جــــاز بصري وسينما وثائقية حرة
رحلة فـي عالم وثائقية محمد سويد السينمائية
* هذا المقال نشرته مجلة الطريق اللبنانية في عددها الأول في صيف 2011 ونظرا لقيمته النقدية ونموذجية اللغة التي كتب بها محمد ملص مقاله أردنا أن نعمم الفائدة ونعيد نشره من جديد.

وما تحدثه من تجديد في التعبير السينمائي. أن تكون ” ظاهرة ” بذاتها.
بمعنى أنها تغدو ” فلتة ” أو ” بصمة ” في ما تحدثه من خلخلة في البنية السائدة ، وتغيير القواعد اللغوية ومفرداتها وتجديدها.
وقد لا تسعى هذه الظواهر أن تشكل اتجاها أو مدرسة، بل تنضوي في الاتجاهات الراهنة وتجدد فيها ومن خلالها. لكن الظاهرة تبقى دائما مادة للدراسة والتحليل ومرجعا للتأمل والنقد.
أعتقد أن السينمائي الوثائقي اللبناني محمد سويد، ظاهرة سينمائية خاصة في السينما العربية اليوم. ظاهرة جديرة بالتأمل والتناول، وأن تأخذ مكانتها على خارطة السينما الوثائقية اللبنانية والعربية.
لا أعرف لماذا يبدو لي أن أفلام محمد سويد، توضع تارة على الهامش، وأخرى في حالة الاستدراك، لكنها لم تكن – حسب متابعاتي – في المتن السينمائي أبدا.
في كل تفصيل أو حدث أو خبر أو متابعة، لأي صغيرة تخص السينما في لبنان وفي البلدان العربية، يتم النظر للأفلام التي حققها محمد سويد، باعتبارها خارج السياق الذي لا نعرف من الذي يضعه أو يحدده. وينظر لهذه الأفلام كبوح شخصي وكرؤية ذاتية تطل على القضايا العامة بطريقة شخصية وغامضة، وكأنها ليست أفلاما بعد.
كما ينظر إليها باعتبارها ” مفكرات ” خاصة يمكن مشاهدتها والإطلاع عليها، لكنها ” طفرات”، فهي ليست روائية وليست وثائقية… صحيح أننا نستمتع في مشاهدتها، وقد نضحك أو نسخر أو ننتقـد، لكنها تبقى خواطر على الصفحة الأخيرة. بينما أعتقد أن هذا الذي توصف به هذه الأفلام، هو الذي يدعو لتأملها ودراستها، فهو الأكثر أهمية في السياق الحقيقي للسينما في هذه البلدان.
وأعتقد أن هذا يثير طرح التساؤل حول هذه السينما. وتحديد ملامحها وقيمتها، وما المكانة التي تستحقها في متن السينما العربية اليوم ؟!
قد يحدث أن لا تكون كل الأفلام التي يحققها أمثال محمد سويد من السينمائيين، أفلاما يجب التوقف عندها، وقد يتعثر بعضهم في أفلام ما، لكن ” ظواهر ” كهذه، يجب أن تتضح وتتألق وأن تتكرر في السينما العربية.
ليست محاولتي هنا في التعبير عن رأي، وعن الأحاسيس والأفكار، التي تراودني كسينمائي كلما شاهدت هذا النوع من الأفلام، إلا محاولة لفرد أوراق هذه التجربة.
فأفلام محمد سويد سينما حرة، صادرة عن القلب والوجدان. وهي ” ينما صافية “، تحرضني ليس على التعلم فقط، بل على الكتابة.
***
بعد أن شاهدت للمرة الأولى فيلما لمحمد سويد، أعتقد أنه كان ” تانجو الأمل “، وربما لم يكن فيلمه الأول. خرجت من الصالة وأنا أرتعش. بدا لي كأني أبحث عنه هو لأعانقه.

حين رأيته بعيد جدا. أخذت تهف في داخلي نسائم الصور القديمة، التي كنت قد رأيت سويد من خلالها للمرة الأولى. كانت صور صامتة، بالأبيض والأسود. وكان هو يجلس وراء طاولة من طاولات صحيفة السفير… يستمع لما يتناهى إليه من كلمات إلياس خوري ويسري نصر الله. ويهز رأسه وقدميه بحركة عصبية وينقر بقلمه على سطح الطاولة. بدا وكأنه يترنم بأغنية، لا يريد أن يفصح لنا عنها. ولم نكن نعرف أنها قد تكون لعبد الحليم حافظ. ربما لو عرفنا لقلنا في أنفسنا، سواء عمر أميرالاي أو أنا : ماذا يفعل في السفير هذا الشاب الرومانسي!
لم يقترب سويد بعد لأعانقه. فأخذت الصور في داخلي تصبح أكثر تلونا، قد تكون خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وقد تكون بعدها، لكنها كانت بالتأكيد في الحمرا، وفي ” المودكا ” بالتأكيد الأكثر. وكان محمد سويد قد امتلأ جسدا وحبا وحزنا. هاهو يحاول ارتشاف القطرة الأخيرة والكثيفة في فنجان القهوة، ويحاول بتردد أن يثبت أنه قد ترك التدخين، لكنه واقع في براثن إغراءات متعددة ومختلفة ومتناقضة : أيدخن أم يسافر أم يتزوج أم يعود للنوم أو للكاميرا… لكن ذلك كله يبدو أمامي وكأنه ” تانجو ” للأمل. فروحه ممتلئة بالأسى. ولم يعد يهز رأسه أو قدميه بعصبية، بل يهز قلبه وصوته. وحين يتحدث عن فيلمه القادم، يبدو وكأنه يترنم بأغنية ” أنا لك على طول” على الرغم من أن الفيلم الذي يحكي عنه هو فيلم عن ” الحرب الأهلية “. وحين يتلعثم تحس وكأنه يتردد بين كلمة وأخرى في قصيدة في طور الكتابة.
كنت أعود إلى دمشق، وأحاول أن أستعيد ما كتبه في صفحات السفير، أو في ملحق النهار، ثم أتنقل معه في كتابه ” يا فؤادي ” الذي أنقله معي أينما تنقلت دون أن أعيد قراءته. فيبدو لي وكأنه تعويذة ليس للحظ بل لمقاومة كل هذا الابتذال التي تعيشه السينما في بلداننا.
هكذا يكمن محمد سويد في داخلي كتلة حية، نابضة، وذاكرة مفعمة بالانطباعات والأفكار والصور والأسئلة. ذاكرة تبدو مغلفة بشرائط من ” النيجاتيف ” صورت لكنها لم تظهر بعد. وقد تحتاج بعد تظهيرها، أن تدخل صالة المونتاج. فهي ما تزال مخضلة، تشبه مفكرة شخصية ما تزال في حالة من الهيولى بعد، فيها صفحات من الخطوط العريضة، أشبه بمسودات لأشياء كثيرة مؤجلة، أو لم يتم قراءتها بعد، أو تأملها أو إعادة صياغتها من جديد. أو تمزيقها ونسيانها، كأنها عناوين عامة أو أفكار لحكاية لم تكتمل. وتشعر بالحيرة في ما الذي ستفعله بها.
لم ألتق سويد مرة في تصوير أفلامه، فقد كنت أحس أن التصوير بالنسبة له، حميمي وخاص إلى تلك الدرجة، وكأنه ” فعل الحب “. ولم أكن قادرا على أن أفسر، أنه حين كان يترنم بأغنية أنا والعذاب وهواك، هل كان يقصد امرأة أحبها أو السينما أم بيروت أو لبنان كله. أم أن كل ذلك متداخل ومختلط ؟!. وأن نداءه ” يا فؤادي ! ” يعني أن السينما لديه ليست إلا سينما “الفؤاد”. فقلبه كاميرا تحملها النسمة أو الريح، تهف أو تهب، تترامى أو تعصف، فيحط الفؤاد على هوى غامض. وأن عينيه عدسات تستبدلها أهواء ذاتية وشخصية، فيستجيب عقله أو وعيه لقدريتها، ويتحكم بوضوحها عالمه الداخلي الغني بتجاربه المفردة في فضاء الصورة، لتحاور تجارب الحبيبة والأصدقاء والجيل كله، على ما جنته يداه وعلى ما آلت إليه التجربة. فتطل التجربة من حيث يتوقع هو ولا نتوقع نحن، ومن حيث توقعنا ولم يتوقع هو…
حين أقرأ خبرا عن فيلم جديد حققه سويد، أتوقف عند عنوانه فأجد نفسي تضم صفحات جديدة من الأفكار ومن الأسئلة إلى الصفحات التي لدي. فأنت تحس أن سويد نفسه موجود في عناوين أفلامه، في موضوعاتها، بأساليب تعبيرها الأدبي، وصياغتها السينمائية، في خيباته وتألقه، في حماسه وعدميته، بل حتى في غياباته وحضوره، وفي صوته وصمته.
لن أخفي أنه كلما كانت هناك فرصة لمشاهدة فيلم لمحمد سويد، تتسلل إلى داخلي مسبقا، متعة غامضة، تشبه تلك المتعة التي تحسها حين يرمي صديق بين يديك ” مفكرته ” الخاصة لتتجسس على عالمه. وحين تعبر من أمامك الصورة الأخيرة في الفيلم، تتناغم أطياف هذه المتعة. لكن العازف قد توقف عن عزفه. وأنت مستلب من أصداء صور ما يزال طعمها بين يديك، ودفؤها على أصابعك، ورائحتها تعبق في داخلك. وأنه لم يكن بين يديك إلا صفحة من صفحات هذا الألبوم الوجداني، حيث الصور والكلمات واللوحات والأغنيات المسجلة على عجل على أشرطة كاسييت قديمة، والصفحات المنتزعة من دفاتر كأنها دفاتر مدرسية، وأن صاحب هذا الألبوم يعتذر عن تسويده لكلمات لم يعد يريد لنا أن نقرأها، ويعتذر أيضا أن قلمه قد جف حبره. لكنه استمر يخط ما يريد قوله فارتسمت كلمات لا حبر لها. وأنه لا مانع لديه أن تعرف أثار صور كان قد اقتلعها، واستبدل صور أمه أو أبيه في الألبوم بصور شخصيات عثر عليها أو تعارف مع أصحابها، فوضعها مكانها، لأنها تشبهها أو تناقضها، أو اختارها لأسباب غامضة. يشتهي الحديث عنها.
مفكرة شخصية وألبوم لصور عائلية التقطت في أزمنة وأمكنة وكأن الصدفة هي التي تحكمها، والعائلة هي الفكرة، وهي الموضوع، ينظمه بخفاء ويلهث وراءه وينسقه عقل سينمائي جميل ودقيق يعي أن للسينما سحرها الخفي.
الجاز ليس موسيقى استعراضية أو عابرة أو طارئة. إنها موسيقى التماس والتلامس والاقتراب والرائحة والإيقاع… موسيقى الحميمية واللقطة المقربة. موسيقى الهمس، البوح، التوازي والندية، لا المبارزة ولا الصراع. وسينما سويد على هذا النحو، تشبه الجاز بتفردها وألمها وحريتها.
ترى هل هذه الحكايا المتخثرة هي حكاية سويد نفسه، أم حكاية الشخصية التي اختارها ؟! فهو دائما يحب أن يحكي حكايته ليس من خلاله، وليس من خلال الآخرين، بل من خلال شخصيات لا علاقة لها بالشخصية التي يتحدث عنها. وليس عن ما جرى لهذه الشخصيات بل ما جرى بشكل عام في البلد.
كان أندريه بازان قد وجد أن الصورة الفوتوغرافية تسجل صورة الواقع في لحظة معينة بينما السينما توغرافيا تسجل صورة الواقع في ديمومتها الزمنية. إن تطور لغة السينما تميز بوجود تيارين : مخرجون آمنوا بالواقع ومخرجون آمنوا بالصورة. وهؤلاء يحققون سينما تأويلية تفرض دلالة للحدث لا تكمن في صورته إنما في موقف المخرج تجاهه.
وكان تاركوفسكي قد قرر أن الصورة الفيلمية تصبح فقط سينمائية حقيقية عندما تعبر عن الحياة نفسها وليس عن الأفكار، وعندما تصف الحدث وتترك الزمن يعيش داخل الصورة. ويبين أن المخرجين ينقسمون إلى فئة تخلق عالمها الداخلي الخاص، وفئة تعيد بناء خلق الواقع.
ويعتبر قيس الزبيدي أن السينما المعاصرة ليست امتدادا لأحد هذين الاتجاهين بل هي نتاج تركيبهما المبتكر والمعقد
على الرغم من إيمان محمد سويد بذلك كله، إلا أن معلمه الأول هو ” غودار ” وعلى الأخص في الشجاعة في تفكيك اللغة وإعادة تركيبها من جديد.
إذا كانت سينما سويد تشبه الجاز، فليس غريبا أن يكون أوائل أفلامه بعنوان ” تانجو الأمل” 1998، وأن يكون مهدى لنور الهدى.
تانغو الأمل فيلم حميمي وخاص. وهو هام على أصعدة عدة : على صعيد السينما كسينما. على صعيد السرد والبناء. وعلى صعيد المواجهة مع الذات والمكاشفة الصادقة مع المتفرج. وأكثر الأشياء ” تفرداً ” وخصوصية في الفيلم، والتي ربما لم يملك بعد، أي واحد منا الشجاعة للإقدام عليهما، هي أن تأتي بالحدث والشخصيات إلى التصوير، ليس من أجل أن تقوم أنت كمؤلف برسمها، بل لتقوم هي برسمك. فمَنْ عليه أن يرسم مَن ْ ؟.
فيلم ” تانجو الأمل ” فيلم يرفض نوعه، ويسعى لاكتساب نوعيته بالانتماء إلى سينما تماهي في بنيتها بين الروائي والتسجيلي، وتنطلق من الحال الوجداني، لتعيد إنتاجه وثائقياً أمام الكاميرا، ولتنسج ” صورتها ” من أجنة، تختارها كما تهوى دون حدود، وتطرح الأسئلة في فضاء سينمائي يحضنه صدق يسعى إلى التماثل والمجاز.
فيبدو محمد سويد في فيلمه هذا، سينمائي حر، لا يتبني من أي جهة سواء نقدية أم إنتاجية ما تطالبه به، ويعبر عن عالم سينمائي مستقل فعلاً، في سينماه، وفي مصير فيلمه. من هنا يشعر المرء بالغبن والزور وهو يشاهد ” موالد ” النقد، وحفلاته الصاخبة عندما تتبنى سينمائياً أو فيلماً، فتهلل له خارقة الكثير من قيم السينما ومشروعها الثقافي، في وقت يبقى فيه فيلم كتـانجو الأمل بعيداً عن الضوء.
يعتبر رولان بارت أن مبرر المذكرات الحميمية، لا يمكن إلا أن يكون أدبياً بالمعنى المطلق للكلمة. فإذا اعتبرنا أن تانجو الأمل هو تصفح سينمائي لمفكرة حميمية، يتربص بروحها توق لتأمل الحاضر عبر ذاكرة الماضي الممزق، واعتبرنا أن محمد سويد في خياره هذا يمررنا على صفحات ذات مذاق أدبي. فإن قراءتنا للفيلم ستبقى محكومة بخياره هذا، والذي هو في الوقت نفسه تأكيد لطموح هذا السينمائي في أن يعبر عن نفسه ككاتب، تارة على شريط الفيلم وأخرى على الورق.
وإذا كان التوق إلى الماضي يبدو حنيناً ملتبساً لدى الكثيرين، فإنه عند محمد سويد، ليس توقاً مطلقا ً، بل توق إلى زمان السينما ومكانها من أجل تأمل متجدد للحاضر والماضي.
فالتأمل في كل ما كتبه من مقالات أو كتب أو نقد سينمائي، وفي كل ما حققه حتى الآن من برامج وسهرات تلفزيونية وأفلام، يجعلك تحس بأنه دائماً في حال من العشق ومن الشعور بـ« الغربة « مما يجعله دائماً يبحث وبهوس عن طريقة لكسر غربته بتكسير نمطية التعبير وتجديد صيغها.
ها هي واحدة من شخصيات فيلمه، تخبرنا عنه بأنه منذ طفولته، كان يجد اللذة في كسر اللعب وإعادة تركيب شظاياها في أشكال أخرى. وهو نفسه في فيلمه يشعر بالوجع من قصص وحكايات عالقة على صفحات روحه كنتف ومزق، تضمها مرحلة ويجمعها مكان هو بيروت، فينثرها في مثلث ضلعيه المتساويين : أحدهما أمام الكاميرا، والآخر وراءها، أما قاعدته فهي المرآة التي ينعكس عليها زمان ومكان الحكايا وظلالها.
وباعتبار أن المؤلف وراء الكاميرا، وهو شخصية داخل الفيلم، فإنه يستعير شخصية لتقوم بأداء دوره في الصورة، ومن يستعير منه صوته ليروي نيابة عنه. فانه يبدو على حقيقته كإنسان لا ينتمي إلا إلى السينما. وأن السينما وجوهر ” التوق ” في فيلمه، يحول الحياة سينما:
الطفولة هي صورة، الصبا كاميرا، الأم ممثلة، الأب صاحب صالة سينما، الحب ممثلة التاريخ في الأفلام، البيت بلاتوه التصوير، الأصدقاء مخرجون ومصورون وممثلات، الطعام رسوم متحركة، الموسيقى أغاني في الأفلام، والأمثولات والعبر تأتي على لسان ممثل في فيلم من الأفلام. فتبدو لنا السينما كأنها الحياة، والحياة ليست إلا فيلماً من أفلامها.
بهذا المعنى تبدو الحالة الحميمية في الفيلم رحلة ” عوليسية ” في صفحات الخرائب، وتبدو وشوشة العاشق لوعة تترسب في قعر الشاشة. وإذا كانت الكاميرا ” لعبة تجرح ” فكيف نرقص تانجو الأمل ؟ أين ؟ متى ؟ لماذا ؟ ومع مَن ْ ؟ قراءة بالكلمات لنص بالصور والبحث عن اللقطة المأثورة.
أعتقد أن كل مخرج سينمائي، بعد أن ينتهي من تصوير فيلمه، ورغم أنه صور اللقطة الأولى التي سيبدأ بها الفيلم، فإنه وأمام طاولة المونتاج يعيش هوس البحث في المادة المصورة كلها، للعثور على لقطة، ليستخدمها كمفتاح يسبق البداية، ربما يخامره لحظتها أن يتحدى تصوراته، أو أن يتواطأ مع فيلمه ضد نفسه، ربما سيعثـر بين ركام اللقطات المرمية على اللقطة، التي ستكون مجازاً ما، أو سجادة صلاة ليقف عليها المتلقي قبل البدء في الفيلم.

في تانجو الأمل يضعنا المؤلف أمام سواد الشاشة فنسمع صوت مزلاج يفتح، فتتـفتح الشاشة مع هذا الصوت، ونرى أنفسنا أمام لقطة يتصدرها باب لا ينفتح. لا تتقدم الكاميرا منه بل تتراجع عنه وتهبط إلى الأسفل. وفي هبوطها ندلف إلى السواد من جديد. حينها يهدي الفيلم إلى نور الهدى. وبعد لحظة من هذا السواد المتمهل، والذي يعتقد المؤلف أننا خلاله قد رفعنا أيدينا مبتهلين، تظهر على الشاشة الكلمات التي سندعو بها مع أندريه تاركوفسكي للرب كي ينقذنا من أن لا نفقد كل شيء. فأحسست أنه في هاتين اللقطتيـن قد سكب لنا الماء لنتوضأ …
فكما في أي مقدمة لعزف الموسيقى، فإن افتتاحية هذا التانجو، تبدو وكأن المؤلف يفرش النوتات ويـدوزن الآلات الموسيقية، فيخرج إلينا من ذاكرة سينمائية بعيدة صوت يوسف وهبي ليخبرنا بأن محمد عبد الوهاب ” حـا يغني قطعة يؤلفها له دي الوقت … وموضوعها الإنساني يلي بيحب..” فتستعرض الكاميرا وجهاً وتجوس خلاله لتصل إلى العين فتـقـف عندها، فتبدو لنا وكأنها تستعيد صوراً فوتوغرافية لذاكرة قديمة، بينما يتناهى إلينا صوت أغنية تانجو الأمل. تنتهي هذه الافتتاحية بلقطة طويلة جداً لرجل عجوز يريد أن يجلس في الشارع.
ما الوسائل الممكنة للتعبير عن الأحاسيس التي تتركها لدينا لقطة ذلك العجوز الذي يريد أن يجلس في الشارع ؟
يقدم لنا سويد صورة لرجل عجوز يدير لنا ظهره، ويدفع كرسيا أمامه بوهن شديد و تصميم، مسافة قد لا تتجاوز المتر الواحد، وذلك ليجلس على هذا الرصيف. ترى هل يبذل كل هذا المجهود ليجلس في بقعة أكثر أمانا ً ؟ أكثر ملاءمة للرؤية أم أكثر هدوءاً ؟ ثم بعد أن يختار مكانه ويجلس… ما الذي يجعله ينهض ليعود بكرسيه ربما سنتميترات قليلة، ثم يعود بعدها ليجلس ويتأمل، ماذا يرى في تأمله هذا ؟ الفيلم ؟
![]() |