اللقاءات السينمائية في “سين سان دوني”

صلاح سرميني ـ باريس

هذه تظاهرةٌ سينمائيةٌ فرنسيةٌ أخرى تكشف عن الخصوصية التي تتمتع بها، والتنوّع الذي يُزين المشهد المهرجانيّ الفرنسيّ، والأوروبيّ بشكلٍ عام.
هنا، وعلى الرغم من كثرتها، لا تتنافس المهرجانات فيما بينها، صغيرةً، أو كبيرةً، معروفةً، أو مجهولةً، ولا ينتابها هوس التسميّات “العالمية”، أو “الدولية” ولا يفكر أحدٌ بتأسيسها بحثاً عن منافع معنوية، أو مادية، لا يوجد “بزنس” مهرجانات، ولا تبادل دعوات، أو اتفاقات شراكة فارغة المحتوى، ولا سباقاتٍ محمومة على الأفلام، ولا تتباهى بمن بدأ هذه المبادرة قبل الأخرى، ولا تتكاسل في البحث عن أفكار جديدة تعفيها من النقل، والنسخ من مهرجاناتٍ مجاورة، وتتخلى عن أخلاقياتها المهنية، والاحترافية، وأكثر من ذلك، تدّعي بأنها الأولى على كلّ المستويات، وتزوّر التاريخ، وحتى تُعاند في معرفة الحقيقة.
أهداف المهرجانات الفرنسية، والأوروبية حقيقية، تُظهرها النتائج بوضوح، هي في العموم ثقافية، سينمائية، تربوية،.. ولا تخجل من رغبة الترويج للمدينة، المنطقة، والبلد، ولكن، بدون مبالغاتٍ، إدعاءاتٍ، وحماقات.
كلّ مهرجان يسعى إلى تحقيق طموحاته في إطار خطته البرمجية، والتيمة التي تخصص فيها، وحتى تلك المهرجانات التي تُعلن “دوليتها” تعتمد على برمجةٍ مختلفة عن بعضها.
عندما يكون هناك مهرجان متخصص بالسينما العربية، سوف نجد بجانبه واحداً آخر يهتمّ بالسينما البرازيلية، وهكذا،… لن يفكر مهرجانٌ بالركض خلف مخرج، أو منتج فيلم عربي، أو أجنبي كي ينال شرف العرض الأول، ولن يعتمد على أيّ نوعٍ من الإغراءات المكشوفة، أو المُقنعة كي يستقطب الأفلام عن طريق صناديق الدعم الشبحية، أو الأرقام الخيالية للجوائز، وتوزيعها على معظم المُشاركين تحت مُسمياتٍ فضفاضة، والمُغالاة في الدفاع عن هذه السياسة الانتحارية .

أشكّ كثيراً بأنّ هذه المهرجانات “المُتلونة” تدافع فعلاً، وبإخلاصٍ عن السينما العربية، وبالتحديد عندما أجدها قد تحولت إلى مراكز للتسوّق، سوبر ماركت، وأماكن مضاربات، وتقترب في الشبه من البرامج التلفزيونية التي يلهث فيها المُتسابقون للحصول على المليون .
رُبما من الأفضل، بأن نترك هذه المهرجانات السينمائية العربية “الدولية”، و”الدولية جداً” في حالها تتنافس، وتتناطح، ويركض مبرمجوها، وخبراء العلاقات العامة فيها خلف سينما عربية لا تحتمل كلّ هذا الحبّ المُتأخر، والسخاء المُفاجئ المثير للدهشة بحجة الدفاع عنها، ودعمها، “زقها” إنّ صحّ التعبير، كي تتراكم الشحوم، والدهون فيها، وتصل، بدون قصدٍ، إلى حالةٍ من الإفساد، ويتحول الجميع إلى “رجال أعمال” أكثر منهم مخرجين، باختصار، إرساء مفهوم “بزنس” دعم السينما العربية الجادة، وحتى منحه الشرعية، والنظر إلى الموضوع برّمته من فتحة صنبور المكاسب المادية، والمعنوية التي يُحققها كلّ من تورّط في هذه “الفوضى السينمائية المُرتقبة” من أجل لقمة عيشٍ هانئة أكثر منها شغفاً سينمائياً ظهر فجأةً، وصدفةً.
من الأفضل إذاً بأن نحكي عن مهرجاناتٍ، تظاهراتٍ، ولقاءاتٍ سينمائية نقية في أهدافها، ثرية في برمجتها، صادقة في نشر الثقافة السينمائية باحترافيةٍ مهنية، وأخلاقية، والأهمّ، بدون إدعاءاتٍ مكشوفة.
ونحتفي في هذه المساحة الصغيرة بواحدةٍ منها (اللقاءات السينمائية) التي انعقدت خلال الفترة من 16 وحتى 27 نوفمبر 2011 في “سن سان دوني”، هذه المنطقة الإدارية المُحاذية تماماً للعاصمة باريس، وتعتبر الأكثر نشاطاً في مجال الترويج للسينما، وثقافتها، وتفخر بشبكةٍ من الصالات السينمائية النشيطة، تُديرها الجمعيات الأهلية، والبلدية والتي أسّستها، أو استثمرتها البلديات المحلية في الثمانينيّات، وهي مُدرجة في قائمة صالات الفنّ، والتجربة، وتحرص على التنشيط الثقافي، وتكوين الجمهور، وتطوير تذوقه للصورة، والسينما بشكلٍ عام، وتتضمّن هذه الشبكة 21 قاعة بمجموع 38 شاشة، تقدم برمجةً متواصلة تعتمد على فكرة الاكتشاف (أو إعادة الاكتشاف)، وتهتمّ بتنظيم الأحداث السينمائية، وتشارك في ثراء الحياة الثقافية المحلية، وتنظم عدداً من المهرجانات، والتظاهرات السينمائية، ويكفي الإشارة بأنه في عام 2008 تخطى عدد المتفرجين في هذه الصالات إلى المليون متفرج.

ومنذ عشرين عاماً وحتى اليوم، مازالت (اللقاءات السينمائية) في “سن سان دوني” تظاهرةً سينمائيةً غير تنافسية، ترتكز على انتشارها في أكثر من مدينةٍ واحدة، حيث تتوزع العروض في 20 صالة بلدية (أيّ في عشرين مدينة/ضاحية)، ويعتمد محتواها على الاحتفاء بشخصياتٍ سينمائية فرنسية، أوروبية، وعالمية، وعرض مختاراتٍ من أعمالهم، وتنظيم لقاءاتٍ، وندواتٍ معهم، وعنهم، بالإضافة إلى ورشات العمل المختلفة.
وهكذا، اختارت الدورة الثانية والعشرين الأخوين “جان بيير”، و”لوك داردين” من بلجيكا ضيفا شرف، هما اللذان يقدمان أفلاماً مكثفة، ملتزمة، ومتجذرة في الواقع الاجتماعي، وعرضت لهما (الوعد 1996، روزيتا 1999، الابن 2002، الطفل 2005، صمت لورنا، 2008، صبي الدراجة 2011)، وأفلاماً تسجيلية عنهما.
كما احتفت بضيف شرفٍ ثالث هو السينمائي السنغالي الراحل “عثمان سَمبان”، واحدٌ من أوائل السينمائيين الأفارقة، ومرجعٌ سينمائيّ مُعتبر، في عام 1987 حصل على جائزة من مهرجان كان عن فيلمه الروائي الطويل Yeelen
وقدمت (اللقاءات) بعض أفلامه الروائية الطويلة (الفتاة الشابة 1975، العمل 1980، الريح 1983، الضوء 1987، الوقت 1995، قلّ لي من أنت 2009)، و”المغنون الشعبيون في جزيرة سيشيل” فيلمٌ قصيرٌ من إنتاج عام 1978، كما قدمت أفلاماً تسجيلية عنه.
وفي إطار إعادة اكتشاف سينمائيّ غير معروف، أو منسيّ، فقد تمّ اختيار “هال هارتلي”، مخرجٌ، كاتب سيناريو، وموسيقيّ، ويعتبر من أحد الوجوه الرئيسية للسينما الأمريكية المُستقلة فترة الثمانينيّات، والتسعينيّات.
أما “مسارات ممثل”، فقد اختارت (اللقاءات) لدورتها الأخيرة “إيزابيل كاريه”، هذه الممثلة الفرنسية القادرة على أداء كلّ الأدوار، وقد حصلت في عام 2003 على السيزار لأفضل ممثلة، وجائزة موليير في المسرح لأفضل ممثلة في عاميّ 1999 و2004 على التوالي.

كانت “مسارات عاشق السينما” مخصصة للمخرج الفرنسي “بول فيكيالي” هذا المعجب بالسينما الشعبية فترة الثلاثينيّات، وأحد رموز الموجة الفرنسية الجديدة، يتأرجح حبه بين سينما “روبير بريسون”، “جان غريميّون”، و”ماكس أوفولس”، وأسلوباً تجريبياً يختلط بسيرةٍ ذاتية.
وكانت “مسارات الاكتشاف” مخصصة للفرنسية “كاتي سيبا”، ممثلة، مخرجة، كما عملت مصورة سينمائية، ومساعد تصوير مع بعض كبار المخرجين، مثل “أنطونيوني”، “برتران مانديكو”، “ميشيل كوندري”، و”سيدريك كلابيش”.
ولم تنسى (اللقاءات) ـ والمهرجانات الفرنسية لا تنسى أبداً ـ الجمهور من الأطفال، والشباب، حيث منحت كارت بلانش للمخرج، والمنتج الفرنسي “آرنو دوموانك” مؤسّس “شركة أفلام الشمال” المُتخصصة في إنجاز أفلام التحريك.


إعلان