ريد جريف..عندما تكون وثائقية

ذات مرة توقفت الممثلة البريطانية الشهيرة والفنانة الكبيرة فانيسا ريد جريف لتسأل الناقد والصحفي العربي نجم عبد الكريم ،قائلة له: أنا افهم لماذا تهاجمني المنظمات الصهيونية، لكن الذي لا افهمه كيف يهاجمني بعض العرب وأنا اناضل من اجل قضيتهم في فلسطين؟

حسام الدين السيد

لم يجد الكاتب العربي ما يقوله لها بالطبع، وروى هذه القصة في احدى مقالاته بجريد الشرق الأوسط ، ومعها حكاية مكملة عن محاولته حشد العرب ليتظاهروا في مساندة للريدجريف ضد الصهاينة الذين شنوا عليها حربا شعواء، إلا أن خطيب الجمعة بأحد مساجد لوس انجليس الأمريكية اخذ يوبخ من يشارك في تأييد امرأة وصفها بأنها “شيوعية” حتى لو كانت تناصر الحق الفلسطيني وتعادي الصهيونية ودفعت مقابل ذلك الكثير من حياتها ومالها وسمعتها ..
تذكرت هذا الموقف وانا أتابع الحفل الرائع والحدث التاريخي غير المتكرر حيث انتقلت جائزة الأوسكار إلى لندن مساء الأحد 13 نوفمبر2011 ، حين كرمت الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية التي تمنح الجائزة، الممثلة البريطانية فانيسيا ريدجريف في أول تكريم من نوعه يجري في أوروبا.
وقدم الكاتب المسرحي البريطاني ديفيد هير الحفل في دار سينما بوسط لندن وشارك نجوم من بينهم ميريل ستريب، ورالف فينس، وجيمس ايرل جونز في تكريم ريدجريف التي تمتد مسيرتها المسرحية والسينمائية لأكثر من 50 عاما.
وقال هير في بيان “أينما ذهبت في أنحاء العالم، يعرف الناس فانيسا ريدجريف ويكنون لها الاعجاب”. وأضاف “ليس هناك كثيرون تألقوا في تاريخ السينما لمدة 50 عاما لكن توجد هنا واحدة من بينهم”. وأعد هير ثلاثة مقاطع سينمائية لاستعراض أعمال النجمة البريطانية المخضرمة.
وولدت ريدجريف (74 عاما) التي تشارك حاليا في مسرحية (سائق السيدة ديزي) التي تعرض في لندن في أسرة فنية ذائعة الصيت أبوها هو الممثل البريطاني السينمائي والمسرحي الكبير مايكل ريدجريف الذي لعب بطولة فيلم “السيدة المختفية” أحد أهم أفلام المخرج البريطاني العالمي “آلفريد هتشكوك”، وأمها “راشيل كيمبسون” الممثلة المسرحية البريطانية، وأختها هي الممثلة البريطانية لين ريدجريف، وأخوها هو كورين ريدجريف الممثل البريطاني، بل إن جدها روي ريدجريف كان ممثلا مسرحيا وشارك في تمثيل العديد من الأفلام الصامتة في أستراليا. ولذا يمكننا القول بأن التمثيل كان قدر فانيسا بشكل أو بآخر.   حيث بدأت العمل في المسرح في أواخر الخمسينيات وسرعان ما انتقلت إلى عالم السينما ورشحت للأوسكار ست مرات كان أولها عن دورها في فيلم (مورجان) عام 1966.
 وفازت بالجائزة مرة واحدة كأفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم (جوليا) ، وكانت هذه نقطة مفصلية في حياتها ، ففي هذا الفيلم “جوليا” عام 1977 الذي لعبت فيه “فانيسا” دور إحدى بطلات المقاومة في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان هو الذي دفع بها للتعرف على مأساة الشعب الفلسطيني. وقررت حينها أن تقوم بإنتاج فيلم تسجيلي عنه، فباعت منزلا لها وجزءًا من مقتنياتها لإنتاجه، ولتدخل إلى الأعمال الوثائقية من أكثرابوابها سخونة وتحد، باب الوقوف امام الصهيونية ومقاومتها.

وفي خطابها أثناء استلام جائزة الأوسكار قالت فانيسا: “أنا ضد الصهيونية، ولكني أقف إلى جانب اليهود في نضالهم ضد الفاشية والعنصرية، وأتعهد بأني سأواصل الكفاح ضد معاداة السامية والفاشية”.
وقالت مخاطبة لجنة الجائزة:” اشكركم جدا على هذا التقدير لعملي، اعتقد أن جين فوندا (البطلة الأولى للفيلم) وأنا قدمنا أفضل عمل في حياتنا ، وأنا احييكم واعبر عن تقديري لكم ، واعتقد أن عليكم أن تشعروا بالفخر،لأنكم تمسكتم بصمودكم خلال الأسابيع القليلة الماضية ،ورفضتم الخضوع لتهديدات زمرة صغيرة من السفاحين والمجرمين الصهاينة، الذين يعد سلوكهم إهانة للمكانة التي يتمتع بها اليهود في العالم “

فيلمها الوثائقي الأشهر حمل عنوان “الفلسطيني” من إخراج ري باترسباي حيث حضرت النجمة البريطانية إلى الشرق الأوسط للقاء عدد من أطراف القضية، من بينهم ياسر عرفات (الرئيس الفلسطيني)، كما زارت مخيم تل الزعتر، ونجحت في إنتاج فيلمها، وهو ما أثار حفيظة التجمعات الصهيونية، خاصة في الولايات المتحدة ضدها، واتهموها بالمعادية للسامية، واحتجوا بشدة على فوزها بأوسكار أحسن ممثلة مساعدة في 1977.
سبب لها هذا الخطاب الناري الذي القته في حفل الأوسكار متاعب كثيرة، فتعرضت لضغوط من جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية لتعدل عن موقفها المناصر للفلسطينيين، الذي عرضته في فيلم “الفلسطيني”، ولكن فانيسا لم تتزحزح عن موقفها الذي يتسق مع جملة مواقفها السياسية والاجتماعية. ففانيسا عضوة نشطة وقيادية في حزب “العمال الثوري”، وهو حزب صغير في بريطانيا، ولكنه فاعل جدا على المستوى السياسي والدولي، وله علامات كثيرة مع الكثير من الأحزاب العربية، ويناصر المهاجرين في إنجلترا ويدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومعادٍ بشدة  للصهيونية وإسرائيل.
عندما كرمها العرب في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2002 باعتبارها ضيفة شرف المهرجان، ردت هي التحية بخير منها، وذلك بإحضارها فيلما وثائقيا آخر من إخراج ابنها، وعرضته في المهرجان ، وكان بعنوان “الحمى” وهو يتناول الآثار المدمرة للعولمة، واعقبته بندوة موسعة مع السنمائيين الذين شاركوا في المهرجان آنذاك . وفي عام 2008 شاركت ريدجريف في مهرجان ابو ظبي وعرضت فيلمها الوثائقي الأشهر “الفلسطيني” .
وفي اثناء الإحتفالات البريطانية بمناسبة مرور خمسين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، قررت ردجريف أن تحتفل بطريقتها الخاصة، وبما يتناسب مع التزامها السياسي والأخلاقي ، فعرضت مجموعة من المسرحيات المميزة على مسرح ريفر سايد الذي تمتلكه في لندن ، وكان من بينها مسرحيتان فلسطينيتان هما  ” المهاجرون” و” المتشائل” وتم عرضهما باللغة العربية .
ربما سيرة ريدجريف ومواقفها معروفة للمهتمين بالفنون والسينما على وجه خاص، وربما هناك عديد من الفنانين اصحاب المواقف السياسية المؤيدة للحقوق العربية، والمساندة للنضال ضد الظلم والعدوان في كل مكان، وطبعا من اشهرهم الآن في الولايات المتحدة المخرجان النيويوركيان الكبيران،وودي آلان ومارتن سكورسيزي، و المخرج المعروف مايكل مور صاحب العمل الوثائقي الاشهر ضد الحرب على العراق 9/11 ،بالإضافة لنجوم هوليود الكبار تيم روبنسون وسوزان ساراندن ومورجان فريمان ووبي جولدبرج، وايضا جورج كلوني وشون بن الذي زار بلاد الثورة العربية مؤخرا وجال في شوارعها.

لكن رغم كل هذه النماذج الملهمة ، والمواقف التي لاتكتفي فقط بالتعبير السياسي المباشر ، والقاء الخطب والكلمات، لكنها تظهر في اعمال سينمائية ووثائقية تعمق الرسالة وتؤكد على دور الفن في صناعة الوعي والنهضة ، فإن من يلقي نظرة على الفنانين العرب وخصوصا في بلاد الثورات العربية، سيصيبه حيرة واسى، فغالبيتهم تساند أنظمة القمع وتقتات من موائدها وتنتفع بالتطبيل لها، وقليل منهم من ساند الثورة وانتمى إلى حق الناس في التعبير والحرية والديمقراطية، واقل منهم من التزم في سيرته واعماله بمناصرة القضايا العربية بأعمال فنية غير دعائية وذات مستوى، وأقل القليل هم من اتسقت اقوالهم مع افعالهم ومع مبادئهم على طول الخط، ،ولا نكاد إلا فيما ندر نجد نماذجا واضحة وثابتة  نتباهى بها بين العالم ،على مدى أكثر من خمسين عاما بوضوح وثبات الفنانة البريطانية فانيسا ريدجريف، التي انتقل الأوسكار لها تكريما، وبقينا نحن العرب ، نطبق المثل المعرف ، عن الصلعاء التي تتباهى بشعر بنت اختها.


إعلان