الفنان “جميل راتب”: بمُناسبة تكريمه في مهرجان دبي
صلاح سرميني ـ باريس
“أعتبرُ تكريمي في الدورة الثامنة لمهرجان دبيّ السينمائي الدولي بمثابة اعترافٍ بخبرتي في الفنّ، أعلم بأنّ المهرجان كرّم سابقاً ثلاثةً من الفنانين المصريين: فاتن حمامة، عمر الشريف، وعادل إمام، وعندما يضعني في نفس مستوى هؤلاء الكبار، فهو شرفٌ كبيرٌ لي كمصريّ، ولبلدي مصر”.
هكذا بدأ حواري مع الفنان “جميل راتب” الذي امتدّ إلى جلستيّن مُتعاقبتيّن في صالون بيته الباريسيّ الهادئ، كنتُ في كلّ مرةٍ أتصلُ به، يُحدد لي موعداً في الرابعة بعد الظهر، ولم أعرف حتى الآن ما هو سرّ هذا التوقيت بالذات، ردوده التلفونية مُكثفةٌ، ومُركزةٌ للغاية، كنت أعتقد بأنني أوقظه من نومٍ صباحيٍّ متأخر، أو قيلولة، صوته منهكٌ بلا شكّ، ولكنه لم ينسى أن يُملي عليّ كلّ التفاصيل اللازمة للوصول إلى بيته بسهولة، يتوقف عند كلّ رقم، ينطق كلماته القليلة كما يُمثلها في أفلامه، عندما كنت أصل إلى مواجهة البناية التي يسكن في أحد بيوتها، وأضغط على زرّ الهاتف الخارجي، كانت تخرج منه كلماتٍ مُتحشرجة :
ـ الدوور الأوااال..
وما أن أفتح باب المصعد الذي لا يتسّع لأكثر من شخصيّن نحيفيّن في أحسن الأحوال، وأحشر نفسي فيه، حتى يصل سريعاً إلى الدوور الأوااال، وأجد “جميل راتب” واقفاً أمام باب بيته منتظراً، يستقبلني بابتسامةٍ خفيفة يُغلفها بعض حزنٍ عميقٍ.
ـ أهلا، عرفت تُوصل بسهولة ؟
كنت أتخيل بيته أكثر اتساعاً، وكانت تخطر في ذهني بعض التوقعات الفانتازية عن ممثلٍ قضى عمره في المسرح، السينما، والتلفزيون.

لم أحاول التباطئ كثيراً، اخلع سترتي، وأُخرج أوراقي، وقلمي، وأجلس أمامه أفكر كيف أبدأ، وأنا الذي شاهدتُ له أفلاماً قليلة في فتراتٍ متباعدة جداً، وكي أستعدّ لهذا الحوار الذي لم يكن في حساباتي بدون هذه اللمسة التكريمية من مهرجان دبيّ، قرأت، واستفدتُ من بعض الكتابات الصحفية عنه، ولكن، بشكلٍ خاصّ، مراجعتي لمُسودة النصّ الذي كلفني المهرجان بمُتابعة تنفيذه مع الناقد السينمائي المصري “محمود قاسم”.
في الكتابات، والحوارات التي قرأتها، وجدتُ بأنّ “جميل راتب” حكى للصحافة عن كلّ شيئٍ في حياته، ولا أعرف ماذا تبقى لي، وكيف أهرب من تلك المعلومات المُكررة، وأستخلص منه أخرى جديدة .
كان امتحاناً حرجاً بالنسبة لي، خاصةً، وأنه حواري الحقيقيّ الأول مع ممثل، لأنني خلال مشواري النقديّ، كنت أتحاشى دائماً إجراء حواراتٍ مع مخرجين، أو ممثلين.
في الخفاء، أراقب حركاته المُتمهلة، تعود مشاهدتي له في فيلمٍ ما إلى فترةٍ طويلة، تخيلتُ بأنني سوف ألقاه في نفس الصورة القديمة التي انطبعت في ذهني عنه، ولكنّ الزمن ترك آثاره، أتطلع إليه يقطع المسافة ببطءٍ من باب البيت، وحتى الكنبة في الصالون، لم ينتظر طويلاً، وسألني:
ـ بتشرب إيه ؟
تخيرتُ الامتناع عن احتساء أيّ مشروبٍ يقدمه لي كي لا أُزيده إرهاقاً، وبالآن ذاته، أُشغله عن حوارٍ طويلٍ أتوقعه رُبما يحتاج إلى جلساتٍ عديدة.
الصالون دافئٌ جداً، يشجع على نومٍ أقاومه، خطرت في بالي فكرةً مزعجة، ماذا لو غفوتُ لثواني، أو غالبه النعاس أمامي، سوف تكون طرفةُ حقيقية.
تركته يتحدث كما يريد، فقد تبيّن لي بأنه لا يحتاج إلى أسئلة، هو يحفظ عن ظهر قلبٍ ما يريد أن يقوله، فقط، كنت أسجل خطياً معظم ما سمعته منه، وخلال الجلستيّن جمعتُ مادةً وفيرةً.
لا أمتلك أرشيفاً ورقياً، أو بصرياً أستعين به، ولا أفلاماً أشاهدها له، وأتفحص أدواره فيها، تساءلتُ في داخلي عن موهبة الكثير من الإعلامييّن، والصحفييّن، وقدراتهم على إجراء حواراتٍ مع ممثلين، ومخرجين بدون أن يشاهدوا أفلامهم.
الصدفة وحدها قادتني إلى مشاهدةٍ ثانية لأحد أفلامه عن طريق قرصٌ مدمج يحتوي على مجموعةٍ من الأفلام المغاربية منسوخةً بطريقةٍ غير شرعية عند عرضها على شاشات قنواتٍ تلفزيونية عربية، ومنها الفيلم التونسيّ “صيف حلق الوادي” من إنتاج عام 1996 لمخرجه “فريد بوغدير”.
في الفيلم يعيش “جميل راتب” دور “الحاج” بعيداً عن التجانس الذي يجمع باقي الشخصيات في بطولةٍ جماعية تُجسّد حالةً اجتماعيةً فريدة في ذلك المكان فترة نهاية الستينيّات على الرغم من الاختلافات الفكرية، والدينية بينها.
“الحاج” صاحب البيت الذي تسكنه عائلةُ مسلمة، سبعينيٌّ يشتهي الصبية “مريم” المُتوقدة جمالاً، والتي بدورها تتعمّد إيقاظ أحاسيسه الجسدية المُوشكة على الانطفاء.
في الفيلم لا يتحدث “الحاج” كثيراً، ولكنه حاضرٌ بقامته العالية، ونظراته الشهوانية المُركزة، وهو يتلصص على “مريم”، ويتلظى بنار الغيرة من شبابٍ يعيشون تحولاتهم العاطفية، والجنسية.
في آخر مشهدٍ للحاج في الفيلم، تذهب “مريم” إلى بيته، وبدون ترددٍ، أو إبطاءٍ، ترفع عنها الغطاء الذي لفت به جسدها، وتقف أمامه عاريةً تماماً، وتُلخص نظراته حالته النفسية، والجسدية، وهو يركع أمامها، ويبحلق فيها مندهشاً حدّ الموت.
مشهدٌ صادمٌ، ومفتوحٌ على تفسيراتٍ متعددة، لقد استخدمت “مريم” جسدها سلاحاً تدافع به عن نفسها، وأفكارها المُنطلقة، والمُتحررة، وفي نفس الوقت، انتقمت من “الحاج” الذي طرد عائلتها من البيت بسبب تأخر أبيها “يوسف” عن دفع الإيجارات الشهرية.
في حواري مع “جميل راتب”، لم أكن قد شاهدت الفيلم بعد، سألته:
ـ هل تتذكر مشهد “مريم” وهي تتعرّى أمامك ؟
ـ نعم، لقد كان آخر مشهدٍ لي في الفيلم، لأنني عندما شاهدتها عاريةً، وقعت على الأرض ميتاً.
ـ كان المُفترض بأن تقتلك ؟
ـ لأ، أصل انبهرت بجمالها، فمتّ…. من الإعجاب طبعاً…
سوف تمرّ أسابيع على ذلك اللقاء قبل أن يزوّدني بعض زملاء المهنة الطيبين بأفلامٍ أخرى شارك “جميل راتب” في تمثيلها، بدأت أشاهدها تباعاً، وهي فرصة لمُراجعة أعماله، وأفلام المخرجين الذين عمل معهم.
وبينما تنتهي حياة “الحاج” في المشهد الأخير من الفيلم التونسيّ “صيف حلق الوادي” لمخرجه “فريد بوغدير”، يموت “رشدي عبد الباقي” (جميل راتب) برصاص مسدس “مصطفى حسين” (محمود ياسين) في بداية الفيلم المصري “على من نُطلق الرصاص” من إنتاج عام 1975 لمخرجه “كمال الشيخ”، حدثت عملية الاغتيال في لقطةٍ سريعة جداً لم تُوفر للمتفرج إمكانية التعرّف على شكل الضحية، وسوف نراه لاحقاً في المستشفى راقداً فوق سريرٍ نقال، ولكننا، سوف نتعرّف عليه عن طريق أقوال الشخصيات الأخرى المُحيطة به، وبشكلٍ خاصّ، زوجته “تهاني فؤاد” (سعاد حسني)، ونكتشف تدريجياً دوافع الجريمة، وأسبابها، ونفهم بأنه العقل المُدبر لقتل خطيبها السابق المهندس “سامي عبد الرؤوف” (مجدي وهبة) في السجن، بعد توريطه في قضية سرقة مواد البناء التي تسببت في انهيار إحدى المباني السكنية التي أشرفت على بنائها “شركة المقاولات العصرية” التي يرأسها “رشدي بيه”، وعلى الرغم من أهمية هذه الشخصية، حيث تنطلق الأحداث منها، وتتمحور حولها، لن يشاهدها المتفرج في الفيلم كثيراً، وكأنها أصبحت رمزاً يصعب الاقتراب منها، وتحولت في الفيلم إلى واجهةٍ لشخصياتٍ أخرى أكثر تورطاً في الفساد.
في هذا الفيلم الذي تعتبره أدبيات الثقافة السينمائية العربية واحداً من الأفلام السياسية التي تُذكرنا بالتحقيقات البوليسية حول قضايا اغتيال، لا يمنح السيناريو مساحةً كبيرةً للتعرّف على القدرات التمثيلية للفنان “جميل راتب”، ولهذا، رُبما لن ينطبع كثيراً في ذهن المتفرج، ولن يتذكره إلاّ في أدوارٍ لاحقة.
عن دوره في هذا الفيلم، وعلاقته مع المخرج الراحل “كمال الشيخ”، ألتقطُ فقرةً من حواري معه:
يقول “جميل راتب”:
ـ خلال مسيرتي المهنية، تعاملتُ مع مخرجين لا يُوجهون الممثل، وهناك مخرجون كبار لا يهتمّون بهذا التوجيه، في أول عملٍ لي مع “كمال الشيخ” في فيلم “على من نطلق الرصاص”(1975)، كنت أنفذ مشهداً مهماً مع “سعاد حسني”، وبعد تصويره فكرت في أدائي، واعتقدت بأنه لم يكن صحيحاً، وينقصه أحاسيس أخرى، بينما اكتفى المخرج بطريقة الأداء تلك، وهكذا فهمت بأنه يترك الممثل يعتمد على نفسه، وقد حدث نفس الأمر في فيلم “الصعود إلى الهاوية”، وفهمت بأنه يتحتم عليّ الاعتماد على نفسي.
في المقابل، هناك بعض المخرجين المُبتدئين لا يمتلكون القدرة الكافية على قيادة الممثل، وهنا يجب أن يعتمد على نفسه في أداء دوره، وهناك آخرون من الكبار يعرفون تماماً ما يريدون، مثل “صلاح أبو سيف”، “كارول ريد”، و”ديفيد لين”، في هذه الحالة استسلم أمامهم، وأنفذ ما يطلبونه مني.

بالنسبة لي، أفضل الأفلام التي مثلتها تلك التي تحتوي على مضامين سياسية، واجتماعية، “على من نطلق الرصاص”1975، و”الصعود إلى الهاوية (كمال الشيخ) 1978، “البداية” (صلاح أبو سيف)1986، “البرئ” (عاطف الطيب) 1986، “كش مات” (رشيد فرشيو)1994 .
بعد أن شاهدت “على من نطلق الرصاص”، تبيّن لي بأنّ المشهد الذي أشار إليه “جميل راتب” يحدث في مكانٍ واحد، غرفة “رشدي بيه” في المستشفى، ولكن في أيام متتالية، وفي الحالتين يتمدد فوق سريره، عاجز عن فعل أيّ شيئ، يتحدث مع زوجته “تهاني” بصوتٍ ضعيفٍ واهن، يتوسل إليها بالأحرى، هي التي بدأت تشكّ في ممارساته السابقة، وعندما تتأكد بأنه خطط لقتل خطيبها السابق “سامي”، وأكثر من ذلك متورطٌ في قضايا فسادٍ كبيرة تسببت بمقتل مواطنين تحت أنقاض بيوتهم المُتهدمة، تقرر مواجهته، والإبلاغ عنه، ولكنّ قراراتٍ عُليا تطلب إغلاق الملف..
في الحقيقة، ربما يكون “جميل راتب” على حقّ عندما شعر بعدم الرضا عن أدائه، فقد كانت”ّسعاد حسني” تسيطر تماماً على المشهد في دورٍ يُحسب لها أكثر من أيّ ممثلٍ آخر في الفيلم.