النرجسية وغياب الخيال في الفيلم الوثائقي العربي
إحدى مشاكل الفيلم الوثائقي الذي ينتج في العالم العربي أو حتى في أوروبا اليوم تتمثل في بعدين: الأول تأثير التصوير بغرض العرض في التليفزيون، والثاني: غياب الخيال، والبعد “الدرامي” في الوثائقي. وسوف يتوقف البعض أمام كلمة “الدرامي”، ولكن قبل ذلك دعونا نشرح المقصود بتأثير التليفزيون.
بعد مشاهدة نحو عشرة أفلام وثائقية في مهرجان دبي (الدورة الثامنة) من اخراج سينمائيين من العالم العربي، لاحظت أن طابع الريبورتاج التليفزيوني، يغلب على الفيلم التسجيلي والوثائقي، فالبعض أصبح يعتقد أن مجرد الحصول على بعض التسجيلات الصوتية والصور الفوتوغرافية وبعض الوثائق السينمائية المصورة المحدودة للغاية كفيل بعمل فيلم “وثائقي” جيد، في حين أن المساحة الأكبر من الفيلم تشغلها عادة المقابلات المصورة الطويلة التي تنتقل من شخصية إلى شخصية بدون حتى استخدام أوليات بناء المشهد أي اللقطات التي تفصل بين وجه شخصية والوجه الآخر للشخصية الأخرى، أي ما يعرف بـ cut away ويصل الحديث والحكي التفصيلي الذي لا يتوقف الى درجة لا يمكن أن يتحملها المشاهد الجالس أمام شاشة العرض في دار السينما، وهذا هو الفرق بين مشاهد السينما ومشاهد اتليفزيون، فالثاني يمكنه أن يتجول، يعد الشاي والقهوة، أو يتناول العشاء، أو حتى يرد على التليفون في غرفة الجلوس في منزله بينما يشاهد “الريبورتاج”.
ولاشك أن مخرج الريبورتاج أو التحقيق التليفزيوني، غير مخرج الفيلم التسجيلي والوثائقي، ففى حين يعتبر الأول حرفيا يجتهد في تركيب المادة معا في سياق معلوماتي مقنع، يكون الثاني مبدعا، يخلق لنفسه مساحة من الخيال من خلال شكل السرد أو السياق السردي narrative وقد يتوقف ويستخدم أيضا الممثلين أو ما يسمى بـ”إعادة التجسيد” reconstruction أو يطلب من شخصية أو أكثر من شخصيات فيلمه العودة معه الى مكان وقوع الأحداث لكي يتذكر وهو يعاين ثم يروي امام الكاميرا وهو يسير أو يتوقف ويسأل اناسا عن أمر ما يراه في الواقع وربما يكون قد أصبح مختلفا عما كان عليه. وهنا تصبح الشخصية الحقيقية (وهي شاهد على الأحداث أو طرف مباشر في الحدث) شخصية تقوم بالأداء التمثيلي على نحو ما أيضا، ولا ترتبط بالتلقائية التامة التي نقول إنها لصيقة بأفلام الواقع أو الأفلام التسجيلية (التي يفترض أنها تسجل الواقع).
ولعل أفضل نموذج على ما نذكره هنا الفيلم الفرنسي “هنا نغرق الجزائريين- 17 أكتوبر 1961” للمخرجة من أصل جزائري ياسمينا عدي.

هذا الفيلم لاشك أنه جاء تأثرا بما جاء في الفيلم الفرنسي “الخارجون عن القانون” من إخراج الجزائري الأصل رشيد بوشارب، للمرة الأولى في السينما، ونقصد بهذا أحداث ذلك اليوم الاستثنائي في تاريخ الثورة الجزائرية عندما دعت جبهة التحرير أبناء الجالية الجزائرية في باريس وضواحيها للخروج في مسيرات احتجاج على حظر التجوال الذي فرضته السلطات عليهم، وكانت نتيجة ذلك الخروج الكبير بعشرات الآلاف، أن قامت قوات الأمن الفرنسية بمحاصرة أبناء الجالية الجزائرية داخل محطات مترو الأنفاق، وفي الشوارع، وألقت بالعشرات منهم في مياه نهر السين لكي يموتوا غرقا في عمل وحشي يندى له جبين الديمقراطية الفرنسية.
هذا الحدث الاستثنائي الكبير كان يمكن، بل كان ينبغي أن يقدم في الفيلم الوثائقي كحدث “درامي” أي يتم التمهيد له بعناية، والتدرج في الكشف عن تفاصيل ذلك اليوم العصيب، وصولا إلى عرض الوثائق المتوفرة أو التي توفرت، أو استخدام اعادة التسجيد مع الشرح الصوتي، في حالة غياب الوثائقي التي تصور هذا الحدث تحديدا.
أما ما حدث في الفيلم أننا جلسنا نشاهد الكثير جدا من المقابلات المصورة مع شخصيات كانت شاهدة عما وقع أو شاركت في الحدث نفسه ونجت منه بطريقة ما، وهذا هو الجسم الرئيسي للفيلم، أي المقابلات التي نرى فيها أشخاصا إما جالسين على مقاعد، أو واقفين بجوار النهر وغير ذلك.
ولا يعتمد الفيلم على الكثير من الوثائق المصورة بقدر ما يعتمد على تسجيلات صوتية لعدد من المكالمات التليفونية بين رجال الشرطة ورؤسائهم أو زملائهم، مع القليل من اللقطات الحية من الأرشيف، أو الصور الفوتوغرافية الثابتة.
ولم تقدم المخرجة الجانب الآخر من الحدث، كما لم تنجح في دفع أي شرطي ممن شاركوا في الحدث في الحديث أمام الكاميرا بحيث تأتي شهادته دامغة على جحم التورط الفرنسي المباشر في هذه التراجيديا.
هذا النوع من الأفلام، بسبب فقر مادته، لا يملك التأثير الحقيقي للفيلم الوثائقي، لأنه يخلو بالضرورة من البناء المثير للاهتمام، اكتفاء بتقديم الكثير من المعلومات التي تمتليء بالتواريخ والأسماء والأماكن والاجترار.. بحيث لا تترك أمام المشاهدين مساحة كافية للتوقف والتأمل والتفكير والوصول إلى استنتاجات، ويخدم التعليق الصوتي المصاحب للفيلم، وجهة نظر أحادية منحازة بالضرورة من البداية الى قضية جبهة التحرير، دون أن يعني ها أن الحياد كان مطلوبا أمام حدث جلل كهذا، بل إن الحياد الشكلي أو البناء السينمائي المتوازن كحيلة فنية، يكون عادة أكثر إقناعا للمتفرجين من البناء الصاعد الذي يتجه نحو وجهة واضحة مقصودة من البداية.
التأكيد على الذات
في الوقت نفسه يمكن ملاحظة أن عددا كبيرا من الأفلام الوثائقية التي شاهدناها في مهرجان دبي السينمائي يظهر مخرجوها في الكثير من مشاهدها بل وهناك أيضا مخرج يظهر في معظم مشاهد فيلمه إن لم يكن كلها، بافتراض أن ما شاهدناه تصلح لتسميته كلمة “مشاهد” في حين أنها لا تزيد عن حوارات الكراسي، أي أن المخرج يجلس مع والده أو صديقه أو قريبه على مقعدين ويتحدثان أمام الكاميرا!

كان هذا على سبيل المثال سمة ملحوظة من سمات الفيلم الأردني “عمو نشأت” للمخرج أصيل منصور الذي فشل رغم فكرته اللامعة أن يعمقها ويضعها في سياق سينمائي مثير للاهتمام بأي درجة أو صورة من الصور، فكله مبني على الحوارات التفصيلية التي تحرف في الكثير من الأحيان، عن الفكرة الرئيسية، للانجراف في قضايا فرعية حول الملكية والميراث والأرض التي يتناوع عليها الأشقاء، والفشل التام في النهاية في تقديم “بورتريه” حقيقي للشخصية التي يبحث البطل- المخرج نفسه عن جذورها وما كان يحيط بها من قصص وحكايات بل وتناقضات أيضا، وهي شخصية “العم نشأت” عم المخرج.
ويظهر أحمد رشوان في فيلمه عن الثورة المصرية “مولود في 25 يناير”، كما يظهر عمر الشرقاوي وكريم الحكيم مخرجا فيلم “نصف ثورة” في فيلمهما، وتظهر هبة يسري مخرجة فيلم “ستو زاد.. أول عشق” في فيلمها عن المغنية شهرزاد، ويظهر المخرج اللبناني سيمون الهبر في فيلمه “الحوض الخامس”، ويظهر المخرج خالد شميس (من جنوب افريقيا) في فيلمه “الإمام وأنا”.. وهكا
وكأن الأمر أصبح “تقليعة” أو “موضة”، للتأكيد على فكرة السرد الذاتي أو العلاقة بين المخرج وبين المادة أو الموضوع أو الشخصية موضوع الفيلم، والملاحظ أن معظم هذه الأفلام عبارة عن بورتريهات لشخصيات معينة، ولا تستلزم بالضرورة وجوب اظهار ذلك البعد الذاتي. والملاحظ مثلا أن من الممكن استبعاد ظهور المخرجين من أفلامهم والاكتفاء بالتعليق الصوتي من خارج الصورة في معظم هذه الأفلام دون أن يخل هذا بالفيلم بل يساعد في جعله أكثر رصانة وأقل مراهقة، باستثناء فيلم “عمو نشأت” الذي لا يصبح له وجود من الأصل في حلة الاستغناء عن ظهور مخرجه في سياقه، حتى أن من الممكن أن نطلق عليه فيلم “العم أصيل منصور”!
الملحوظة الأخيرة أيضا تتعلق بوجود قاسم مشترك أعظم بين معظم هذه الأفلام يتمثل في أنها ممولة جزئيا أو حصلت على دعم مالي من مؤسسة “إنجاز” في مهرجان دبي السينمائي، الأمر الذي يدعونا إلى ضرورة إعادة النظر بالكامل في الأسس التي يقوم عليها تقديم الدعم: هل يخضع الأمر للمصادفات، أو لوجود عناصر من بلد عربي معين لذهاب النصيب الأكبر من الدعم إلى جنسية معينة من الأفلام بغض النظر عن مستواها مثلا؟
هذا السؤال نتركه مفتوحا فربما يملك أحد غيرنا الإجابة عليه.