جميل راتب، مشوار حياة 2/2

في الحلقة الأولى من “مشوار حياة”، تحدث الفنان “جميل راتب” عن بداياته المسرحية في فرنسا، وعودته بعد ثلاثين عاماً إلى مصر، وانطلاقة مسيرته السينمائية فيها.
في هذا القسم الثاني يكملُ ذكرياته المُبعثرة عن مشاركته كممثلٍ في أفلامٍ أجنبية، وعلاقته مع كبار الممثلين مثل : أنطوني كوين، محمود المليجي، محمود مرسي، محمد صبحي،…والممثلات : غابي مورليه، فاتن حمامة، سناء جميل،..
والأهمّ، يُصحح، ورُبما للمرة الأولى، خطأ شائعاً انتشر في الصحافة العربية يشير بأنه كان عضواً في “الكوميدي فرانسيز”،……

العمل مع الكبار

فيلم ترابيز

كان أول فيلم أجنبيّ اشتركتُ فيه هو “ترابيز” لمُخرجه “كارول ريد”، ومن ثمّ عملتُ مع مخرجين آخرين، ومنهم “مارسيل كارنيه”، “ديفيد لين”، وهو مكسبٌ كبير لأيّ فنان.
هناك ممثلٌ عظيمٌ جداُ عملت معه في فيلم “لورانس العرب”، واستفدت منه، ومن إنسانيته، وأصبح من أكبر أصدقائي، هو “أنطوني كوين”، كان يعتبرني مثل أخيه الصغير، واكتسبت الكثير من علاقتي معه على المستوى الفني، والإنساني.
كان “أنطوني كوين” يوماً في روما يمثل “زيارة السيدة العجوز”، وأرسل لي بطاقة سفرٍ كي ألتقي مع المخرج، وعندما وصلت هناك، فوجئت بأنه لا يوجد دور لي، فعرضوا عليّ العمل كمساعد، وافقت، لأنني كنت مهتماً بالإخراج السينمائي، فقد أخرجت سابقاً أفلاماً للتلفزيون الفرنسي لصالح قناةٍ متخصصة بأفلام موجهة للمغرب العربي.
من حظي في المسرح الفرنسي بأنني عملت مع ممثلين مهميّن مثل “لوران تيرزييف”، و”سوزان فلون”، ..كان أغلب الممثلين الذين عملت معهم من طراز عالٍ جداً، وكان العمل معهم مكسباً كبيراً لي.
فيما يتعلق بالممثلين العرب، كان هناك تفاهمٌ فنيّ مع “سناء جميل”، “محسنة توفيق”، “فاتن حمامة”، و”سعاد حسني”، ولكن “فاتن حمامة” مهمة جداً، فهي ممثلة كبيرة، ولا أحد يستطيع انتقاد أدائها، هي “أم كلثوم” السينما، لا يوجد نقاش حولها، هناك فنانون كبار، ولكن هي خارج هؤلاء تماماً.
عملت أيضاً مع “ناديا لطفي”، “سعاد حسني”، “مريم فخر الدين”، “مديحة يسري”، “هدى سلطان”،…وأغلب الممثلات الذين أصبحن نجماتٍ في غيابي، لو كنت بقيت في مصر، كنا نجحنا مع بعض.
بالنسبة للممثلين الرجال، هناك واحدٌ مهمٌ جداً، وأعتبره أستاذاً كبيراً، هو “محمود المليجي”، وفي المسرح، والتلفزيون أحب العمل مع صديقي “محمد صبحي”، هو مخرج، مؤلف، وممثل عظيم في المسرح، ولكن، لم يستطع أن يكون بنفس الحجم في السينما، إنه فنان كبير، واستفدت منه كثيراً، عملت مع أغلب الممثلين الرجال: “صلاح السعدني”، “نور الشريف”، “عادل إمام”،… ولكن، بالنسبة لي، كممثل، لا أعتقد بأنهم أضافوا لي كما فعل كلّ من “محمود المليجي”، و”محمد صبحي”.
“محمود المليجي” إنسانٌ متواضعٌ جداً، فنانٌ كبير، يهتم، ويركز  في عمله، اشتغلت معه في بعض الأفلام، وكنت حريصاً بأن أكون في مستواه، هو من الممثلين العظام الذين خدموا الفن بصدقٍ، واحترام.
كما كنت من المُعجبين جداً بممثل عظيم هو “محمود مرسي”، هناك بعض الأدوار التي رفضها، وطلب من المخرجين، والمنتجين بأن يقترحوها عليّ، كان من المفترض بأن يمثل في مسلسل “الراية البيضاء”، ولكنه اعتذر، ومثلت الدور بدلاً عنه، كان مهماً بالنسبة لي، لقد أثرّ علي كثيراً في الفنّ، وعلى المستوى الإنساني.
من الأسباب المهمة التي جعلتني أغادر مصر هي حبّ الأعمال الفنية، فأنا حالياً أعيش بين البلدين، لأني تعودت العيش في فرنسا في أجواءٍ ثقافية، وفنية مهمة جداً أكثر من مصر.

التجربة الفرنسية
كنت واحداً من ممثلي “الفرقة الفرنسية للكوميديا”، وكان رئيسها عضواً في “الكوميدي فرانسيز”، وهو احد الذين ساعدوني على العمل، والانتشار في الفنّ، ولم أكن عضواً في “الكوميدي فرانسيز”، وهذا التشابه جعل الصحفييّن يكتبون بأنني عملت مع “الكوميدي فرانسيز”.

كوميدي فرانساز

مثلت مع ممثلين في جولات، بدأنا جولة في عددٍ من البلدان العربية، وكنت أمثل دور البطولة، كانت الفرقة اسمها “تروب فرانسيز دي كوميدي” بإدارة “جان مارشا”، الحقيقة هو الذي اختارني.
هناك شخصية مهمة في تلك المرحلة، “غابي مورليه”، واحدة من أكبر الممثلات، كانت صديقة للعائلة، ولخالي “محمد سلطان”، وكنا نعتبرها مثل خالتنا، عندما جئت إلى باريس فرحت بي جداً، حاولت مساعدتي، ولكن خالي رفض، نقل لها أكاذيب عني، حتى اليوم الذي شاهدتني في حفل تخرجي من مدرسة التمثيل، كانت في لجنة التحكيم مع “جان مارشا”، وبعد أن حصلتُ على الجائزة الثانية، قالت لي بأنّ اللجنة رغبت بأن تمنحنك الجائزة الأولى، ولكني اقترحت على الأعضاء بأن يمنحوك الجائزة الثانية، وقررت أن تساعدني، عندما وجدتني في الأستوديو، اندهشت، وقالت : “يستطيع هذا الشاب البقاء في بلده معززاً، مكرماً، ولكنه يعيش في باريس بتواضع، لقد ترك كلّ شيء في مصر، وجاء إلى فرنسا من أجل المسرح”.
وتحدثت مع المخرج، ومنحني دوراً صغيراً.
كان “سليمان نجيب” ينظم الموسم المسرحي في مصر، ويعرف الممثلين الأجانب، قابل “جان روشا” وقال له:
ـ هل تعرف ممثلاً مصرياً اسمه “جميل راتب” ؟
ـ نعم أعرفه.
ـ هل تعتقد بأنه يستطيع التمثيل في فرقتك.
 وأعطوني دور البطولة.
كان “سليمان نجيب” يعتقد بأنه من المهم أن تتضمّن دار الأوبرا ممثلاً مصرياً، كان رجل مسرح، ويحب المسرح.
“سليمان نجيب”، “جان مارشا”، “أنطوني كوين”، “غابي مورليه”،… هؤلاء ساعدوني في حياتي الفنية بالدعم المعنوي، وبطرقٍ مختلفة، وهذا أمر لا أنساه أبداً، لقد رحلوا عن عالمنا جميعاً، وأفكر أحياناً بأنني لم أعرف كيف أعبر لهم عن شكري، ولكن هذه هي الحياة. 

مصر … بعد ثلاثين سنة
عشت في فرنسا ثلاثين سنة قبل العودة إلى مصر، بعد تلك السنوات الطويلة، تعرفت على الشعب المصري، وأدركتُ بأنه من أعظم الشعوب، شعرت بمصريتي، ويتحتم عليّ الإشارة بأنني أحب الجمهور المصري الذي رضي بي، بدون قبول المصريين ما كنت أصبحت ممثلاً معروفاً، وأنا نفسي مندهش لقبولي، إذا لم يتبن الجمهور ممثلاً لن يمتلك أيّ حضور.
خلال فترة قصيرة، تعرفت على الشعب المصري، تستقطب مهنتي كلّ الفئات الاجتماعية، البورجوازيين، والعمال من كلّ طبقات المجتمع، ومن خلال معاشرتهم يستطيع الواحد منا أن يفهم ماذا تعني مصر، والمصريين، وأنا قريب جداً من الناس البسطاء، وفي عملي أعتمد على آراء العمال، لأنهم صادقون، عندما أمثل مشهداً، وأتلقى منهم إشارة الرضا، هذا يعني بأنني أديت دوري بطريقةٍ صحيحة.
عندما حصلت على بعض الشهرة، يمكن أن ألتقي بممثلٍ يجاملني، ويقول لي:  إنت هايل، أو يقول لي: “إنت زي الزفت”، وهنا رُبما يحسدني، ولهذا، أعتمد على الجمهور لأنه صادق.
هناك ثلاث وقائع عشتها، وأثرت عليّ جداً، في إحدى المرات، كنت أشارك في برنامج تلفزيوني، وكان هناك حوار معي، وكنا نتلقى مكالماتٍ من الجمهور، عندما انتهى اللقاء، قالت لي مقدمة البرنامج :
ـ هل هناك أشخاصاً تريد أن تشكرهم؟
قلت لها : نعم، ثلاثة.
ـ من هم ؟
ـ أولاً، سائقٌ، وقف، نزل من الأوتوبيس، سلم عليّ، وصعد مرة أخرى، لقد أثرت تلك الواقعة علي كثيراً.
في مرةٍ أخرى، كنت في المطار أنتظر صعود الطائرة، تقدمت نحوي سيدة تعمل في النظافة، امرأة بسيطة جداً، نظرت إلي، وغابت، ثم عادت، وقدمت لي زجاجة من المياه الغازية، وقبل أن أشكرها، اختفت وسط الزحام.
في مرةٍ ثالثة، سافرت إلى القاهرة، وأوصلني سائق تاكسي إلى بيتي، وفي الطريق دار بيننا حديث عن الأولاد، وفي لحظةٍ وجه لي سؤلاً:
ـ وحضرتك عندك أولاد، أجبته بالنفي، فردّ علي فوراً:
ـ ولا يهمّك، كلنا أولادك، ..
هذه ثلاث وقائع حدثت معي، وتأثرت منها جداً، وأريد أيضاً أن أشكر الجمهور، لولا تبنيه لي، لما حظيت على شهرتي هذه، أنا لست نجم شباك، ولكن وجودي في العمل مهم، وما يريحني، ويخدمني الشعبية، وأقولها بتواضعٍ، بأنها أكبر من النجوم الكبار، الجمهور قريبٌ مني، وأنا بدوري قريبٌ منهم، وأحسّ بهم.

خلاصة القول..

أنطونيو كوين

أنا معجبٌ بالكثير من الممثلين، ولا يعني بأنهم أثروا في تكويني، يجب أن يمتلك الممثل نوعاً من الموهبة، أو الحضور، قال لي “أنطوني كوين” مرةً، بأنّ الممثل يصبح في قمة الأداء بعد 30 سنة، في البداية شجعني كبار المخرجين، ولكن الممارسة، والمجهود في العمل هو الذي يجعل الممثل يتقدم.
مثلت كثيراً في المسرح، وعندما رجعت إلى مصر عرضوا علي أدواراً سينمائية، كانت فرصة بأن أعمل في السينما، لأنّ العمل فيها مختلف عن المسرح، والتلفزيون.
وافقت على أعمالٍ كثيرة، جيدة، وغير جيدة، لا أخجل من الأعمال التي مثلتها، تعتبر في الوضع العام للسينما المصرية أعمالاً جادة، وفرصة بأن أمثل شخصيات مختلفة، كانت تجربة مفيدة، كنت أوافق على فيلم إذا كان الدور يمنحني فرصة للتعبير.
بالنسبة للأدوار المختلفة، بوليسية، أو كوميدية في الأفلام التجارية، كان يعنيني منها الأدوار الجيدة، وفرصة بأن أجرب، أمارس، وأتعلم، وأتعوّد على هذه الأدوار، وكنت أفكر بأنه عندما يكبر الممثل في المهنة يمكن أن يختار، وهو ما حدث معي فعلاً.
كان من المفترض أن أنجز فيلماً بعنوان “عصفور الشوارع”، عرضت على الممثلة، والمخرجة الفلسطينية “هيام عباس” بأن تعمل معي، وأمثل الدور الرئيسي، ولكن، مع الأسف، لم نستطع الحصول على تمويل للفيلم، ومازلت أحتفظ بالسيناريو.


إعلان