مختار العجيمي يعود إلى مشهد السينما في تونس الثورة

حُرمت من الدعم سنوات طويلة والثورة أنقذتني
صالح سويسي – تونس

قال المخرج السينمائي التونسي مختار العجيمي أنه ظلّ محروما من دعم وزارة الثقافة التونسية لسنوات طويلة، وأنه لم يحصل على دعم لأحد أفلامه إلاّ بعد ثورة 14 يناير، وأضاف في حوار خصّ به موقع الجزيرة الوثائقية أنّه لم يسع لركوب موجة الثورة وصنع فيلم سريع بل خيّر التريّث والصبر وكتابة عمل أخذ منه أربعة أشهر ليستقيم سيناريو شريط “ديكتاشوت” الذي سينطلق في تصويره مع بداية العام الجديد ويقدم رؤيته الخاصة لما حدث في الليلة الفاصلة بين 13 و14 يناير الماضي.
في هذا الحوار معه تحدث العجيمي عن آخر أعماله كما تحدث عن الصعوبات المالية التي تعرض لها في إنجاز شريطه عن الشاعر محمود بيرم التونسي والذي استنزف منه جهدا كبيرا ولم يجهز بعد أمام نقص التمويل، كما تحدث عن تجربته مع سينما الاستعمار وسينما الجنوب التي وثّق لها في شريط بساعة ونصف الساعة…

في رصيدك عدد كبير من الأعمال، ولكنك منذ فيلمك الروائي الأول “باب العرش” لم تقدم غير الأعمال الوثائقية التي شكلت تجربة متفردة فيما سمّيَ بأفلام “سينما الاستعمار”… ماذا عن هذه التجربة؟

من فيلم سينما الاستعمار

منذ باب العرش الذي أثار ضجة حين عرض ونال جائزتين في أيام قرطاج السينمائية إحداهما لأحسن ممثل والأخرى جائزة لجنة التحكيم الخاصة،  وحتى هذا العام أي منذ ثماني سنوات قدمت أكثر من ثمانية  أفلام وثائقية تُضاف إلى مجمل العمال الوثائقية التي أنجزتها على مدى سنوات اشتغالي في مجال السينما، حيث حرمت منذ ذلك الوقت من الدعم والتمويل العمومي جراء جرأتي في “باب العرش”. الأفلام التي قدمتها قبل فيلمي الروائي الأول تنزّلت في إطار سلسلة “سينما الاستعمار” لكبرى القنوات الفرنسية من بينها “ألف رقصة ورقصة” و”مقاهي الشرق” وغيرها، وهي من الأعمال التي شكلت تجربة خاصة في مسيرتي أردفتها فيما بعد بشريط حول سينما الجنوب يحمل عنوان “تحيا السينما”  في ساعة ونصف، والذي استنزف عشر سنوات من حياتي ويمتد على ساعة ونصف الساعة، حيث كان التمويل ذاتيا وهو ما أتعبني جدا ومع ذلك أنجزت الفيلم وقمت بتصوير أجزائه في عديد الأماكن مثل وغادوغو والبرازيل وكوريا الجنوبية ويتمحور حول تحديات سينما الجنوب تجاه العولمة وهو الفيلم الذي كان موضوع ندوة أيام قرطاج السينمائية الأخيرة وفيه شهادات لعدد هام من السينمائيين من ذلك الإيراني مخملباف وخوانتيغاز من البرازيل وغيرهم. والفيلم كان توثيقيا بامتياز لسينما الجنوب في مواجهة سينما الشمال والأسواق المتوفر والمطروحة.

ثمّ كان الجزء الثاني من “السلسلة” إن صح التعبير في شريطك الوثائقي الطويل حول سينما الجنوب؟
نعم وكأني أردت تقديم جزء ثاني ليكتمل التصور الكامل الذي ارتأيته لأعمالي، فبعد سلسلة الأشرطة الأولى لصالح القنوات الفرنسية جاء شريط أنتجته قناة آرتي لفرنسية، والذي يقدم سبعين عاما من السينما الاستعمارية في شمال إفريقيا، وحمل بين طيّاته نقدا لاذعا لطريقة صناعة تلك السينما الاستعمارية ومدى عنصريتها ونظرتها الأحادية لدول إفريقيا الشمالية وأهلها وتاريخها وحضاراتها، والتي كانت لا ترى غير المناظر الطبيعية الجميلة والمواضيع التي تراها مناسبة من وجهة نظرها فقط. وقد تعجب الكثيرون من تمويل قناة فرنسية للشريط رغم نقده وتهجمه حيث كان الفيلم وثيقة نقدية لسينما الاستعمار.

آخر أفلام العجيمي عن محمود المسعدي

تضع اللمسات الأخيرة لشريط وثائقي روائي حول تجربة الأديب التونسي الكبير المسعدي، كيف انطلقت الفكرة وأين وصلت؟
طبعا تصوير شريط “المسعدي” يأتي في إطار احتفال تونس بمئوية هذا الأديب الكبير، وتمّ اقتراح العمل عليّ بعد أن تمّ التمديد في الاحتفالية ستة أشهر أخرى. العمل فيه جانبان توثيقي وروائي، الجانب التوثيقي يتعلق بمسيرة الأديب الكبير أما الجانب الروائي فهو تجسيد بعض الأجزاء من كتابيْ “من أيام عمران” و”السد” ساهم في تجسيدها الممثلان الحبيب غزال والعروسي الزبيدي وغيرهم.
قمت بتصوير أكثر من 29 ساعة لأنجز شريطا من ساعة ونصف، حيث صورت في تازركة مسقط رأس الأديب وفي العاصمة وفي مناطق أخرى وقدمت فيه شهادات لعدد من المثقفين والمفكرين والمبدعين مثل الأستاذين الشاذلي القليبي وتوفيق بكار وآخرين، واعتمدت طبعا على أرشيف عائلة المسعدي، كما كان الأستاذ محمود طرشونة مستشاري في هذا العمل. وفي الجانب الروائي حاولت أن أشتغل على أعمال لم يتمّ التطرق إليها من قبل من الكتابين المذكورين، والفيلم سيكون جاهزا بعد أسبوعين بإذن الله. والشريط إنتاج مشترك بيني وبين الوزارة بينما لم نصل بعد لمسالك التوزيع خاصة أنّ التلفزيون التونسي لم يبد استعدادا لاقتنائه.

وبالنسبة لفيلم “بيرم التونسي” الذي بدأته قبل فيلم “المسعدي” ما آخر أخباره؟
هذا الفيلم توقفت عن إكماله لأسباب مالية بحته حيث أنني أقوم بتمويله بجهود شخصية ولم أجد جهة تتبنّاه رغم أهميّة الشاعر والفنان محمود بيرم التونسي وتاريخه الزاخر والثريّ وهو الذي ترك بصمة واضحة في التاريخ الأدبي والفنّ في العالم العربي… ومع ذلك أسعى إلى أن يكون جاهزا بداية العام القادم لو توفرت ظروف دعم طيبة.
الفيلم سيحمل عنوان “حصاد المنفى” ويحكي فترة ثمانية عشرة سنة من منفى محمود بيرم التونسي الذي تنقل بين مصر وتونس وفرنسا مرورا بسوريا. والفيلم أردته احتفاءً بمرور خمسين عاما عن رحيله وتوقفت عن تصويره لأسباب مالية لأنني الممول الوحيد للشريط ثمّ عدت الآن مصرا على إتمامه بأي شكل حتى يرى النور قريبا في 52 دقيقة قمت بالتصوير في عديد الأماكن في القاهرة ونقلت شهادات لجمال الغيطاني ويسري العزب كما تحدثت لبعض من عاشوا في نفس الحارة التي عاش فيها بيرم. وفي تونس نقلت شهادات الأستاذ فوزي الزمرلي ونور الدين صمود وآمال موسى. وقد اكتشفت أثناء تصوير العمل ومن خلال تفاصيل حياة بيرم أشياء ممتعة حيث عمل حمّالا في مرسيليا وتجول في عديد المنافي، وأنا أتمنّى إنجاز عمل سينمائي روائي حول شخصية هذا الشاعر الذي يمكن أن تكون حياته ومسيرته مادة ثرية لفيلم سينمائي ضخم ولكنّ المشكلة تكمن في التمويل، ولذلك أرجو إن لم أنجز أنا الفيلم أن ينجزه غيري حتى نقدم هذه الشخصية الأدبية والفنيّة الهامة والذي تعذب كثيرا على مدى حياته. وفي نهاية الشريط الذي سيكون جاهزا قريبا إن توفر التمويل حاولت أن أقترح خاتمة مفتوحة وهي لو أنّ بيرم التونسي كان حيّا بيننا الآن كيف سينظر للثورات العربية وكيف سيكون موقفه منها ومن الشعوب العربية
منذ 14 يناير نزل الكثيرون لشارع الحبيب بورقيبة وحتى لعديد المدن الداخلية وصوروا ، ثمّ قدم بعضهم عمالا هي أقرب للريبورتاج منها للعمل السينمائي، أين كنت أنت وقتها؟
كنت موجودا لكنني لم أصور في حينها، بل كلفت من قام بتصوير أشياء معيّنة ربما سأستعملها في مراحل زمنية أخرى وفي أعمال أنجرها في أشهر لاحقة وربما بعد عام آخر، أنا أحب أن أقدم عملا فيه تحليل وفيه عمق وبعد فنّي وفكري وليس مجرد ريبورتاج، عندي الآن مادة جيّدة وهامّة ولكني مازلت أبحث عن محمل لتقديمها، أحب أن أقدم عملا فيه رؤية وبالنسبة لي ثمّة أمور كثيرة مازالت غير واضحة لذلك لن أقدم عملا عن الثورة الآن. ثمّ أنا شجعت طلبتي على التصوير أيام الثورة وفي اعتصامات القصبة وبعضهم نال نصيبهم من الضرب والتعنيف وهو يقوم بالتصوير. وبصراحة أمام الكمّ الهائل من عمليات التصوير التي رافقت الأيام الأولى للثورة، تصورت في تلك الفترة أن يظهر ثمانون فيلما مثلا أو أكثر عن الثورة لكثرة ما تمّ تصويره.

ولكنك بالمقابل بدأت في كتابة سيناريو لفيلم يتحدث عن الثورة ولكن على طريقتك وهو السيناريو الذي نلت عنه دعم الوزارة مؤخرا؟
هذا صحيح، منذ أربعة أشهر تقريبا انطلقت في كتابة سيناريو فيلمي الجديد الذي يحمل عنوان “ديكتاشوت” أو “رأس الفتنة”. العنوان باللغة العربية فكرت في تغييره ليكون “قصر الدهشة”، ويقدم الفيلم الساعات الممتدة بين 13 و 14 يناير، وتحديدا داخل مركز لذوي الاحتياجات الخاصة حيث يفرّ مدير المركز ويترك الفوضى خلفه داخل المبنى الذي يضمّ معوقين ومساجين رأي بعد تعذيبهم، وستصل أصداء ما يحدث خارج الأسوار وتحديدا في شارع الحبيب بورقيبة للمقيمين الذين يفرّ بعضهم من  الأنفاق وبعضهم من فوق الجدران، إذن العمل يشتغل على التكثيف من خلال تركيزه على الساعات الأولى للثروة دون الدخول في تفاصيل ما يحدث خراجا بل التركيز على العلاقات داخل المبنى قبل أن يؤثر الوضع خارج المركز على المقيمين فيه من مرضى وسجناء رأي دمرهم التعذيب وباتوا يعيشون على الأدوية المسكنة.
ومعي في إنتاج الشريط أهم المنتجين التونسيين عبد العزيز ملوكة ورياض التركي مع منتجين آخرين أحدهما من كندا والآخر من فرنسا وهو ما سيكون مؤشر نجاح للعمل مع دعم وزارة الثقافة. والفيلم الآن في طور التحضير وربما ننطلق في تصويره بداية العام المقبل بعد أن نكون قد اخترنا فريق العمل من تقنيين وممثلين.

يبدو لي أن عشقك للأعمال الوثائقية قد أبعدك عن تقديم أعمال روائية طويلة، أم أنّ في الأمر سرا جعلك لا تقدم إلاّ “باب العرش”؟

بكل صدق أنا منعت بشكل أو بآخر من تقديم أعمال روائية طويلة، لأنني منذ شريط “باب العرش” وما حمله من جرأة في التعاطي خاصة مع حرية الإعلام، أصبحت مستهدفا من قبل وزارة الثقافة التي حرمتني من الدعم لسنوات طويلة، ولعلمك لم أحضَ بدعمها إلاّ بعد ثورة 14 يناير أي بعد أكثر من ثماني سنوات. كما كان هناك أشخاص معينون يستحوذون على أغلب الدعم ولا يتركون لغيرهم نصيبا من أموال الوزارة بل ويضعون العصا في العجلة. ونرجو أن تكون الأمور قد تغيّرت الآن وألاّ نعود لمثل تلك الممارسات القديمة التي أساءت للسينما التونسية في بعض جوانبها. وأعتقد أنه يمكن أن نأمل خيرا في المستقبل.

ولكن مع ذلك عبّر الكثيرون وخاصة من السينمائيين الشبّان عن استيائهم من نتائج الدعم؟
كما تعلم أنّ اللجنة وجدت أمامها أكثر من مائة ملف واختارت منها ما رأت أنه جدير بالدعم، وقرارات اللجان عموما لا تجد إجماعا ومع أنّ السينمائيين الشبان نالوا حظهم بدعم قرابة خمسٍ وعشرين شريطا قصيرا إلاّ أنه هناك ردود فعل سلبية. أنا شخصيا قدمت خمسة أفلام قصيرة قبل أن أقدم عملي الروائي الأول بل وانتظرت خمس عشرة عاما بعد تخرجي. لذلك أرى أنه يجب على الجيل الجديد العمل على الأشرطة القصيرة ومن ثمّ المطالبة بحقهم في دعم الأعمال الروائية والطويلة.
وأنا أضع تجربتي بين جيلين وأتفهّم الاثنين، ليس هناك صراع أجيال بل يجب أن يكون هناك تواصل للأجيال واحترام متبادل. ولكني أرى أنه يمكن للمخرجين الشباب استغلال التقنيات الحديثة لتقديم أعمال جيدة وبتكلفة بسيطة، وأنا أطالب بخلق التوازن بين الأجيال فيما يتعلق بالدعم. ولكنها في النهاية كلها تداعيات لمشاكل ظلت لسنوات طويلة دون الوقوف عندها أو البحث في أسبابها وعن حلول لها من ذلك الحظوة التي كانت لدى بعض السينمائيين الذين نال بعضهم أكثر من دعم على أعمال بسيطة جدا.

يبدو أن علاقتك بالتلفزيون ليست على ما يرام، حيث لم نشهد لك أعمالا درامية، ألم تُطرح عليك مسلسلات مثلا؟
أنا لا أحب الأعمال الدرامية وهذا عن قناعة كاملة مني، أنا سينمائي فقط وأرفض إخراج المسلسلات، أنا أفضل تقديم عمل وثائقي وأعتبر ما أقدمه من أعمال وثائقية أهمّ جدا من إخراج مسلسل. ومع ذلك أحترم من خيّر من السينمائيين العمل في الدراما فلكل شخص قناعاته. ومع ذلك قدمت للتلفزيون التونسي سلسلة وثائقية بعنوان نجم في الذاكرة” بين سنتي 2003 و2007 قدمت من خلالها عديد البورتريهات لمبدعين تونسيين، وكانت الحلقة التي اهتمّت بالفنان الراحل محمد الجموسي فازت بجائزة في مهرجان التلفزيون العربي.


إعلان