مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان
حبات الرمل التي ستصنع التغيير
رانية حداد
من أين يمكن للمرء أن يبدأ حديثه عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان؟ ثمة طيف واسع من أشكال الانتهاكات، وثمة شاشة يتدفق عبرها الألم، إلا أن اتساع مدى تلك الشاشة السينمائية يعجز عن احتواء كل أنواع الألم، ليبقى الحجم الأكبر من المعاناة في حيز متوار ينتظر الاكتشاف، مع هذا كانت شاشة (كرامة) لأفلام حقوق الإنسان في دورتها الثانية واسعة بما يكفي لملامسة اكبر قدر ممكن من الوجع، وبما يكفي أيضا لبعث إرادة المقاومة من أجل تغيير الواقع، والأمل بمستقبل أفضل يليق بكرامة الإنسان ويحمي حقوقه.
الذاكرة، الحقيقة، العدالة

حبة رمل بمفردها ربما لن تؤثر، لكنها حتما ستؤثر وستغير عندما تتجمع وتتحد مع حبات الرمل الأخرى، بهذا الإيمان العميق تسلحت كل من بطلة الفيلم التسجيلي “غرانيتو” ومخرجة الفيلم باميلا ييتس التي استوحت من حبات الرمل تلك عنوانا لفيلمها، الذي تبدأ من خلاله ييتس رحلة في ذاكرتها السينمائية حيث الأشرطة السينمائية التي سجلتها في مطلع ثمانينات القرن الماضي حول إبادة شعب المايا في غواتيمالا، الآن تعود لتبحث من جديد في أرشيفها السينمائي عن دليل مسجل يثبت تورط الديكتاتور الغواتيمالي ريوس مونت بحفلات الإبادة الجماعية التي نفذت بسكان المنطقة الأصليين لتجريدهم من ممتلكاتهم، كانت أوامر ريوس مونت تدعمها وترعها –كما هو الحال دائما- الولايات المتحدة الأمريكية، في الفيلم ثمة شهادات لأشخاص اختبروا تلك التجربة، ونجاتهم كانت حافزا كي يرى كل منهم التجربة، وليشكلوا بشهاداتهم حبات الرمل التي علها تفلح مجتمعة على اختراق حصانة الدكتور بعد هذه السنين ومحاكمته كمجرم حرب، بالمحصلة يسعى صناع الفيلم وأبطاله إلى تحقيق ثلاثة أهداف؛ حفظ الذاكرة، الوصول إلى الحقيقة، وتحقيق العدالة، فحيث تكون الحقوق منقوصة، وحيث تكون هناك صرعات عرقية، طائفية، أو طبقية…، وحيث التميز، وحيث يطغى الفساد، يتنفس المضطهد والمقهور الأمل رانيا لتحقيق تلك الأهداف، وهذا ما تجتمع عليه جميع أفلام هذه الدورة من مهرجان كرامة الذي يقوم عليه معمل 612، بالتعاون مع المركز الثقافي الملكي، احتفاء باليوم العالمي لإعلان حقوق الإنسان، واليوم العالمي لمكافحة الفساد.
العالم الثالث VS العالم الاول
رغم تنوع جنسيات الأفلام المشاركة وتنوع المعاناة فيها، إلا أن الإطار الجيوسياسي لدول العالم الثالث يوحد اغلبها، هذا لا يعني أن انتهاكات حقوق الإنسان مقتصرة فقط على العالم الثالث، لكن بلا ريب إنها تتركز فيه حيث يتجلى استغلال دول العالم الأول لثروات هذه البلاد، فهناك بعض الأفلام تتناول صراع السكان الأصليين لأمريكا اللاتينية من اجل الحفاظ على بقائهم وعلى أراضيهم وعلى ذاكرتهم كما في فيلمي؛ “غرانيتو: كيفية الإطاحة بدكتاتور”-الأنف الذكر- و”نيوين مابوش” الذي يتناول قصة السكان الأصليين في شيلي شعب المابوش وصراعهم من أجل استعادة أراضيهم، أو أفلام تتناول صراع السكان الأصليين للحفاظ على البيئة كما في فيلم “سكامبيوس: ارض بلا شرور” حيث يقاوم سكان الإكوادور الاستغلال الكبير لشركات النفط الأجنبية، والآثار المدمرة التي يخلفها استخراج النفط والمعادن عليهم وعلى بيئتهم.
للحروب الأهلية واللبنانية على وجه التحديد نصيب في عروض المهرجان كما في الفيلم الروائي “هلأ لوين” الذي يتناول شبح الحرب الأهلية بأسلوب فانتازي، وفيلمي “شتي يا دني” وملاكي” حيث يتناول كل منهما بأسلوبه تداعيات الحرب الأهلية على الإنسان، وخصوصا بعد عودة بعض المخطوفين بينما يبقى مصير بعضهم الآخر مجهولا.

ما شكل الحياة بعد انهيار جدار برلين والحقبة الاشتراكية، ما حال رومانيا بعد 20 عاما على إعدام تشاوشيسكو، هل اختلف شيئا، يمكن التعرف على الوصفة المحسنة للحياة عبر الفيلم التسجيلي “الرأسمالية” حيث يمكننا تتبع رحلة تحول حفنة من رجال نظام تشاوشيسكي السابقين إلى رجال أعمال أو بالأحرى حيتان إبان فترة التحول إلى الرأسمالية، ويبدو صادما أن لا يخجل هؤلاء الرجال من الدور الكارثي الذي لعبوه في إنهاك البلاد بصفقاتهم الفاسدة، فهم يمتلكون منشاءات حيوية في الدولة، ويتحكمون في البلد كما لو أنها مزرعتهم خاصة، ويقدمون وصفتهم المحسنة “إذا أردت أن تكون ناجحا، لا بد لك أن تسرق”، لكن ماذا عن معقل الرأسمالية؟ ماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية/ العالم الأول؟ “ثمة إضاءة يقدمها الفيلم الوثائقي “الجيش الرابض” الذي يتناول المشاكل الناجمة عن قواعد الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية المنتشرة في أنحاء العالم وصراع السكان الأصليين معها.
الفن كوسيلة للمقاومة
لكل طريقته في المقاومة، بعضهم يقاوم بحمل السلاح، وبعضهم باعتصامات سلمية، وبعضهم يقاوم بالفن، وبهذا يمكن اعتبار هذا المهرجان بعروضه السينمائية شكلا من أشكال المقاومة، حاضنا لعدد من الأفلام التي تحتفي بالفن كوسيلة للتعبير والتغيير، هذا ما ترصده المخرجة لارا لي في فيلمها التسجيلي “ثقافات المقاومة” حيث تقدم شعوب من مختلف قارات العالم تقاوم بمختلف أنواع الفنون؛ بالشعر، الموسيقى، الغناء، الرقص، الرسم،… فهي تقاوم من اجل أن تحصد السلام، دون إغفال أن “السلام ليس بديلا عن المقاومة إنما تتويجا له”، وان “المقاومة ليست سياسة وإنما ثقافة”، بهذا المعنى كانت للاحتجاجات السلمية التي صنعت ثورة مصر حضورا في المهرجان من خلال الفيلم التسجيلي “تحرير2011، الطيب، الشرس، والسياسي”، وبهذا المعنى أيضا شكلت الأغاني وموسيقى الشباب النابعة من القهر في الفيلم المصري “ميكرفون”، ثقافة مقاومة وكانت مؤشرا قويا ينبئ بالثورة المصرية، وكذلك أغاني الشباب الفلسطيني الثائر التي يرصدها الفيلم التسجيلي “حاجز الصخرة”، كنوع من أنواع المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وأغاني الشباب في فيلم “ثورة” متمثلة في إحدى فرق الهيب هوب الكوبية حيث يغني أفرادها احتجاجا على الأوضاع في كوبا.
الحديث يطول عن أفلام المهرجان، فعلى الجدول ثمة طيف واسع من الأفلام؛ الروائية والتسجيلية، والطويلة والقصيرة، كل منها يقدم مساهمته بأسلوبه الخاص، وكل منها يشكل حبة رمل نأمل بأنها ستساعد مجتمعة على أحداث التغيير.