فيلمان من المغرب: “علىالحافى” و”موت للبيع”
عرض في مهرحان أبو ظبي خمسة أفلام روائية من المغرب، ثلاثة منها داخل مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وفيلمان داخل مسابقة آفاق جديدة. الأفلام الثلاثة الأولى هي “موت للبيع” لفوزي بن سعيدي، و”على الحافة” لليلى كيلاني، و”رجال أحرار” لاسماعيل فرزخي، والفيلمان الباقيان هما “النهاية” للمخرج هشام لمسري، و”أياد خشنة” لمحمد العسلي.
وتعد هذه أكبر مشاركة مغربية في مجال التسابق في أي مهرجان من المهرجانات الدولية التي تقام في العالم العربي.
وسوف أتوقف في هذا المقال أمام فيلمين من هذه الأفلام هما “على الحافة” و”موت للبيع”.
على الحافة..
يصور فيلم “على الحافة”، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجته ليلى كيلاني، حالة الضياع التي تعيشها أربع فتيات في مدينة طنجة في شمال المغرب: بديعة وإيمان القادمتان إلى طنجة من الدار البيضاء في محاولة للبحث عن فرصة للعمل والحصول على الرزق ولو بأية طريقة (يجدن عملا في مصنع لتقشير الأسماك)، ونوال وأسماء اللتان تعملان في مصنع للنسيج داخل المنطقة الحرة. وهما أيضا تتطلعان لتحسين ظروف الحياة والحصول على فرصة أفضل للرقي الاجتماعي.
تجتمع الفتيات الأربع على فكرة الخلاص، والافلات من دائرة الفقر والتهميش والضياع، ولو بالتحايل والكذب وممارسة السرقة عن طريق مرافقة شبان أثرياء في أماكن اللهو والسهر ولعب القمار، ثم سرقة أشياء ثمينة من منازلهم.
في هذا الفيلم يختلط الاجتماعي بالأخلاقي، في مزيج سبق لنا أن شاهدناه في أفلام مغربية سابقة ربما يكون أهمها على الإطلاق هو فيلم “كازانيجرا”، بمستواه الفني البديع: قوة الأسلوب، الابتكار في بناء المشاهد، التكوينات الموحية، الصلة الوثيقة بين الصورة والصوت، الجرأة في تصوير المشاعر والانفعالات، وفي رسم العلاقة بين شابين من الفقراء الهامشيين ينغمسان في العالم السفلي طمعا في تحقيق ثروة تنتشلهما من الواقع المتدني، وكأننا نشاهد اكتشاف العالم بكل خطاياه.
وبسبب ما كان يثيره فيلم “كازانيجرا” من تأملات خارج إطار الواقع، في مغزى ما يفعله هذان الشابان، وفي مغزى القهر الاجتماعي، وعبثية العيش بالمعنى الفلسفي، اكتسب الفيلم معنى كبيرا، خصوصا مع وجود مساحات للبحث والاكتشاف والتأمل.
أما مشكلة فيلم “على الحافة”، وغيره من الأفلام المماثلة التي تأثرت بما حققه “كازانيجرا” من نجاح، فهي تكمن في واقعيته القديمة الجافة التي ترتد بنا من حيث أسلوب السرد والإخراج وطريقة الأداء التمثيلي (رغم براعة الفتيات وتلقائيتهن جميعا بلا استثناء) والاعتماد الكبير على الحوار وعلى اللقطات القريبة الخانقة، دون أدنى مساحة للتنفس والتفكير، إلى سينما عجوز، متهالكة، مؤدلجة، تعلي من شأن المضمون والرسالة واجترار الحالة الاجتماعية التي تصورها، دون أن تتجاوز الهجاء الاجتماعي إلى مساحة أوسع للتعبير بلغة السينما الحديثة والحداثية: الحركة والمونتاج والاهتمام بالميزانسين والتقليل من الحوارات المرهقة والمشاجرات التي لا تنتهي.

هناك إحساس غير مريح ينتج عند مشاهدة فيلم “على الحافة”، ليس بسبب غياب “الحبكة” أو المغالاة في إضفاء الملامح الواقعية الكلاسيكية على كل مشاهد الفيلم، بل بسبب طابعه “العتيق”، الذي يرتد بنا إلى تقديس فكرة “عبادة الواقع” في حد ذاته، أي الاهتمام الكبير بمحاكاة الواقع، بنقله حرفيا، بالاخلاص لكل ما يحتويه، وهي فكرة قديمة، ترغب في جعل الروائي يبدو كما لو كان تسجيليا، والتقليل من الخيال أو الحد منه وكبح جماحه، وبالتالي اغفال الابتكار، سواء في الأفكار المتعلقة ببناء المشاهد، أو في طريقة السرد.. شكله.. مساره.. استنادا إلى فكرة أن التصوير الواقعي يغني عن الابتكار، ويصبح هو نفسه كافيا لتحقيق هدف الفيلم.
ما هو هدف الفيلم إذن؟
على الصعيد الفكري: الهجاء الاجتماعي، اتهام الدولة والمؤسسات الاجتماعية بالتقصير في رعاية الشباب وتقديم فرص عمل لهم تكفل لهم حياة انسانية جيدة تليق بهم، تحقيق الصدمة عن طريق إبراز التناقضات الاجتماعية التي تدفع الى حافة اليأس (وربما تكون تلك هي “الحافة” المقصودة من عنوان الفيلم).
أما الهدف الجمالي فهو، مرة أخرى، محاكاة التسجيلي والاحتفاء بصورة الواقع: مصنع تعليب الأسماك، مصنع النسيج، شوارع المدينة القديمة وحوانيتها ودروبها الضيقة، العابرون في تلك الشوارع، وفكرة اللقطة القريبة كمعادل للاختناق، للسجن، للواقع المغلق، وهي فكرة لا تضيف جديدا.
في النهاية يبدو “على الحافة” فيلما مرهقا، كان يمكن تصوير محنة الشخصيات التي تتحرك في فضائه، في مدى زمني أقل كثيرا من ذلك المجال الزمني الذي يستغرقه الفيلم، وهو ما يعني وجود الكثير من التكرار (تكرار الفكرة وتكرر الحوارات التي تدور حول المعنى نفسه)، ونمطية الشخصيات التي يمكنك التنبؤ سلفا بوضعيتها وسلوكياتها، وهو ما يعني أيضا عدم القدرة على التعاطف مع تلك الشخصيات في الكثير من الأحيان، أي على العكس من رسالة الفيلم ومما كان يسعى إليه صانعوه.
“موت للبيع”
من طنجة ننتقل الى مدينة تطوان الشهيرة في الشمال المغربي أيضا التي تدور فيها مشاهد وأحداث فيلم “موت لبيع” للمخرج- المؤلف- الممثل، فوزي بن سعيدي.
بن سعيدي سبق أن قدم من قبل “الف شهر” (2003) (فيلمه الروائي الطويل الأول) ثم “إنه عالم رائع” (2006).
في فيلمه الجديد “موت للبيع” ليس هناك موت ولا شيء للبيع، بل فقط لعبة تدور على مستويات مختلفة: كيف يرغب ثلاثة من الشباب المهمش العاطل عن العمل في اختراق الحاجز الاجتماعي ولو عن طريق الجريمة، وهم خلال ذلك، ورغم دوافعهم المختلفة للسطو على محل للمجوهرات، يختلفون أيضا كثيرا مع بعضهم البعض إلى حد الشجار العنيف.
والمستوى الثاني مستوى الحب: أو وهم الحب.. هل هو حقيقة أم سراب؟ هل الفتاة “دنيا” التي يحبها الشاب الأول “مالك”، هي فعلا مخلصة له أم أنها تخونه مع صديقه الأكبر العنيف “علال”؟ وهل كانت من البداية تخطط لدفعه الى الجريمة لكي ينقذها من بيع جسدها في ملهى ليلي، في حين يقتنع هو بأن “ظروفها” هي التي تدفعها الى ذلك البحث عن أي وسيلة للنجاة حتى لو كانت بيع الجسد؟
من هذه اللعبة المركبة يدخلنا الفيلم في لعبة أخرى تشبه المطاردة بين القط والفأر، تتمثل في تلك العلاقة الغريبة بين مفتش الشرطة (الذي يقوم بدوره فوزي بن سعيدي نفسه) وبين الشاب مالك.
الشرطي يقبض على دنيا بتهمة ممارسة الدعارة ويحبسها لكي يبتز مالك ويدفعه دفعا الى التعاون معه والوشاية بالآخرين. ولا يمانع من اطلاق سراح دنيا بل والاغداق على مالك لكي يستأجر لها حجرة في فندق ويأتيها بالطعام الوفير والشراب الجيد مقابل العمل كمرشد للشرطة.

هذه اللعبة تجعل رجل الشرطة الذي يتحرك داخل مركبة مغلقة من مركبات الشرطة المصفحة، ويمكنه في أي وقت، القبض على مالك وتهديده، يبدو كما لو كان جزءا من لعبة قدرية لا فكاك منها.
مصير الأشقياء الثلاثة يسير الى نهايته.. ما بين القتل والضياع الأبدي. لكن المشكلة أن إغراق بن سعيدي في ألعابه الشكلانية، يفسد الفكرة الأصلية، بل ويجعل الفيلم أيضا، يمضي في اتجاه الاغراق في الثرثرة والتكرار بل وخلق مشاهد يمكن معرفة ما سينتج عنها سلفا بعد أن تصبح اللعبة التي يمارسها بن سعيدي: لعبة الكبير والصغير، القط والفأر، قوة الدولة الباطشة وشباب يبحث عن فرصة للنجاة، مكشوفة.
هذه الثنائيات كان يمكن أن تصبح أكثر إثارة للاهتمام لو لم يتمادى المخرج- المؤلف في ألعابه ولهوه واستطراداته ومحاولاته أن يقدم كل شيء كعادته: الرقص والغناء والمطاردة البوليسية والنقد الاجتماعي.
ويمكن أن نضيف أيضا أن “أزمة الهوية” عند بن سعيدي تتبدى كأوضح ما يكون في هذا الفيلم.. أي هويته كمخرج.. ماذا يريد؟ إلى أي سينما ينتمي؟ هل يرغب في الانتماء لسينما مغربية أم لسينما فرنسية؟ فهذا التلاعب بدور رجل الشرطة، والتكوين الغرائبي له، وتلك المشاهد المتخيلة التي تدور في شرفة الفندق من أعلى، وتجمع أحيانا بين مالك ودنيا، وتلك النهاية الغريبة التي نفهم منها أن دنيا ضحكت على مالك واستولت على حقيبة المجوهرات المسروقة وفرت، كلها تعكس ولع بن سعيدي بالسينما، أي ببعض الأفلام الأجنبية (الفرنسية البوليسية بالتحديد)، ولكن على طريقة الانتقاء والنسخ ولملمة الشذرات من هنا ومن هناك، لكن الطامة الكبرى أن هذا الخليط الذي يبدو رغم كل شيء (أسلوبيا من الظاهر) سرعان ما ينتهي الى لاشيء يمكننا استعادته مرتبا بعد تلك الفوضى الظاهرية البادية في تكوينه وبنائه، فلا شيء يبقى من اللهو غير الطرافة الزائلة!