تحية لجان شمعون في مرضه.. السيرة شفاء
تنقل الأخبار القادمة من بيروت، بأن المرض يُقْعِد منذ أشهر المخرج اللبناني جان شمعون في بيته، وأن “الرجل المهرجان”، كما أطلق عليه المخرج والناقد السينمائي الفلسطيني فجر يعقوب في كتاب خاص عن المخرج صدر قبل سنوات قليلة، متوقف عن أي نشاطات سينمائية، بما فيها المشروع المشترك مع شريكته في الحياة والسينما المخرجة الفلسطينية اللبنانية المعروفة مي المصري وبإشراف قناة الجزيرة الوثائقية، لتتبع الشخصيات التي مرت في أفلام المخرجين المشتركة وتلك التي أنجزوها بعد انفصالهم الفني، وتقديمها في سلسلة تسجيلية (أنجز منها للآن فيلمين هما: حنين الغوردل و مصابيح الذاكرة)، تسعى لرصد آثار الزمن والتحولات الاجتماعية والسياسية على حيواتهم، خاصة أن الأسئلة لم تتوقف أبدا عن مصائر تلك الشخصيات، التي خطفت القلوب في حضورها العابر المؤثر في أفلام، تعد اليوم وثائق صورية مكتنزة بالحنين والقسوة والحزن، وشهادات على سنوات عاصفة، مازالت آثارها متغلغلة حتى الساعة في النسيج الفكري والعاطفي لأبناء المنطقة.
يثير غياب جان شمعون القسري، والذي ندعو الله أن لا يطول كثيرا، الكثير من الأسى، فالمخرج اللبناني، بشخصيته الصاخبة، وتمسكه بمُثل لم يحد عنها في الحياة والسينما، ينتمي إلى تلك الطبقة من المثقفين الفعالين، الذين ربطوا حياتهم الخاصة بمشروعهم الثقافي، وقدموا التضحيات العديدة، من اجل أن يواصلوا العمل في ظروف صعبة للغاية أحيانا. وواجهوا الإهمال في بلدهم أحيانا، بسبب اصطفافهم إلى جانب القضايا الإنسانية التي انشغلت بها سينماهم، والتي ربطت أحيانا، وبسبب الظرف السياسي المعقد في لبنان، باتجاه حزبي أو فئوي.
سينمائيا، ورغم أن المخرج جان شمعون مقل كثيرا بأعماله التسجيلية ( فيلمان فقط خلال العشر سنوات الماضية)، إلا أن حضوره السينمائي لم يخفت أبدا، في السنوات العشر الأخيرة، وحتى وقت مرضه، كانت حافلة بالنشاطات السينمائية : من تكريمات في عدة مهرجانات سينمائية عربية ودولية، إلى مشاركات في لجان تحكيم مهرجانات سينمائية، مع البحث الدؤوب عن مشاريع سينمائية شخصية، أو المساعدة كمنتج منفذ، في أفلام المخرجة مي المصري، بما فيها استعداداتها المستمرة منذ بضعة سنوات لانجاز فيلمها الروائي الأول، وبعد مسيرة حافلة لها هي الأخرى، قدمت فيها أفلاما تسجيلية حظيت بترحاب حول العالم، وعرضت في عشرات المهرجانات السينمائية.
ينتمي جان شمعون إلى جيل مخرجي الحرب، الذين بدؤوا نشاطهم الأول بعد اندلاع الحرب اللبنانية، و التي صبغت بسوداويتها، عنفها، تشاؤمها أفلامهم الأولى، وأحيانا المسيرة السينمائية الكاملة لبعضهم. ورغم عدد الأفلام القليلة التي أنجزها جان شمعون في العقدين الآخرين، إلا انه يعتبر أغرز أبناء جيله سينمائيا، فالرحيل المبكر لمارون البغدادي ورندة الشهال وتوقف برهان علوية شبة الكامل، عجل بنهاية مسيرة هذا الجيل. إضافة إلى ذلك، يعتبر جان شمعون الوحيد من أبناء جيل مخرجي الحرب، الذي واصل تقديم الأفلام بعد سنوات من انقضاء الحرب اللبنانية، وعبر في تلك الأفلام عن ما يمكن أن يسمى قضايا ما بعد الحرب، ففيلمه (رهينة الانتظار، 1994) كان يسعى لمحاكمة ضمير المجتمع اللبناني بعد الحرب حيال قضايا شائكة مثل الوجود الفلسطيني في لبنان، رغم ما يحيط بهذه القضية بالذات من حساسية شديدة بسبب الخلافات الشهيرة التي أحاطت بهذا الوجود. ففي الفيلم المذكور يرافق المخرج طبيبة لبنانية شابة ومن أسرة ميسورة أثناء عملها في مخيمات الفلسطينيين في جنوب لبنان ، ليسلط الانتباه على المحنات الإنسانية هناك.
وإذا كانت السيرة الفيلمية لجان شمعون تضم فيلما طويلا واحدا ( طيف المدينة من عام 2000)، إلا أن إنجاز المخرج الأبرز هو تلك الأفلام التسجيلية الشديدة الأهمية التي بدأها منذ حوالي الثلاثين عاما، وخاصة الأفلام الأربع التي أنجزها مع المخرجة مي المصري، والفيلمان التسجيليان الآخران الذان حملا توقيع المخرج وحده، وبعد انفصاله الفني عن مي المصري.
تنجو الأفلام السياسية المبكرة الأولى لجان شمعون ومي المصري من الخطابية الدعائية الفجة، والتي سادت معظم النتاج التسجيلي الصوري في سنوات السبعينات في العالم العربي، وخاص ذلك الذي ارتبط بالصراع العربي الإسرائيلي وآثاره العميقة المتشعبة في بنى المجتمعات العربية. اختارت تلك الأفلام مقاربة مختلفة، ركزت فيها على قصص إنسانية خالصة، لأفراد وجدوا أنفسهم في منتصف ساحات حروب لا ترحم. لم يكن الأسلوب الذي سارت عليه سينما جان شمعون ومي المصري المبكرة، هو لإثارة التعاطف، فبعض نساء فيلم (زهرة القندول، 1986) اللبنانيات، كن محاربات شرسات، لكن الفيلم يركز أيضا على حياة هؤلاء النساء التي زلزلتها الحروب الإسرائيلية الصغيرة في جنوب لبنان والتي استمرت عقود طويلة ، والثمن الذي دفعنه هؤلاء النساء من حياتهن الشخصية.

هيمنت الحرب اللبنانية الأهلية والصراع الفلسطيني العربي، على مجمل نتاج المخرج جان شمعون. فالمخرج الذي درس السينما في فرنسا في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ورجع قبل الحرب الأهلية اللبنانية، عاش الحرب اللبنانية بجميع فصولها وسنواتها الطويلة، وكما تحدث لبرنامج العدسة العربية والذي كان يعرض على قناة الجزيرة. هذه الحرب ستترك آثارها الكبيرة على المخرج. حتى أن فيلم المخرج الروائي الوحيد (طيف المدينة)، يبدأ زمنيا بعام فقط قبل بداية هذه الحرب، ويختتم بعد عام من نهايتها الرسمية، مقدما قصة يمكن أن توصف بأنها قريبة من تجربة المخرج في الحرب اللبنانية. وشخصيات الفيلم الخيالية هي في الواقع صدى للبنانيين حقيقيين، فتحوا قلوبهم للمخرج في أفلامه التسجيلية التي سبقت انجاز فيلمه الروائي. كما أن هموم فيلم طيف المدينة، هي هموم المخرج نفسه، والتي تعرض لها في أفلامه التسجيلية: من قضية مخطوفي الحرب اللبنانية، إلى الطفولة البريئة التي تبلغ سن الرشد والقسوة باكرا تحت وقع القنابل، إلى وضع المثقف اللبناني، والخراب الذي لحق بمؤسسة الثقافة في لبنان. وكما عبر عنه واحد من أكثر مشاهد فيلم طيف المدينة تأثيرا، عندما يكتشف البطل أن المقهى الذي كان يعمل فيه عندما كان صبيا، وكان يرتاده مثقفون يساريون، تحول إلى ثكنة لإحدى مليشيات الأحزاب اللبنانية المتقاتلة.
يعترف جان شمعون ( في اللقاء نفسه الذي أجراه برنامج العدسة العربية)، بان النساء يلعبن الدور الأهم في حياته، وان أمه التي ربته وحدها بغياب الأب، تركت تأثيرا حاسما على معتقداته. لذلك ركزت معظم أفلام المخرج على الشخصيات النسائية العربية، وعن الحياة الشاقة والمعاناة التي يجابهنها في حياتهن. ففيلم زهرة الأقحوان هو تحية لنساء قرى جنوب لبنان والصراع المسلح الذي خضن إياه ضد الاحتلال العسكري الإسرائيلي لقراهن. في حين كانت (وداد) السيدة المكلومة باختطاف الزوج، في فيلم ( أحلام معلقة) الشخصية الأكثر تأثيرا في الفيلم التسجيلي الذي عرض في عام 1992، والذي تناول آثار الحرب الأهلية اللبنانية المستمرة، رغم توقف المدافع. شخصية وداد الحقيقية، ستلهم المخرج،وكما كشف في لقاء صحفي، لتكون إحدى شخصيات فيلمه الروائي الطويل طيف المدينة. والتي تعيش المأساة ذاتها و تعيشها عشرات الآلف من عوائل المخطوفين اللبنانيين في الحرب الأهلية. كذلك سيخصص المخرج فيلمه التسجيلي (أرض النساء، 2004) للنساء الفلسطينيات هذه المرة، ويركز على ثلاث نساء فلسطينيات بتاريخ وتجارب شخصية مختلفة لكنهن يشتركن بيقينهم الثابت بقدرتهم على تحقيق كينونتهن الفعالة رغم العقبات الاجتماعية وتعقيدات الظرف السياسي.
وإذا كان مشروع الجزيرة الوثائقية، بانجاز أفلام تسجيلية جديدة عن شخصيات أفلام جان شمعون ومي المصري السابقة، يبدو في الظاهر، كمشروع يتكل على شهرة أفلام تسجيلية تأسيسية مهمة، إلا أن المقاربة التي قدمت في فيلمي (حنين الغوردل و مصابيح الذاكرة) تنطلق من الذكرى العاطفية للأفلام الأولى، لتكشف وتحاسب الظروف التي مازالت تعرقل حياة سوية لتلك الشخصيات. وهو الأمر الذي يعطي السلسلة “الشرعية” الكافية، بل ويمنحها أهمية استثنائية، كانجاز جديد في مسيرة جان شمعون ومي المصري، وهي المسيرة التي نتمنى أن تستمر لسنوات طويلة قادمة.