جغرافيا السينما : نماذج من أعمال “جيرار كوران”
صلاح سرميني ـ باريس
عندما بدأ السينمائيّ الفرنسيّ “جيرار كوران” مسيرته السينمائية في عام 1975 مع فيلمه الطويل “فيليب غاريل في مدينة دين”، وبالتحديد بإنجازه Cinematon عام 1978، أراد أن يُعيد اكتشاف السينما، أو بالأحرى، يُذكرنا بأصولها، لقد بدأت السينما لقطةً واحدة، ثابتة، بدون قطعٍ، ولمدةٍ قصيرة (وُفق الأطوال الزمنية للأشرطة السينمائية التي كانت تُستخدم في تلك الفترة).
وبتراكم أعماله، وتنوّعها، جعل من هذا الاحتفاء مشروعاً ضخماً في تاريخ السينما، لقد استعاض عن كتابة مذكراته بتسجيلها بصرياً (من خلال 2342 بورتريه حتى اليوم)، أو الأفلام الكثيرة الأخرى التي صوّرها، وعلى عكس طريقة صديقه “جوزيف موردر” الذي صوّر نفسه، عائلته، وأصدقاءه في مذكراتٍ فيلميّة أنثروبولوجية طريفة، توجهت كاميرا “جيرار كوران” نحو الآخرين الذين يريد أن يكون واحداً منهم.
يشيرُ الكاتب، والباحث الفرنسيّ “دومنيك نوغيز” في إحدى كتاباته عن Cinematon، بأنه إذا حدثت جريمة في يوم ما، وأراد القضاء التأكد بأنّ “جيرار كوران” ليس فاعلها، فإنّ بورتريهاته وحدها سوف تشهد بأنه لم يكن في مكان الجريمة وقت وقوعها.
وأضيف بدوري، إذا أراد باحثٌ سينمائيّ التأريخ للجغرافيا الحياتية لـ”جيرار كوران”، فإنه لن يحتاج إليه شخصياً، وسوف يكتفي بمُشاهدة Cinematon، ـ وغيره من الأعمال ـ بتسلسلٍ زمنيّ كي يحدد بالضبط مساراته الزمنية، والمكانية منذ عام 1978 تاريخ تصوير أول بورتريه، وحتى اليوم.
صحيحٌ بأنّ كلّ واحد من بورتريهات Cinematon يرصد سلوكيات شخصية ما خلال مدة زمنية محددة، ولكنه أيضاً وثيقة بصرية عن الجغرافيا السينمائية المُنفردة، والجماعية.
من نافذة غرفة فندق
والعارف بأعمال “جيرار كوران”(والذي سوف يعرف)، يدركُ بأنه ليس شغوفاً بالشخصيات فحسب، تلك التي يمنحها الحرية بأن تفعل ما تشاء أمام الكاميرا كما الحال في Cinematon.
ولكنه، بالأحرى، مهووسٌ بالمكان أيضاً، وكاميرته لا تهدأ عن تسجيل الصور، أيّ شخصٍ، أيّ مكانٍ، وأيّ مناسبة جديرة بالتصوير، وهي الفكرة التي انطلق منها لإنجاز سلسلته “من نافذة غرفة فندق”.
وبينما كان Cinematon تحديق الكاميرا في وجوه الشخصيات المُؤفلمة، ورصد سلوكيّاتها، فإنّ الغرض “من نافذة غرفة فندق” توثيق جغرافيا المكان الذي يحطُّ فيه “جيرار كوران” مؤقتاً خلال تجواله في مدن العالم بمُناسبة عرض أفلامه في مهرجاناتها، … وما أكثرها.
ولكن، على عكس الحيوية التي تمنحها بورتريهات Cinematon، تبدو الوثيقة هنا جامدة، ومُحايدة، لا تمتلك خصوصيةً معينة، وبدون الإشارة إلى المكان الذي تمّ تصويره، لن يعرف، أو يتعرّف المتفرج عليه، فهي أماكن متشابهة في معظمها تفتقد الروح، والجاذبية، وتبعثُ على الملل أحياناً.
ولكنها، على الأقلّ، تمتلك مشروعيتها بتكوينها سجلاً بصرياً للفنادق التي أقام فيها “جيرار كوران” خلال تجواله، وسفرياته.
![]() |
“من نافذة غرفة فندق” سلسلةٌ سينمائيةٌ ترتكز على شروطٍ جمالية مُحددة، لقطةٌ عامةٌ واحدة، صامتة، ثابتة، وبدون حركة كاميرا (من البورتريه رقم 1 وحتى 30)، وأصبحت فيما بعد حوالي عشرين لقطة تمّ التقاطها من نوافذ غرف الفنادق التي كان يقيم فيها (بدءاً من البورتريه رقم 31).
لقد بدأ “جيرار كوران” بتصوير السلسلة في 19 يونيو عام 1991(ولكن، يعود تاريخ الفكرة إلى البورتريه رقم صفر الذي صُوره في 25 فبراير عام 1979).
في بداياتها، استخدم مقاس التصوير 8 مللي سوبر(من البورتريه 1 إلى 64 + 66)، ومن ثمّ لجأ ـ مُرغماً ـ إلى الفيديو ميني د. ف ( البورترية رقم 65 + بدءاً من 67).
وفي جميعها، يستخدم “جيرار كوران” الحدّ الأدنى من مُفردات اللغة السينمائية، حيث يحدث المونتاج مباشرةً خلال التصوير، ويتمّ ذهنياً، وبطريقةٍ ميكانيكية لا ترتكزُ على بناءٍ سرديّ، إنها لقطاتٌ مُتلاحقة تقدم اختيارات بصرية للأمكنة المُحيطة بالفنادق.
جردٌ سينمائيّ لشوارع حيّ (La Croix-Rousse) في مدينة ليّون
يتكوّن هذا الفيلم التسجيلي (52 دقيقة) الذي صوره “جيرار كوران” في عام 2002 من 195 لقطة قصيرة لشوارع حيّ (La Croix-Rousse) في مدينة “ليون” الفرنسية، المكان الذي وُلد، وتربى فيه، وليس صدفة بأن يُهديه إلى الأخوين لوميير، فهو يعتمد نفس مبدأ التصوير كما حال “خروج العمال من المصنع”، و”دخول القطار إلى محطة لا سيوتا”، كاميرا ثابتة موضوعة على حامل، لقطات عامة تستغرق كلّ واحدةٍ منها 16 ثانية، يفصل بينها لوحاتٍ تشير إلى اسم الشارع، الحارة، الزقاق، أو الدرب.
![]() |
القضية الكبرى، والصغرى التي تشغلُ “جيرار كوران” في هذا الفيلم، وغيره جمالية، وتوثيقية،..
فكما يريدنا التحديق في وجوه الشخصيات في Cinematon، فإنه في “جرد سينمائي لشوارع حيّ (La Croix-Rousse) في مدينة ليّون” يتعامل مع الحيّ بأسلوب تسجيليّ، تأمليّ، عودة شعرية إلى أماكن الطفولة، والشباب التي عاشها “كوران” في تلك الفترة، حتى وإن غيّر الزمن معالمها، تكريمٌ سينمائيّ لتلك الشوارع، والحارات في سكونها، ثباتها، وصمتها النسبيّ، لقطات قصيرة مُتوالية برتابةٍ تُجسد موسيقى بصرية متكررة، فيلمٌ تسجيليّ شديد الاختلاف، يستعين بالحدّ الأدنى من المُفردات السينمائية، كاميرا ثابتة، لقطة عامة، ومدة زمنية واحدة لكلّ لقطة، ومونتاجٌ لا يخضع لأيّ بناءٍ سرديّ غير ترتيب اللقطات وُفق الحروف الأبجدية اللاتينيّة لأسماء الشوارع .
من سيارتي
في عام 1895 صوّر الأخوين لوميير “وصول القطار إلى محطة لاسيوتا”، و”خروج العمال من المصنع”، وغيره من الأشرطة السينمائية..
ما هو المانع إذاً بأن يأتي “جيرار كوران”( وهو يعتبر نفسه واحداً من أحفادهما السينمائييّن) ويصور الطريق من سيارته.
كاميرا فضولية جداً تريد أن تُوثق بصرياً كلّ شيء، الشخصيات السينمائية، الفنية، والأدبية في Cinematon، الأمكنة التي تحيط بالفنادق في “من نافذة غرفة فندق”، وهنا، في سلسلة “من سيارتي”، ينطلق ضاغطاً على زرّ الكاميرا كي تُسجل جغرافيا الطرق التي يمرّ فيها في حركات ترافلينغ أمامية، وجانبية، ولقطاتٍ مُتعددة الأطوال الزمنية.
طرقٌ، لمن لا يعرفها جيداً، لا تدلّ على جغرافيتها، إنها توثيق رحلة طويلة بلا بداية، ولانهاية، حيث لم تنطلق من مكان محدد، ولم تتوقف في مكان محدد، فيلمٌ/أفلام طريق بدون أحداث، شخصياتٍ، ومفاجآت، الطريق هو الشخصية التسجيلية الرئيسية في هذه السلسلة، والحركة الناتجة عن تحرّك السيارة.
صورٌ مُحايدةٌ تماماً، تحتوي أزمنة، وأمكنة مختلفة، تتدفق كما الأيام، والحياة، “سينما بنائية” يُتقنها “جيرار كوران” تماماً، ويشاهدها هواة النوع كما يسمعون الموسيقى.
![]() |
الصعود إلى كنيسة “NOTRE-DAME DE LA GARDE”، والهبوط نحو الميناء القديم في مارسيليا
ملاحظاتٌ فيلمية : 23 سبتمبر 2006
ينطلق “جيرار كوران” بكاميرته مشياً على الأقدام من مستوى البحر نحو هضبة كنيسة (NOTRE-DAME DE LA GARDE) في مدينة مارسيليا، وبالوصول هناك، تتجول الكاميرا في الباحة المُحيطة، تُطلّ على المدينة من الأعلى، والبحر المتوسط، ومن ثم تدخل إلى الكنيسة، وتتجول فيها، وتهبط من جديدٍ حتى تصل إلى الميناء القديم للمدينة .
كنت أعتقدُ بأنّ “جيرار كوران” سوف يصوّر الطريق فقط، ولكنه لم يتجاهل كلّ ما يُثير انتباهه في هذه الرحلة البحثية، التأملية إن صحّ التعبير.
في كلّ فيلم من أفلامه، يقدم فكرةً جماليةً جديدة، في هذه المرة، يتكوّن الفيلم من لقطةٍ واحدة تستغرق ساعةً كاملةً بدون قطع ما كان له إنجازها عن طريق أشرطة 8 مللي سوبر، لقد طوّع عمله مع كاميرا الفيديو الرقمية، كي يحقق اقتراباً مختلفاً، وأصيلاً للفيلم التسجيليّ، يُجسد فيه “آلام” المخرج، والمُتفرج معاً.
فيلم تسجيليّ أقرب إلى الحقيقة من أيّ فيلم آخر، لقطةٌ واحدةٌ كما تراها العين من خلال عدسة الكاميرا، ماعدا تلك الهزات التي تُحدثها حركة “جيرار كوران” أثناء المشي، أحياناً تلتفتُ الكاميرا نحو اليمين، أو اليسار كي تُحدق في بعض التفاصيل، صراخ طفل، حمامة، شابٌ يجاهد في قيادة دراجته، واجهة المسرح الوطني، السماء، سؤال شابةٍ عن الطريق إلى الكنيسة.
“جيرار كوران” لا يتعامل مع المكان سائحاً، أو هاوياً، إنه يمتلك فكرة مُسبقة عن طريقة إنجاز الفيلم بدون قطع، ويعيش المتفرج صعوده نحو الكنيسة، وهبوطه لحظةً بلحظة، وحتى يسمع أنفاسه.
ومع هذا الاختيار الجماليّ، تُسجل الكاميرا جغرافيا المكان الذي تمرّ فيه بدون التفكير في إطارات محددة، مؤثراتٍ إضافية، أو موسيقى.
لا يوجد كادراتٍ متنوعة، تكويناتٍ مختلفة، زوايا معينة، مونتاج، …الكاميرا مغرمة فقط بالتجوال في الأمكنة، والزمن السينمائيّ هو الزمن الحقيقي، ولكنّ الفيلم ليس محايداً أبداً كما حال كلّ أفلام “جيرار كوران”، والسينما بشكلٍ عام.