جمعة الرحيل: البناء الجدلى للفيلم الوثائقى

” تواصل منى عراقى أسلوب ” التحقيق الاستقصائى” الذى بدأته فى عملها ” طبق الديابة ” الذى حاز عدة جوائز ووضع صاحبته على طريق مخرجى السينما الوثائقية المهمومين بقضايا أوطانهم بعيدا عن أفلام الدعاية والتوجيه المعنوى.
تبدأ المخرجة فيلمها بمقطع من خطاب حسنى مبارك الذى أثر فى قطاع عريض من المصريين، والذي يقول فيه إنه يعتز بالسنين التى قضاها فى خدمة مصر وشعبها وأنه لم يكن ينوى الترشح لفترة رئاسية جديدة، تذهب منى بالكاميرا إلى المطار لتتقصى حقيقة ردود الأفعال مع عائد لوطنه، ومع سائق سيارة أجرة وتمضي في عقد لقاءات متنوعة أغلبها مع مؤيدين لمبارك، وقبل أن نعتقد أنها أيضا تؤيد إعطاءه الفرصة ليكمل فترة ولايته، تنتقل مع صوت مثقف يتحدث عن تضليل الإعلام للرأى العام المصرى مما جعل الناس ينقسمون بعد الثورة إلى قسم معها وقسم آخر ضدها، تقدم مقاطع من تلفزيون رسمى توضح ما يقوله المثقف.
مقاطع اشتهرت لأن المتحدثين بها من مشاهير لعبة كرة القدم –ابراهيم حسن- أو من الفنانين- سماح أنور وغادة عبد الرازق. تركز العراقى على التضليل الذى قام به الإعلام الرسمى الذى يصنع لقمة للجائعين من سخافته، ثم نسمع تحذيرا لمذيعة شهيرة من كرات نار يطلقها ما أسمتهم “عناصر إيثارية”.. أما الوحدة المشهدية التالية فستكون ليلا من ميدان التحرير تبدأها بهتاف ” باطل ..” وتمضي في لقاءات تحضر فيها شخصيا لتظهر الجانب الآخر من الثوار الذين رفضوا تضليل الخطاب، تلتقى الداعية صفوت حجازى الذى يشرح تواجد وحدة أمن دولة تقوم بالقبض على من يخرج من الميدان، فتاة متحمسة تزيد قائلة إن “حسنى مبارك يدفع للبلطجية وأن الإعلام لا يقول كلمة حق” يقاطعها هتاف لجموع “ارحل ” فتنضم إليهم. وما بين أسئلة المخرجة وإجابات الثوار تتضح حقيقة إيمانهم بضرورة الرحيل. ولم يكن صدفة أن تختار العراقى “جمعة الرحيل” عنوانا لفيلمها رغم أنها لم تكن جمعة 11 فبراير التى تخلى فيها حسنى مبارك عن السلطة، بل الجمعة 4 فبراير التى أسماها الثوار كذلك مدفوعين بطاقة تفاؤل كبيرة بعدما انتصروا فى معركة الجمل التى جرت في 2 فبراير ونشاهد مقاطع منها صبيحة الخميس 3 فبراير، وسط هتاف النصر من منصة يقول الشاب وتردد الجموع خلفه :” وكسبنا أمن الدولة..” .
فضح إعلام النظام الذى كان أحد أسباب سقوطه، الموضوعية فى نقل الرأى والرأى الآخر، التركيز على الفكرة والمضى فى الكشف عن الحقائق التى تؤيدها ، هو ما يميز أعمال المخرجة منى عراقى وأسلوبها فى صياغة الوثيقة ليس فقط بغرض الرصد ولكن للمكاشفة والفضح.

الكاميرا حرة لا تضع الجماليات فى خطتها ولكنها تركز على التقاط اللحظة، وتتم صياغة جمالية من صوت الأذان فى الغروب يكون خلفية لمشاهد متتابعة لمعتصمين يفطرون على تمر وخبز جاف. مشاهد تُظهر حميمية العلاقات بين الثوار وبساطة عيشهم، وتستمر المخرجة فى عرض وجهات نظر الثوار وتقطع على تظاهرة حاشدة تهتف “يسقط يسقط حسنى مبارك” ثم جلسة لرائدة العمل النسوى د. نوال السعداوى تجري نقاشا مع شباب متجمع حولها تسألهم: “هل سترضون بشفيق أو عمر سليمان؟ أم ستشكلون أنتم حكومة انتقالية؟” والسؤال يتضمن الإجابة التى تحفز الشباب وتدفعهم إلى التفكير. ينتهى الفيلم بهتافات هادرة: “الشعب يريد إسقاط النظام” . أسلوب العمل المعتمد على التصوير فى موقع الحدث وعدم إغفال وجهات النظر المختلفة يصاغ فيما بعد فى المونتاج فى بناء جدلى يؤدى إلى استنتاج تنحاز له المخرجة فى حتمية الرحيل بعد الإرادة الشعبية التى ظهرت فى النجاح فى مقاومة مؤامرة أجهزة قمع النظام فى القضاء على الثورة.
شارك ” جمعة الرحيل ” بمهرجان “العجلات ” وهو مهرجان جوال بتركيا يحتفى بالأفلام الحائزة على جوائز فى مهرجانات أخرى، بدأ فى الثالث من ديسمبر بالعاصمة أنقرة وتجول فى عدد آخر من المدن فى إطار الاحتفاء بالربيع العربى فى تركيا والذى بدأ فى مهرجان “أدنة لدول حوض البحر المتوسط” ويستمر مع كل مهرجان معبرا عن الرعاية التركية للثورات العربية ودعمها للشعوب الحرة فى نضالها ضد الدكتاتوريات .