامة، وهما خطتان تدعم الواحدة الأخرى، ولا يمكن اكتمال المشهد السينمائي الفرنسي بدونهما.

هامش : العنوان الفرنسيّ للتظاهرة يُوحي بأكثر من معنى، ودلالة : لقاءات سينما المُواطن، أو المُواطنة، أو حتى “سينما مواطن”، أيّ “سينما” أصبحت بمثابة “مواطن”. 


إعلان