من أجل سينما نضالية (2)

السينما الفرنسية في السبعينيّات : 1968-1983
ترجمة صلاح سرميني ـ باريس

في عام 1967 أخرج “جان لوك غودار” فيلمه “الصينيّة” الذي تدور أحداثه في أوساط المجموعات الطلابية المُتعاطفة مع الصين في جامعة نانتير، وبعد بضعة أشهرٍ انطلقت في نفس الأماكن أحداث مايو 68، ومع أنّ أبطال “غودار” لم يمتلكوا أفكاراً واضحة تماماً، وتبدو شخصياتٍ خاسرة، وهامشية في الثورة، ولكن، هل كان أولئك الذين صنعوا أحداث 68 يتقنون نظرياتهم فعلاً، وهل كانوا قادرين على استلام زمام السلطة بطريقةٍ أفضل؟.
ومن ثمّ، ليس من المُستغرب بأن يكون “غودار” واحداً من السينمائييّن النادرين في إثارته للتساؤلات حول أحداث مايو 68، وهو الذي كان مُزعزعاً في رفاهيته الفكرية عام 1967.
بتخليه عن التسهيلات التي قدمها له النظام، وموقعه المرغوب كرافع لراية “سينما المؤلف”، غاص “غودار” لفترة سنواتٍ طويلة في العمل النضاليّ، وبعد ذروة شعبيته عام 1967، أصبح منسيّاً ثلاث سنواتٍ فيما بعد، صعوبة الاحتفاظ بتحديات 68 كانت واضحة بشكلٍ خاصّ عند “غودار”، وتُعتبر حالته مثالية في تجسيد الصراع بين الرغبة بتقديم شهادة عن الأحداث بطريقة مجهولة، ومحاولة التعبير الشخصيّ.
في البداية، كانت رغبته صادقة بمنح الأولوية للعمل الجماعيّ، ولكنه عاد.. سرعان أن عاد إلى ثنائيةٍ بسيطة للوصول ثلاث سنواتٍ فيما بعد إلى إمكانية التأكيد على أناه عبر نظرة ذاتية تماماً.
وخضعت مجموعة “دزيغا فيرتوف”(1) لقراراتٍ مشتركة (غودار ـ غوران) (2)، ولم تستغرق وقتاً طويلاً في الحفاظ على خطها “الثوريّ” في بلدٍ، وسينما سوف تصبح لاحقاً نمطية.

من الممكن إذاً متابعة فيلموغرافيا “غودار” عبر إيطاليا (ريح الشرق 1969)، تشيكوسلوفاكيا (برافدا 1969)، أو ألمانيا (فلاديمير، وروزا 1970)، حتى عودته إلى الإنتاج الكلاسيكيّ في عام 1972، ولكنه مع ذلك أخرج أفلاماً تعليميّة حول السلطة، والتلاعب بالصور (كلّ شيءٍ على ما يرام 1972)، (هنا، وهناك 1974)، و(رقم اثنان 1975).
ARC (3)، و Cinélutte (4) مجموعتان تكونتا من طلبة، وأساتذة معهد الـ  IDHEC(5)، الثانية، وكان يُنشطها بشكلٍ خاصّ “ريشار كوبانز”، و”جان دوني ـ بونان” بمنهجٍ “ماويّ” واضحٍ، حلت محلّ الأولى، حيث نجد فيها سينمائييّن مثل “ميشيل أندريو”، أو “جاك كيباديان”.
Le Grain de sable (حبة الرمل)، مجموعةٌ سينمائيةٌ أخرى تأسّست في عام 1974، وارتكزت على أكتاف ثلاثة سينمائييّن رئيسييّن : “جان ـ ميشيل كاريه”، “سيرج بولجينسكي”، و”يان لو ماسون”، والذين أصبحوا مناضلين “محترفين”، أيّ كانوا يكسبون عيشهم من السينما النضالية، وكان يغلب الطابع الاجتماعي على المواضيع التي يعالجونها :
ـ نضال النساء : “حريةٌ بصيغة المُؤنث”، و”الحقّ العادل” لـ”بولجينسكي”.
ـ الطاقة النووية : “الطاقة النووية خطرٌ آنيّ” لـ”بولجينسكي” أيضاً.
ـ التعليم : “الغيتو التجريبيّ في فانسان”، و”الطفل السجين” لـ “جان ـ ميشيل كاريه”.
خلال السبعينيّات، اختفت معظم هذه المجموعات، فقط، مجموعة ISKRA (6) ما تزال صامدةً حتى اليوم، تنتجُ بضعة أفلام تسجيلية، وتهتمّ خاصةً بتوزيع عموم هذه السينما النضالية، وأيضاً مجموعة (حبة الرمل)، والتي بعد انقسامها بقيت بين يديّ “جان ـ ميشيل كاريه”، و”ريشار كوبانز” الذي أسّس في بداية الثمانينيّات شركة Les films d’ici (أفلامٌ من هنا)، والتي أصبحت واحدةً من الشركات الرئيسية لإنتاج الأفلام التسجيلية، وفيها عددٌ من أعضاء مجموعة  Cinélutte.
ونشير هنا إلى “حكايات.أ” لمخرجيّه “شارل بلمونت”، و”ميرييّ إيسارتل”، فيلمٌ رمزيّ عن النضال النسويّ لتحرير الإجهاض تمّ إنجازه في عام 1973، وكان واحداً من أوائل الأفلام التي أظهرت حالة إجهاضٍ بطريقةٍ جديدة (الشفط) أقلّ خطورةً من ذي قبل، وتُسمى طريقة Karman، سرعان ما تمّ منع الفيلم، ولكنه عُرض رغم كلّ شيءٍ في إطار حركة واسعة من العصيان المدنيّ في ذلك الوقت، وحصد جمهوراً كبيراً .
وتُعتبر “كارول روسوبولوس” واحدةً من وجوه السينما النسويّة وقتذاك، وهي التي أسّست مع زوجها “بول” مجموعة Video Out، وكانت واحدةً من الأوائل الذين صوروا بالفيديو، ونحن مدينون لها بعددٍ من الوثائق التسجيلية الثمينة، مثل الفيلم الأول عن الـ FHAR(7) (الجبهة المثلية للعمل الثوري).

كارول روسوبولوس

كما صورت للمرة الأولى عملية إجهاضٍ على طريقة Karman في فيلم بعنوان “كان من المُفترض بأن لا نُضاجع”، وهي أيضاً مخرجة فيلم حول إضرابات بائعات الهوى في مدينة ليون عام 1975.
وقد وجد النضال المثليّ عند الشاب “ليونيل سوكاز” الناطق السينمائيّ باسمه، لأنه أخرج أفلاماً مثلRace d’Ep  مع المُفكر “غي أوكينغيم”، وفيه استرجع قرناً من تاريخ المثلية الجنسية، وأيضاً  Ixe، فيلمٌ إباحيٌّ تجريبيّ، يتكوّن من تتابع فيلميّن جنباً إلى جنب بإيقاع هلوسيّ تقريباً.
وعن نضال النساء، نُشير بشكلٍ خاصّ إلى “انظر، عيناها مفتوحتان على آخرهما”، فيلم “يان لوماسون” الذي تمّ تصويره في مدينة Aix بالانغماس في مجموعةٍ منشقة عن جمعية MLAC(حركة تحرر الإجهاض، ومنع الحمل)(7)، تمّ تقطيعه إلى أربع مشاهد، يظهر اثنان منها حالتيّ ولادة “طبيعيتيّن”، يُحيطان بمشهد إجهاضٍ على طريقة Karman ، ومشهد محاكمة مع متظاهرين أمام المحكمة، وكان المشهد الختاميّ لافتاً للانتباه، وفيه نشاهد الشخصية الرئيسية للفيلم تلدّ وسط أعضاء المجموعة.
واصلت العديد من الأفلام رصدها للنضالات العمالية، وخلال إضراب مصنع Lip ، وبدءاً من عام 1973، ذهب عدد من السينمائيين لتصوير صور، كحال “دومنيك دوبوسك”، أو “ريشار كوبانز” الذي أخرج فيلم “بخطواتٍ بطيئة”، أو المخرجة “كارول روسوبولوس” التي تطرقت إلى النضال من وجهة نظر نسوية، بالتركيز خاصةً على شخصية “مونيك بيتون”، وقد تحقق نفس الأمر بالنسبة للنضال الفلاحيّ خلال محاولة إخلاء هضبة Larzac لإنشاء قاعدة عسكرية.
بدوره، كان النضال الثوريّ خارج فرنسا حاضراً، حيث بدأت مجموعة ISKRA تعرض أفلام “باتريسيو غوزمان” المقيم في أوروبا، مثل فيلمه “السنة الأولى”، ولكن، خاصةً فيلمه “معركة العشرة ملايين”، والذي يعود من خلاله إلى السنوات السابقة لإسقاط “ألليندي” في التشيلي، ويُشكل من خلاله وثيقة لا يمكن الاستغناء عنها، وقد تمّ اختيار الفيلم في مهرجان كان كما حال فيلم “أدنى حركة” الذي أنتجته مجموعة ISKRA أيضاً، وربما كان واحداً من الأفلام الأكثر اختلافاً من ذاك التيار.

سلفادور ألليندي

بالإمكان الإشارة أيضاً إلى بعض الأفلام التي أنتجتها مجموعاتٍ محلية، مثل فيلمTorr e Benn (وتعني “حطم رؤوسهم” باللغة البروتونية)، و”محكوم عليهم بالنجاح” لـ “فرانسوا جاكومان”، فيلمٌ نضاليّ بيئيّ يشجبُ بالآن ذاته الإختلالات التشغيلية لمصنعLa Hague ٍ من خلال مقابلاتٍ مع العمال النقابيين، وبشكلٍ عام، الاستخدام المُكثف للطاقة النووية.
في أحد المشاهد الرئيسية من هذا الفيلم، نشاهد أحد العمال يستغرق حوالي ثلاثة أرباع الساعة في ارتداء الملابس الواقية كي يُنجز تصليحاتٍ بسيطة في المصنع .

هوامش :
(1) ـ نسبةً إلى السينمائيّ السوفييتيّ الطليعيّ “دزيغا فيرتوف”(1896-1954).
(2) ـ المقصود السينمائيّ الفرنسيّ اليساريّ (Jean-Pierre Gorin) الذي كان زميلاً لـ “جان لوك غودار” في مجموعة “دزيغا فيرتوف”.
(3) ـ ARC هي الحروف الأولى من (Atelier de Recherche Cinématographique)، وتعني (ورشة بحث سينمائيّ).
(4) ـ Cinélutte (جمع كلمتيّن: Ciné/ سينما، وlutte/نضال).
(5) ـ IDHEC هي الحروف الأولى من (Institut des hautes études cinématographiques)، وتعني (معهد الدراسات السينمائية العليا)، والذي أصبح في عام 1986الـ  Fémis(Fondation européenne pour les métiers de l’image et du son)، وتعني (المؤسّسة الأوروبية لمهن الصورة، والصوت).
(6) ـ  Iskra هي الحروف الأولى من (Image, Son, Kinescope et Réalisations Audiovisuelles)، وتعني (صورة، صوت، تحويل من الفيديو إلى السينما، وإنجازات سمعية/بصرية)، و Iskra تعني “شرارة” باللغة الروسية، وهي حالياً شركةٌ مستقلةٌ للإنتاج، والتوزيع.
(7) ـ FHAR هي الحروف الأولى من (Front Homosexuel Action Révolutionnaire)، وتعني (الجبهة المثلية للعمل الثوري).
(7) ـ MLAC هي الحروف الأولى من (Mouvement de Libération de l’Avortement et la Contraception)، وتعني (حركة تحرر الإجهاض، ومنع الحمل)، جمعية نسوية تأسّست في عام 1973.


إعلان