الشعر التسجيليّ موضوع لقاءات السينما في “مونترويّ
صلاح سرميني ـ باريس
بالتضادّ تماماً مع ما يُكتب في أدبيات الثقافة السينمائية العربية، لا تُعاني السينما التسجيلية من عقباتٍ تحول دون إنتاجها، توزيعها، وعرضها، حيث تخلط هذه الكتابات بين ماضيها، وحاضرها في المشهد السينمائي العربي مع أنه ليس سوداوياً إلى هذا الحدّ، وخاصةً بعد انتشار التقنيات الرقمية في التصوير، والمونتاج.
من وجهة نظري القابلة للنقاش، أُرجع الأزمة الفعلية إلى السينمائييّن أنفسهم، وخاصةً ضعف حماس الكثير منهم لإنجاز أفلام تسجيلية، أو المرور بها، والتوقف عند عملٍ، أو اثنين للقفز مباشرةً إلى الأفلام الروائية الأكثر جاذبيةً، إبهاراً، وجماهيرية.
الحال في أوروبا مختلفٌ تماماً، ومزدهرٌ على كافة المستويات الإنتاجية، والتوزيعية، أكان ذلك في الصالات السينمائية، أو على شاشات القنوات التلفزيونية العامة، والمًتخصصة، إنها حالةٌ من التطور الدائم، وكي لا ننسى، فقد بدأت العروض الأولى في تاريخ السينما مع الأشرطة التسجيلية للأخوين لوميير، وغيرهما، واستمرت لفترةٍ طويلة قبل أن يستحوذ عليها التلفزيون، ويجعلها واحدةً من متطلباته البرمجية الرئيسة، ومع أنه ساهم في تنميطها، وتحويلها إلى تحقيقاتٍ، وتقارير صحفية، إلا أنه، في المقابل، أكسبها أماكن عرضٍ في كلّ بيت (كما فعل مع الأفلام الروائية الطويلة)، وساهم في انتشارها، واستقطب لها جمهوراً، وحتى عشاقاً للأفلام التسجيلية بكافة تصنيفاتها الموضوعاتية (وأنا واحدٌ من الذين يميلون إلى مشاهدة أفلام عن الطبيعة، البيئة، والحيوانات)، وهكذا، تصبح المُغالاة في تشخيص أزماتها، ونحن نشاهدها ليلاً، ونهاراً عن طريق القنوات التلفزيونية، وصالات السينما بمناسبة المهرجانات، والتظاهرات السينمائية، نوعاً من المازوخية المُزمنة.

ومهما كانت الأفلام التسجيلية قريبة من التحقيقات الصحفية، أو بعيدة عنها (أفلام المؤلف)، فإنها، في جميع الأحوال، مفيدةٌ لنا، حيث نراقب من خلالها العالم، وتساعدنا على فهمه، والعيش فيه، وهي تتجاوز الإطار الثقافي كي تلامس المُواطنة، الأخلاق، السياسة،…، وتغطي مجالاتٍ واسعة، ومثيرة، وقد بدأ متابعيها تزايد أعدادهم يوماً بعد آخر، ويشاركون في الاهتمام بها، وتكاثرت المؤسّسات، والجمعيات، والمهرجانات التي تهتم بها، ومنها ـ على سبيل المثال ـ (Périphérie)، وهي جمعية تأسّست في ضواحي “سين سان دوني” منذ أكثر من 15 عاماً، في البداية، تمحور نشاطها حول دعم الإبداع، التسجيلي بشكلٍ خاص، عن طريق تقديم خدماتٍ تقنية (مونتاج، وعمليات ما بعد التصوير) بالتعاون مع شركة إنتاج شريكة، ومنذ تأسيسها، وحتى اليوم، ساهمت بدعم أكثر من مئة فيلم تمّ مساعدتها بإنتاج مشترك مع المخرجين، والمنتجين المستقلين.
وفيما بعد، تطورت في اتجاهين جديدين، الأول تحقق بتنظيم تظاهرة “لقاءات السينما التسجيلية” في “مونتروي”، والتي تحولت خلال سنواتٍ إلى موعدٍ لا غنى عنه للأفلام التسجيلية، والثاني توضح في قطب “التربية عن طريق الصورة”، وهو نشاطٌ موجهٌ لكلّ من يرغب الاستزادة في معرفة السينما التسجيلية من خلال نشاطاتٍ متعددة، ورشات تدريب في المؤسّسات المدرسية، وتنظيم دوراتٍ تكوينية.
في عام 2003 أطلقت الجمعية مبادرة جديدة بعنوان “سينمائيون مقيمون” سمحت بزيادة توسيع نطاق نشاطاتها من المُساعدة على الإبداع، إلى العروض الجماهيرية، مروراً بنقل المعارف، والكشف عن الميراث السينمائي.
اليوم، تمتلك الجمعية مساحةً واسعةً من الخبرة تسمح لها العمل بطريقةٍ أفضل في الربط بين المبدعين، والجمهور، ومنذ بداياتها، التزمت الجمعية بهذا التوّجه إلى درجةٍ أصبحت اليوم فاعلاً مهماً في فرنسا، وخارجها.
خلال العام، تُنظم الجمعية حدثين مهميّن، واحدٌ في الربيع تحت عنوان “عطلة نهاية الأسبوع”، ينتقل في صالات الضواحي المُنتشرة في المنطقة الإدارية “سين سان دوني”، وتظاهرة “لقاءات السينما التسجيلية” خلال شهر أكتوبر، تستقبلها إحدى صالات مدينة “مونتروي” المُحاذية تماماً للعاصمة باريس، وتعتبر واحدةً من النشاطات الأبرز للجمعية، ومن خلالها تُسلط الضوء على هذه المُساهمة المُتفردة للسينما التسجيلية بتسهيل عرض الأفلام، والمناقشات المُصاحبة، وتنظيم لقاءاتٍ، وورش تدريبيةٍ لجمهور يجمع محترفي السينما التسجيلية (مخرجين، منتجين، موزعين، قنوات تلفزيونية، أصحاب صالات، نقاد) مع المتفرجين.
وعلى عكس العلاقات التنافسية التي تطبع آليات عمل، وبرمجة المهرجانات العربية، يلتفّ حول هذه التظاهرة شركاء فاعلين يعملون بنضج أخلاقيّ، واحترافيّ من أجل نشر، ودعم الأفلام التسجيلية، مثل “صورٌ في المكتبات البلدية،، مدرسة ال Fémis (المؤسّسة الأوروبية لمهن الصورة، والصوت)، قناة ARTE، Procirep(مؤسسة منتجي السينما، والتلفزيون)، Scam( المؤسسة المدنية لمؤلفي الوسائط الإعلامية)، Addoc(جمعية السينمائيين التسجيليين).
“لقاءات السينما التسجيلية” في “مونتروي” إذاً تظاهرةٌ غير تنافسية، ولهذا تقترح في برنامجها أفلاماً حديثة، وأخرى تعود إلى فتراتٍ تاريخية ماضية.

وفي دورتها السادسة عشر التي انعقدت خلال الفترة من 7 وحتى 16 أكتوبر 2011 جمعت أفلاماً تحت عنوان “الشعر التسجيليّ”، وانطلاقاً من هذه التيمة المُتفردة احتفت التظاهرة بأفلام تسجيلية للمُخرجة اليابانية “ناعومي كاواس”، وهي منتجة تعيش، وتعمل دائماً في” نارا”، مدينتها التي وُلدت فيها عام 1969، ومنذ عام 1992، وبالتوازي مع أفلامها الروائية الطويلة، أخرجت عدداً من الأفلام التسجيلية، شخصية في معظمها أقرب إلى السيرة الذاتية، تطوّر العلاقات الشعرية، والمُتفردة التي تربطها مع العالم، وبشكلٍ خاص، مع جدتها، وأيضاً حول أعمالٍ أدبية، وإنشاءاتٍ سمعية/بصرية.
من جهةٍ أخرى، “سيرج مورانت” شاعرٌ، ومؤلف أكثر من عشرين كتاباً، كان قبل سنواتٍ قليلة المدير الفني لمهرجان “صوّر بأيّ ثمن”، أو “اصنع فيلمك بأيّ ثمن” في بروكسل من عام 2000 وحتى 2008 ولم ينفصل أبداً عن نشاطاته الإبداعية النثرية ناقلاً المعرفة إلى أجيال جديدة.
وبناءً على اقتراحٍ من إدارة التظاهرة ، فقد اختار أفلاماً أعجبته، شارك في صياغتها الفنية، أو تعاون مع مخرجيها، وفي بداية كلّ عرض كان يقرأ بعضاً من أشعاره، وبعد العروض مباشرةُ يجري نقاشاً مع الجمهور، ويختلط الشعر بالسينما، وهكذا، اختار اثنين من الأفلام التسجيلية العظيمة للمخرج الأرميني “أرتافازاد بيليشيان”، نهاية (8 دقائق) من إنتاج عام 1992، وحياة (7 دقائق) من إنتاج عام 1993، وأفلاماً أخرى للمخرجين أوليفييه سمولدرز، جوهان فان ديركوكن، بيير هيبر، بيير ماري غوليه،…
وتحت عنوان “مشوار”، قدمت التظاهرة أفلاماً تسجيلية للمخرج الليتواني “أودريوس ستونيز”

الذي وُلد في عام 1966 وفي أفلامه يقدم صياغةً حاذقة تنسج بحميمية الواقع، والخيال، وتكتشف أفلامه الأولى المسكونة بالحقبة السوفييتية التغييرات الإنسانية، والروحية المُتعلق بها.
ومن الشعر التسجيلي، إلى التجريبي، قدمت التظاهرة (Dog Star Man) للمخرج الأمريكي “ستان براكاج”، وهو عملٌ يتكوّن من فيلم تمهيديّ، وأربعة أجزاء تمّ إخراجها خلال الفترة من عام 1961 وحتى1964 بطول 74 دقيقة، ويعتبر الأكثر طموحاً في مسيرة المخرج، يغوص بالمتفرج الصبور في تجربة بصرية صافية، وإيقاع لاهثٍ من الصور، يتبادل من خلالها شظايا جسد، عناصر طبيعة، ومضات ضوئية، صور مطبوعة فوق أخرى، نقشٌ، ورسمٌ على الطبقة الحساسة للفيلم، في هذا الفيلم تتشابه الرؤية التي يقدمها مع وعيٍّ في حالةٍ من اليقظة، والنوم.
ومن بين الاختيارات المُتحررة من سنة الإنتاج، فيلم “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها” من إخراج مشترك بين السورية “هالة العبد الله” ومواطنها “عمار البيك”، تقاطعت مع أفلام أخرى من فرنسا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، بلجيكا، البرتغال، إيطاليا، ألمانيا، إسبانيا، ومخرجين مثل : كييه سيمون لوانغ، بيل فيولا، جان روش، أدغار موران، البرتو كافالكانتي، كلوديو بازينيزا، مانويل دي أولفيرا، هنري ستورك، جان دانييل بوليه،…
وبشكلٍ عام، تتجسّد القيمة الشعرية للأفلام المُجتمعة في هذه الدورة عن طريق الاستمرارية في أبعادٍ متعددة، بين الفضاءات الجغرافية، والذهنية، الصياغات الروائية، والتسجيلية، ومن ثمّ، بين المبدعين، والمتفرجين أنفسهم.
وهكذا، طوال الدورات السابقة، حرصت التظاهرة دائماً على تقديم الأساليب المُتنوعة، وأخذت على عاتقها اكتشاف السينما التسجيلية المُعاصرة في كلّ تنوّعها، وثرائها.
هامش :
“العبور” لبيل فيولا : شظايا عن االحياة والموت
http://doc.aljazeera.net/followup/2010/08/201083095311828314.html