كن راسل: السينما للتثقيف، للعلم وللترفيه
محمّد رُضــا
في الستينات كان هناك برنامج تلفزيوني على محطة البي بي سي لم يعد له وجود لا في بريطانيا ولا حول العالم. برنامج نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى في زمن الجهل الضارب أطنابه. عنوانه «مونيتور» وهدفه كان تعريف الفن والأدب وتنشيطهما بين المشاهدين. منتجه كان هوو ولدون، شخصية تلفزيونية مثابرة وهو الذي اكتشف شابّاً يهوي التصوير الفوتوغرافي ولديه طموح أن يشتغل في الصورة. هوو جلبه إلى برنامجه وأعطاه الفرصة. بعد سنوات قليلة وقف هذا الشاب، وأسمه كن راسل، على مطلع طريقه لإبهار هواة الفن والأدب والسينما.
ذلك الفيلم الأول له كان عن الموسيقار البريطاني إدوارد إلغار Elgar
(1934-1857) وقد أراده المنتج صامتاً، وراسل احترم الرغبة لكنه أضاف صوت معلّق ما جعل السيرة الموسيقية التي أريد للصورة وحدها أن تكون سبيل التعليق عليها، تتمتّع بحسنة المصاحبة التعليقية من دون أن يؤثر ذلك على جماليات المشاهد التي التقطها المخرج بأحجام طويلة.
ذلك حدث سنة 1962 ومن يستطع مشاهدة ذلك الفيلم التلفزيوني الآن وشاهد أفلام راسل السينمائية التي بدأ تحقيقها سنة 1969 يستطيع أن يوصل النقاط لتشكيل الخط الواحد لاهتمامات راسل: البحث في شخصيات فنيّة او أدبية او شخصيات روائية ودفعها للجمهور لكي، وعلي حد قوله: يتثقّف، يعلم ويترفّه0
كن راسل الذي رحل يوم الأحد الماضي عن 84 كان أحد أقرب المخرجين في التاريخ إلى ما يمكن تسميته بجنون العبقرية. والمشاهدة المقترحة لأعماله تضيف شيئاً سريعاً على تلك الأولى: أفلامه لم تكن بسيطة لا في تكوينها ولا في تشكيلها الفني، بل هي صرائح مجنونة وأحياناً هاذية من الصور والمواقف التي ترتكب كل تطرّف خيالي ممكن في الوقت الذي تبقى فيه مثيرة للخيال وللجدل. أفلام كن راسل، التي سنأتي على ذكر بعضها هنا، كانت جنوحاً في التقديم وكسر المتوقّعات لكنه جنوح مرغوب. صادم الصورة وغير متنازل. وفي حين أن منواله ذلك جلب له الكثير من المعجبين وكوّن أسمه فناناً عالمياً، جلب عليه الكثير من الإحتجاجات وردات الفعل الغاضبة. لاحقاً، أخذ الفتور حيال ما يحققه يتعالى خصوصاً وأن السينما البريطانية في الثمانينات كانت خسرت هويّتها السابقة، مثله كمثل ليندساي أندرسن وتوني رتشاردسون (على اختلاف سينماهما) خرج من «الموضة» وأصبحت أفلامه، التي ارتفعت وتيرتها الصوتية وضوضائها الصوري، أقل لفتا للنظر وإثارة للإهتمام.

ما يتذكّره العديدون من فيلم »نساء عاشقات» (1969) هو مشهد المصارعة الحرّة التي تحدث بين بطليه أوليفر ريد وألان بايتس عاريين تماماً، لكن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية ديفيد هربرت لورنس (المعروف بـ
د.هـ.لورنس) الموضوعة سنة 1920 كتكملة لرواية سابقة (1915) بعنوان «قوس القزح« فيه أكثر بكثير من مجرّد ذلك المشهد. لجانب أنه اقتباس أمين للأصل، هو عاصفة عاطفية تقع داخل كل من شخصياته الأربعة الأساسية: من حكاية الشقيقتين اللتين تتعرّفان على رجلين من البلدة ذاتها والأربعة الذين يعيشون بعد ذلك هوس تلك العاطفة ونزاعاتها، إلى نقد الطبقة الميسورة (ولورنس كان من منتقديها كما من المعادين للحداثة الصناعية قلقاً على مصير الإنسان من جراء إنتشارها) مروراً بمشاهد يبلغ فيها تجسيد كل ذلك من القوّة قدراً كبيراً من الأهمية. ذلك يحتوي على مشهد اشتباك ودّي على هيئة مصارعة حرّة تقع في داخل شقّة روبرت (ألان بايتس) بينه وبين صديقه جيرالد (أوليفر ريد) وهما عاريين. ذلك العري والبرد الشتوي في المحيط المكاني للحدث (شقّة في جبال الألب) والنيران المشتعلة في الخلفية كلّها أججت مشاعر مُثلية بين الرجلين لم تنتقل إلى التنفيذ، لكنها تركت المشاهد في ذلك الحين متعجّباً من جرأة الجميع (المخرج وممثليه على الأقل) تقديم مثل ذلك المشهد.
لكن راسل (الذي لم يكن مثلياً) لم يكن ليخشى تقديم الموضوع مرّة أخرى متمثّلاً بفيلمه التالي «عشاق الموسيقا» (1970) الذي كان يدور حول الموسيقار تشايكوفسكي كما أدّاه رتشارد شامبرلاين والمرأة التي أحبّته أنطونينا ميلوكوفا (غليندا جاكسون التي لعبت تحت إدارة راسل في فيلمه السابق). ضمن تلك السيرة المقتبسة بدورها عن كتاب (»الصديق المحبب« تطرّق المخرج لرغبة تشايكوفسكي مقاومة نزعاته المثلية (وهي مفترضة غالباً).
في هذين الفلمين ترجم المخرج إعجابه بطريقة أيزنشتاين المونتاجية ولو بتطبيقها على نحو يخدم نصّّه هو. كل تلك اللحظات الحرجة في حياة تشايكوفسكي كما يبديها الفيلم معبّر عنها بتوليف حاد وسريع. لكن حتى من قبلهما، في فيلم جاسوسي أخرجه سنة 1968 بعنوان «مخ البليون دولار« نجده يقدم على انتزاع ملامح ايزنشتانية ثابتة من فيلم «ألكسندر نفسكي« (1938) ويمنحها حياة جديدة تبعاً للمضمون المختلف.
لكن ما أن حل العام 1971 وقدّم راسل فيلمه «الشياطين» حتى بدا أن هذا المخرج يريد كسر كل التقاليد والتوقّعات بأسلوب بصري لم يسبقه إليه غيره في السينما الأوروبية على الأقل. «الشياطين» مأخوذ عن مسرحية لألدوس هكسلي عنوانها «شياطين لودون» وتقع أحداثها، كما في الفيلم أيضاً، في القرن السابع عشر في بلدة فرنسية كانت إمارة يحكمها راهب محبوب إنما له علاقة آثمة بامرأة. يكشف الفيلم أن هذه العلاقة ليست وحيدة بل أن المجتمع الكنسي في تلك الإمارة كله كان مليئاً بالانتهاكات المحرّمة التي تؤدي ببعض الشخصيات (كتلك التي تؤديها فانيسا ردغراف) إلى الجنون حال اكتشافها أن من تحب تزوّج من غيرها. المادّة كانت مثالية بالنسبة لراسل الذي نفذ من خلالها لنقد الكنيسة ولو عبر تصوير انحلالها من ناحية، وعبر تصوير الهجمة المضادّة عليها، من قبل رجال الكنيسة الإنكليز التي جنحت في ملاحقة “مذنبي” الأولى. أوليفر ريد في دور الأمير الراهب يتم حرقه.
أتبع راسل هذه الأفلام بأخرى لا تقل صدماً: «الصديق« الموسيقي، و»المسيح المتوحّش» الدرامي الديني و»مولر» البيوغرافي ثم »تومي« الموسيقي« حتى حطّ في هوليوود ليصنع فيلماً جيّداً عن رواية لبادي شايفسكي بعنوان Altered State
او «حالة متبدّلة» حيث يقدم بطل الفيلم (وليام هيرت) على تحويل نفسه إلى مختبر حاقناً شرايين يده بعقار قد يحوّله إلى مخلوق مختلف.

لكن هذا الفيلم على جودته، كان بداية مرحلة جديدة فهو إذا ما كان سعى للبقاء على قمّة حرفته باختيار المواضيع الكبيرة المثيرة والغائصة في روح الحضارة والثقافة الأوروبية (و»حالة متبدّلة« لم يكن من هذا النوع) الا أنه سريعاً ما وجد نفسه يواجه انحسار الاهتمام به. هذا ليس محدداً بسبب واحد، لكننا نتحدّث في الثمانينات عن بداية تغيير كامل أصاب البنية التي حشدت لأفلام انطونيوني وبرغمان وفرانشسكو روزي ولندساي أندرسن وتوني رتشاردسون وميغويل ليتين وسواهم العديدين من أساتذة السينما ومن بينهم راسل نفسه. تبعاً لذلك، وخوفاً من جنوحه الخيالي تراجع اهتمام المنتجين والمموّلين به من منتصف الثمانينات وتأكد ذلك مع نهاية ذلك العقد.
أفلامه جميعاً كانت مشغولة ببصريات مذهلة واستعارات من أفلام وسينمات ماضية مُشكّلة من جديد ضمن رؤيته الخاصّة. أفلامه كانت سينما كما كانت أدباً. كانت معالجات فوق العادة وحبّاً واضحاً بالفنون جميعاً.
سنوات المخرج العشرين الأخيرة شملت بضعة أفلام لم تنجح جماهيرياً (بينها الفيلم الجيّد «عاهرة» سنة 1991) لكنها حوت عدداً من الأفلام القصيرة التي موّلها بنفسه رافضاً التوقّف عن العمل. قبل سنوات قليلة، وعلى شاشة التلفزيون البريطاني، تمّت استضافة المخرج لسؤاله عن سبب “توقّفه عن العمل”، لكن الرجل لم يكن قد توقّف بل أوقف! وهو حكى طرفة تستحق التندّر: “بعثت ذات مرّة بسيناريو لمحطة تشانل فور لمعاينته وبعد ستة أشهر استلمت رسالة من شخص لا أعرفه مطلقاً. إمرأة تقول: “سيناريو فيلمك ليس سينمائياً بما فيه الكفاية”. أمام الكاميرا يصمت المخرج قليلاً ثم يصيح: “أنا أفلامي ليست سينمائية كفاية؟”.