مهرجان برلين السينمائي : العالم هنا ما عدا العرب

مهرجان برلين شهد في دورته الحادية والستين التي انتهت في العشرين من الشهر الحالي، ملامح ممتزجة من السينمات العالمية. بعضها آت من أوروبا الشرقية وتكشف عن استمرار تقدّم سبق وأن انطلق قبل سنوات، بالنسبة لعدد من الدول، بينما تعكس أفلام أخرى  صعوبة الخلاص من مشاكل مادية تعوق تقدّمها. من هذه الدول ما يحدث الآن في نطاق السينما المجرية التي بقيت، لسنوات ما قبل وما بعد الوضع السياسي أكثر نشاطاً من سواها من الدول. فمؤخراً قررت الحكومة المجرية إحداث تغيير حقيقي في بنية السينما المجرية يتطلّب معاملتها كسينما تلبّي متطلّبات السوق.. بذلك وضعت السينما المجرية كلّها في حالة تأهب لمرحلة قد لا تعود بما يرغب فيه مخرجوها ذوي الشأن الفني. فبسبب للوضع الإقتصادي، تريد الحكومة التوقّف عن تمويل أفلام لا ترى أنها مهمّة (لأنها لا تحقق عائدات مادية) وتطوير ملكية إنتاجية خاصة يتبارى فيها رأس المال غير الحكومي على إنتاج ما يراه النقاد والسينمائيون هابطاً ويراه المنتجون رابحاً. والدلالة اللافتة في ذلك المشروع جلب المنتج المجري أندي فانيا، وهو كان خبر العمل في هوليوود لعدة عقود، لكي يدير السينما المجرية الجديدة0
على صعيد آخر أطلقت بولندا في العام 2010 نحو خمسين فيلما وهي نسبة مرتفعة. صحيح أن الأفلام التسجيلية الطويلة هي ضمن هذا العدد، لكن هذه محدودة. وما يتحدّث عنه البولنديون اليوم هو أن السوق المحلي يشهد رغبة في استقبال المزيد من الأفلام المحلية (في مقابل السائد من أفلام أميركية)، لكن إلى جانب هذا السبب الوجيه، هناك حقيقة تأسيس أستوديو مونكا، وهو شركة إنتاجية تنفرد بتحقيق أفلام أولى لمخرجي بولندا. وهي منذ إنشائها قبل عامين تلقت مئات من المشاريع من مخرجين أوّل مرّة يريدون استحواذ الفرصة.
من ناحيتها، وفي استمرار غياب السينما الآتية من بلغاريا، حركة ملحوظة للدول التي شكّلت يوغوسلافيا سابقاً وهي بوسنيا وكرواتيا ومقدونيا وصربيا، والدولتين اللتين كانتا متحدتين تحت عباءة تشيكوسلوفاكيا لكنهما خضعتا سلمياً لقرار الانفصال فباتا تشيك وسلوفاكيا. هذه الحركة تتفاوت نجاحاتها من مكان لآخر فالوضع في البوسنة وكرواتيا أفضل منه في صربيا ومقدونيا، كذلك السينما التشيكية أكثر نشاطاً من رفيقتها سلوفاكيا. على ذلك فإن مجمل هذا النشاط لا يعني أن المستقبل مزدهر على نحو ملحوظ
والفيلم الألباني الأول في تاريخ المهرجان ورد هذا العام تحت عنوان “غفران من الدم” لكن مخرجه أميركي اسمه جوشوا مورتنسن. ليس أن هناك أي شيء خطأ في ذلك، لكنها ملاحظة واضحة.

 تأسس  مهرجان برلين سنة 1951 بعد ست سنوات على انتهاء الحرب العالمية الثانية. حينها كانت المدينة قد أصبحت تحت وصاية الحلفاء: روسيا في الشرق والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في الغرب. بذلك تم تقسيم المدينة إلى نصفين، كذلك البلاد كلها وهي بقيت على هذا الوضع حتى انهيار النظام الشيوعي وتم توحيد المدينة في أواخر الثمانينات.
لكن تاريخ المهرجان لا علاقة له بأي شيء آخر. إنه فقط عدّاد زمني يفي بغاية إحصاء سنوات حدث انطلق صغيراً تحت رغبة الإعلان عن أن المدينة لم تمت تحت أنقاض الحرب، ثم كبر بعدما استمد من ذلك الإعلان الرغبة في أن يلعب دوراً أكبر.
وإذ تنتهي الدورة الحالية يتألّف في البال شريط سينمائي من بين تلك الأفلام التي بقيت ماثلة  ولم تضمحل سريعاً في اختفاء تدريجي كحال الأفلام الأخرى. هذا العام كان هناك عدداً من هذه الأفلام الأبرز شأناً من سواها والسبب الغالب لتميّزها يعود إلى جرأة الخروج من تقاليد السرد إلى حالة من الإبداع الذاتي واستخدام ملكية اللغة السينمائية لصنع بصريات لافتة تتوّج الموضوع وتمنح المضمون قوّة إضافية.

أول فيلم ينبري تحت هذا الاتجاه هو بلا ريب الفيلم الأول للممثل البريطاني رالف فاينس كمخرج وهو “كوريولانوس”. اقتبسه الممثل- المخرج عن مسرحية وليام شكسبير المعروفة بـ “تراجيدايا كوريولانوس” التي تقع أحداثها في القرن الخامس الميلادي وتبحث في حياة قائد روماني وجد نفسه على أهبّة تبوأ منصب سياسي، لكن عاطفته الانتقامية من أحد أعدائه منعته من ذلك، فيخلع عنه رداء السياسة ويعود إلى القتال حتى الموقعة الأخيرة بينه وبين ذلك العدو. ما فعله فاينس هنا هو الاحتفاظ بالنص الشكسبيري الغارق في تقاليده اللغوية، لكن مع نقل الأحداث إلى التاريخ المعاصر ومن ثم العمل على تضمين هذا التناقض مشاهد من القتال العنيف ضمن أسلوب حاد ولغة بصرية جافّة من دون تزيين لكنها نافذة وقويّة التأثير. وفاينس في ذلك ليس أول من عمد إلى هذا المنوال من تطوير الزمن والحفاظ على الأصل ثم خلق صدام بين الجانبين بل سبقه في ذلك اقتباس عن “الليلة الثانية عشر” في مطلع التسعينات و”تايتوس” في مطلع العقد الأول من القرن الحالي، كل بنتائج فنية مختلفة.
وعلى النقيض من هذا الأسلوب الهادر يجيء فيلم المخرج المجري بيلا تار ليحرّك المهرجان من بعض ثباته. المخرج المذكور هو حالة خاصّة بين المخرجين المعاصرين. ليس خليفة أحد ولو أن منحاه التأمّلي هو نقطة لقاء بينه وبين مخرجين آخرين من بينهم اليوناني أنجيلوبولوس والروسي سوخوروف، لكن الثابت في أفلامه، وفي هذا الفيلم، هو المشهد المؤلّف من لقطة واحدة، ثم الفيلم القائم على تكرار المشهد عدّة مرات. في فيلمه الجديد “حصان تورينو” يقدّم ستّة أيام في عائلة من رجل عجوز وابنته وحصانهما في بيت بسيط الأثاث لدرجة التقشّف يكمن في مزرعة في مكان عاصف وبعيد عن أي جوار بشري.

فيلم “حصان تورينو”

 هناك عادات متوالية في كل يوم من الاستيقاظ إلى المبيت ليلاً تتكرر في حياتهما وتتكرر معهما مشاهدها على الشاشة: الاستيقاظ، أكل البطاطا المسلوقة، الجلوس إلى النافذة والتمعّن في الطبيعة والاعتناء بالحصان. في أحد الأيام يمتنع الحصان على الأكل ثم عن الشرب والعمل، وفي يوم لاحق ينفذ البئر من الماء. يقرر الأب أن الوقت آن للهجرة … لكن إلى أين؟
الفيلم الثالث في هذا المجال هو “بينا” للمخرج الألماني ?يم ?ندرز، وهو عمل عن الفن أكثر مما هو عمل فني. المخرج المعروف يقول في أحاديثه إنه أراد تحقيق فيلم مع مدرّبة الرقص بينا بوش حين كانت لا تزال حيّة، ثم استمرّت رغبته متوقّدة بعد موتها وأصبحت ملحّة مع التطوّرات التقنية الحديثة التي مكّنت السينما من استخدام نظام الأبعاد الثلاثة على نحو خلاّق. فهل نفهم أنه لولا نظام الأبعاد الثلاثة لبقي يأمل حتى الأبد بتحقيق هذا الفيلم من دون أن ينجزه؟
فيلم “بينا” قائم على استخدام الشاشة المجسّدة لتجسيد مضاعف لجمالية اللوحات الراقصة التي يعرضها المخرج لنا، لكن لا شيء (حتى “أفاتار”) لم يكن من الممكن إنجازه بالبعدين لو أن نظام الـ 3D لم يكن قد اكتشف بعد.

من فيلم “بينا بينا”

 على ذلك فيلم ?ندرز من تلك التي تبقى في البال ولو لجماليّاتها فقط والمؤكد أنه سيشهد عروضه التجارية حول بقاع كثيرة من العالم  على نحو أسهل بكثير من الفيلمين الآخرين بسبب ما يحمله اسم ?ندرز من قيمة كلاسيكية.
طبعاً الغياب العربي عن شاشة هذا المهرجان هو من التقاليد السائدة. كل السينمات تمر عليك ما عدا تلك العربية، وحين تفعل لا تصل إلى مستوى المهرجانات بل تبقى مقيّدة في حدود التظاهرات الجانبية. لكن بما أن لا أحد يكترث فلم أكترث أنا؟


إعلان