السينما الوثائقية ليست بديلا ولكنها طريقا موازيا

الأفلام التي سيتمّ تصويرها بعيدا عن خلفيّة الثورة هي التي سيكون لها صدى أكبر

قدم المخرج التونسي رضا الباهي عددا هامّا من الأعمال الروائية والتسجيلية والوثائقية على مدى مسيرته منذ بداية السبعينات وإلى اليوم، حيث تخيّر لأعماله مسارا واضحا حمل بصمته الخاصة من البداية. وهو  مع جانب النوري بوزيد الثنائي الأكثر غزارة في إنتاج وإخراج الأفلام في تونس.
تحمل أعمال الباهي الذي ظلّ مخرجا ومنتجا في جلّ أعماله تقريبا تصوّرا خاصا به ورؤية واضحة المعالم سعى إلى تكريسها في أفلامه الطويلة والقصيرة. حصل مؤخرا على جائزة أفضل منتج عربي في الدورة الأخيرة لمهرجان الشرق الأوسط السينمائي عن فيلمه “ديما براندو”.. عن هذا العمل الذي نال حظا كبيرا من الاهتمام قبل عرضه وعن جوانب أخرى من مسيرة الباهي كان هذا اللقاء…

تونس – صالح سويسي

تابعنا عديد المقالات الصحفية التي تحدثت عن تعطيلات ومشاكل رافقت تصوير فيلم “براندو”، ما مدى صحة هذا الكلام؟
هذا غير صحيح، وهذا نوع من المغالاة والمبالغة في أنّ الفيلم بقيَ سنين وسنين.. أنا فكرت في تصويره سنة 2004، والتقيت مع مارلون براندو من مارس إلى يونيو من نفس السنة، في شهر يونيو توفي براندو فانتهى المشروع. لكنني في سنة 2010 قررت أن أواصله وأكمله. وفي تلك الفترة قدمت أفلاما تسجيليّة وعملت مع الجزيرة الوثائقية وقدمت سيتكوم للتلفزيون التونسي ودرّست في الجامعة. لذلك هذا نوع من المغالاة وأنا قرأت كثيرا حول هذا الموضوع، أي أنّ الفيلم تعطل لستّ سنوات. ببساطة مات الممثل براندو والمنتجون الذين راهنوا عليه انسحبوا. وبما أنني صرفت على العمل وبما أنّ بطل الشريط ليس براندو فقط، بل هو أيضا أنيس الرعاش.
إذن ثمّة تغييرات طرأت على الفيلم بعد موت براندو؟
براندو لم يعد الشخصية الرئيسة في العمل، ثمّ إنّ دور الممثل التونسي أنيس الرعاش الذي يشبه براندو في شبابه مهمّ أيضا، وكنت اتصلت به قبل الاتصال بالممثل الأمريكي “براندو” نفسه، وكان أنيس قد شارك سابقا بدور في فيلم “الزازوّات” لمحمد العقبي. وفيلمي بصيغته الجديدة تغيّر ليصبح في أكثر من أربعين بالمائة وثائقي ويحكي تجربتي مع مارلون براندو ورؤيتي وموقفي من السينما الأجنبية التي تصور في البلدان العربية. إذن عملي ليس فيلم الممثل، القرية وشخوصها مثلا تأخذ حيّزا أكثر من الممثل، شخصية المؤلف (رضا الباهي) حضورها مهمّ جدا في الفيلم. فالعملية ليست مراهنة على ممثل بقدر ما هي  مراهنة على فكرة أو تصور.
في ذات السياق، ما هو موقفك من الأعمال الأجنبية التي يتمّ تصويرها في البلدان العربية؟
منذ الطفولة كان لي موقف ضد تصوير الأفلام الأجنبية التي تأتي لتستغلّ الشمس ولتجد الكومارس والجيوش بأسعار زهيدة على حساب كرامة الشعب. وكنت عشت حادثة هامة في طفولتي  وهي “الله أكبر ما يمشيش” أثناء تصوير شريط “لص بغداد” في القيروان سنة 1961 حيث أدخل الفريق الإيطالي خيولا إلى صحن جامع عقبة بن نافع وتمّ تحويل جزء من مقام الصحابيّ أبي زمعة البلوي إلى قصر وفيه راقصات وفيه حريم ما اضطر الإمام الخطيب عبد الرحمان خليف رحمه الله إلى تقديم خطبة حرّض فيها الناس ليخرجوا للشارع بأعداد كبيرة. وتتدخل الجيش وكان هناك قتلى ومساجين وقتها وبقيت المدينة تحت الحصار لمدة نصف شهر، وقد عايشت تلك التجربة وأنا ابن 12 سنة وبقيت تلك الحادثة في ذاكرتي لليوم.

ولكن لا يمكن تعميم هذا الموقف على كل الأفلام الأجنبية؟
أنا لا أعمّم، ولكن يجب دائما البحث عن المنتج وأهدافه وتصوراته وعقليته وسياسته. وفي النهاية الفيلم ليس هذا فقط، وهي في الأخير رؤية شخصية ووجهة نظري الخاصة، ولا أطلب من المتلقيّ أن يفكر فيما أفكر فيه.

أفضل منتج عربي

حصولك على جائزة أفضل مخرج في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الأخير، هل هو تكريم لمسيرة رضا الباهي أم اعتراف بنضالك في مجال الإنتاج؟
أنا لم أحاول أن أفسر أو أعللّ ما قررته اللجنة، فقط ما قلته ليلة التتويج أنني “لو كنت منتجا ناجحا لكنت صنعت الفيلم في ستة أشهر لا في ستّة سنوات” ولكنّ نبيل المالح عقّب على كلامي قائلا “لا مخرج أو منتج عربي آخر فكر أن يجازف بالاشتعال على فيلم مع مارلون براندو، من منّا نحن العرب فكر بالسفر إلى أمريكا لإنجاز الفيلم، ثمّ يموت براندو وتصر على إتمام العمل بعد ستّ سنوات”.

أعمالك الطويلة على قلّتها تفصل بينها سنوات طويلة، ثمّ أنت منتج جلّ أعمالك، لماذا الإصرار على الإنتاج رغم أنه مغامرة غير مأمونة العواقب؟
أولا من أجل الحرية الكاملة في الاختبار حتى لا يقال أنّ رضا الباهي طلب منه منتج فرنسي مثلا أن يعرّي “مؤخرة” ممثلة أو أن يحكي عن الرجل العربي والمسلم المخصي ومثل تلك الحكايات التي تقال عن السينما التونسية بالذات. وحتى وإن تطرقت لهذه المواضيع فذلك بمحض إرادتي ولو أنني لم أتطرق إليها إلى حد الآن. إذن لا أريد أن يٌقال أنني رضخت لمنتج أجنبي.
ثمّ هل تعلم أنني مع النوري بوزيد من أغزر المخرجين أعمالا رغم أنّ البداية كانت منذ السبعينات فالوصول إلى ثمانية أفلام يعتبر أمرا جيّدا ورقما لم يصل إليه حتى الذين وراءهم منتجون. وطبعا هذا يحزّ في نفسي ولكنه ليس خطئي. ومع ذلك أنا دائما أبحث عن منتج عربي، ولكن المنتج العربي لو كان في المشرق تهمّه اللهجة المصرية، وفي المغرب العربي أسعى أيضا لإيجاد سبل إنتاج مشترك، ومن المحتمل أن أقدم فيلما تونسيا مغربيّا مشتركا قريبا جدا، والتصوير بين البلدين وهذا يحتّم وجود منتج مغربي. ونفس الشيء ثمة مشروع فيلم في لبنان ولن أدخله إلاّ إذا توفر منتج لبناني، وبذلك أجد هامشا من الحرية في العمل. كما أنني قمت بالتعامل الآن مع منتج شاب هو فوزي الجمل، وهذا جيد لأنني ربما أجد في شيخوختي منتجين شبان ينتجون أفلامي لأن تحركاتي ستقل وتنقلاتي أيضا.

إذن غايتك الأولى والأخيرة وهدفك هو ضمان هامش الحرية في أعمالك وعدم الرضوخ لإملاءات المنتجين الأجانب؟
المنتج الفرنسي أو الهولندي أو البلجيكي اليوم لم يعد مهتمّا بالسينما التونسية لأن هذا المنتج الذي اهتمّ سابقا بنفيدة التلاتلي أو قريد بوغدير أو النوري بوزيد، هو في الأساس منتج اعتمد على دعم دولته المادي وأخذ أموالا منها، فلولا إعانة تلك الدول لما دخل هذا المنتج لأنه لا يساهم ولا يجازف بأمواله الخاصة.
لذلك لابد أن نكون صريحين مع أنفسنا، لأنّ ثمة خلطا ومغالطة للمشاهد العربي، فالمنتجون الفرنسيون مثلا مجال الإنتاج في السينما التونسية باسم “شاشات الجنوب” أو “وكالة التعاون الفرنكوفوني” أو “المركز السيتمائي الفرنسي”، لأن المؤسسة الفرنسية لا يمكنها تقديم الدعم لمخرج تونسي بشكل مباشر، فيتدخل المنتج الفرنسي وتصبح التكلفة أكبر ويملون شروطهم. بالنسبة لي ضربت العصفورين بحجر واحد، منتج فرنسي في فرنسا ومنتج تونسي في تونس وهكذا مع كل أفلامي حتى أقطع عليهم تلك الفرصة للربح وإملاء شروطهم.
ولكن في رأيك لماذا يلهث كثيرٌ من المخرجين التونسيين خلف ذلك الدعم المغلّف بالشروط والإملاءات؟
طبعا بسبب قلة الموارد الداعمة للسينما التونسية، وسوق السينما التونسية معدومة تقريبا وحينما تعلم أن التلفزيون الخليجي مثلا يشتري الفيلم التونسي بثلاثة آلاف دولار !!!
قاعات السينما معدومة، التوزيع معدوم، إذن من أين سيأتي المخرج بتلك الأموال؟ الحل في دعم وزارة الثقافة إن وجد أو إن اقتنى منه التلفزيون التونسي العمل مسبقا، وأنا شخصيا لا أدين أيّ مخرج لأنه لا حلّ أمامه،  علما أن معدل ميزانية الفيلم التونسي تترواح بين 800 ألف دينار إلى مليون و 200 ألف دينار وما عدا الوزارة التي تدعم العمل بـ 35 بالمائة فلا حلول أخرى، لذلك على المنتج أو المخرج أن يتحرك بنفسه لجلب الموارد التي تدعم عمله.

البعض وجد الحل في الأعمال الوثائقية أو التسجيلية، أليس كذلك؟
السينما الوثائقية ليست بديلا، هي ربما طريقة موازية ليعبّر بها المخرج عن تصوراته و أفكاره، وحتى نكون صادقين، أحيانا حين يبقى المخرج عشر سنوات مثلا بدون عمل وهذا مصدر رزقه الوحيد، لذلك يجد نفسه مضطرا للعمل في مجال الإعلانات مثلا ليقدم أفلاما دعائية  للبسكويت أو “اليوغرت” أوالشكلاطة  وثمة من يتوجه لتقديم أعمال تسجيلية مهمّة  فيها مواضيع مهمّة وطروحات معينة يضمن منها عيشه وعيش عائلته وإيجار البيت الذي يسكنه… فإما أن تكون لديك كرامة وأخلاقيات ولديك رؤية تدافع عنها في كل أعمالك على اختلافها، أو أن تدخل دائرة البيع والشراء حتى تكسب القوت، إذن هذه هي المعادلة.
 السينما التسجيلية موجودة كي يمارس المخرج مهنته كمخرج أو مؤلف سينمائي، وفي انتظار أن ينجز فيلما روائيا كل سبع سنوات مثلا يكون وقتها قد صنع عددا من الأفلام التسجيلية التي تعبّر عنه وعن رؤيتة وتوفر له العيش الكريم، لأن المخرج كالجرّاح يجب أن يمارس مهنته حتى لا ينسى أدواته وآلياته.

كثرت الأفلام حول الثورة التونسية، وأنت أيضا عملت على تقديم عمل له علاقة بالثورة ولكن يبدو أنك تخيّرت توجها مغايرا؟
زملائي منذ 14 يناير خرجوا لتصوير كل الأحداث سواء في شارع بورقيبة أو القصبة وفيهم من تنقل للأرياف، وأغلبها أعمال في شكل ريبورتاجات أكثر منها أفلام. بالنسبة لي ومن أول وهلة راقني موضوع المساجين الذين تمّ إطلاق سراحهم دون أن يعلم أحد للآن لماذا حدث ذلك ثم تتمّ ملاحقتهم ما سبب موت بعضهم، وبقي موضوعا غامضا مثل موضوع القنّاصة بالضبط. فتوجهت إلى مدينة سوسة أين التقيت عددا من المساجين الفارين والمختبئين في مناولهم، وفيهم من حرق أثناء عملية الهروب الجماعي بعد أن تمّ حرق أجزاء من السجون التي يقيمون بها. اكتشفت بعد ذلك سيناريو آخر مشترك وهو أنه أغلبهم مسجونون من أجل المخدرات، والطريف في الأمر أنّ البائع هم أبناء بن علي أقارب الرئيس المخلوع والقاضي الذي يحكم عليهم نفسه والمحامية التي تقوم بعملية المساومة هي نفسها، إذن وجدت أن اللعبة محبوكة على طريقة المافيا الإيطالية في الأربعينات  والخمسينات، وكأنني أمام رواية فتابعت مجموعة من المساجين وحاولت الغوص في تفاصيل حياتهم من أجل إضاءة أخرى حول النظام السابق دون إغراق في السياسة بقدر ما هو تحليلي اجتماعي لتلك الحالات في ظروف الثورة، الفيلم الآن في طور الإنتاج ومن المنتظر أن يكون 52 دقيقة.
يبدو أن الأعمال الروائية تستهويك كثر من غيرها، لأنه كان يمكن أن تقدم عملا تسجيليا أقرب للريبورتاج؟
أنا لست ضدّ الريبورتاج، ولكن المشكلة دائما هي”ماذا نريد أن نقول”، وأفلامي التسجيلية الوثائقية لا تحمل دائما رواية، وبحكم دراستي لعلم الاجتماع كان هاجسي دائما حتى في العمل الروائي أن أضع المتلقي أمام وضعية اجتماعية معينة، ثمّ إنّ التمشي الذي أعتمده عادة ما يكون علميّا اجتماعيّا، فلا أحب أن أقدم شخصيات اعتباطية بل أفضل البحث في عمق الشخصية. ومن هنا أجد في التسجيلي فرصة لتقديم خلفية محددة وموضوع المساجين جعلني أتحدث عن شخصيات حية، الريبورتاج موجود في التلفويون وأنا مخرج سينمائي. فالمطلوب من المخرجين عند إنجاز فيلم وثائقي أو تسجيلي أن تكون لديهم الرؤية والأسلوب والطريقة لأن السينما الوثائقية مدارس. من السهل أن تخرج كاميرا وتصور ثم تقوم بالمونتاج ولكن لابد من توفر الرؤية السينمائية كذلك وليس فقط الرؤية السياسية ، فيها العمق والتقطيع الفنّي وهنا تكمن المتعة. أنا قدمت إلى حد الآن أكثر من عشرين فيلم وثائقي من السبعينات إلى الآن وكلها أعمال وثائقية وليست روائية.

هل دور المخرج السينمائي أن يوثق للثورات؟
على المخرج أن يوثق تسجيليا أو روائيا إذا أحس ضرورة ذلك، فالمسألة أشبه بامرأة حامل، إما أن يكون لها جنين في أحشائها أو لا. كثيرون ذهبوا وصوّروا  دون مرجعيات أو خلفيّات وبالمقابل ثمّ آخرون لهم ما يضيفونه وصوروا انطلاقا من رؤية خاصة ومن وجهة نظر شخصية وهذا مهمّ لن التاريخ كان دائما مكتوبا بوجهة نظر معيّنة، التاريخ ليس موضوعيا في كل مرة المنتصر هو من يدوّن التاريخ. إذن الفيلم الروائي أو التسجيلي الذي يتمّ تصويره في فترة معيّنة سيكون وثيقة.
وأعتقد أن الأفلام الروائية التي سيتمّ تصويرها بعيدا عن خلفيّة الثورة هي التي سيكون لها أكثر صدى وتعبر عن الثورة أكثر من الأفلام التي تمّ تصويرها أثناء الثورة وهذا ما اخترت أن أواصل فيه، لأنه ثمّة من المخرجين من كان سيناريوهات أفلامهم جاهزة قبل الثورة لكنهم تعمّدوا حشر الثورة في أعمالهم وهنا سوف يكون للجمهور رأيه في الحكم على تلك الأعمال.

لديك مشاريع جديدة في المغرب ولبنان، هل من تفاصيل؟
الفيلم الأول انطلقت فيه من لعبة تلفزيونية بعنوان “التذكرة الأخيرة” والذي كان يقدم تذاكر سفر للرابحين.  أنا سأتناول الموضوع من وجهة أخرى حيث ينطلق العمل منذ حصول الفائزة على التذكرة وانتقالها للمغرب. والفيلم الثاني انتاج تونسي لبناني مشترك لم نحسم في عنوانه بعد ربما يكون “مدى” أو “زهرة من حلب” وسيجمع عددا كبيرا من الممثلين وسيحمل أيضا مفاجأة سارة جدا، وقريبا سوف نعلن عن تفاصيل الفيلم من خلال ندوة صحفية تعقد في تونس.


إعلان