التحريك يحمل آثام السياسية الايرانية

عندما اختار المخرج الأمريكي المعروف كونتين تارنتينو “التحريك” لتقديم بعض مشاهد فيلمه “أقتل بيل”، كان الخيار فنيا بحتا، تعلق وقتها بالعنف الاستثنائي لتلك المشاهد المقصودة، وما يمكن ان يثيره التقديم التقليدي (وحسب ما موجود في النص المكتوب) أو حتى الرمزي من إرباك الإيقاع المحدد الهوية للفيلم، والذي استعاد حقبة سينمائية معروفة من أفلام العنف التجارية الأمريكية والآسيوية من سبعينات القرن الماضي، تميزت بانها كانت بعيدة عن العنف “المفصل”، بل ان تلك الافلام، كانت تحمل السخرية في جوهرها من المبالغات التي تحفل بها، والتضخيم الكاريكتوري للأشرار والأبطال على حد سواء فيها.
مخرجون آخرون ارتبطت مشاريعهم ،ومنذ بدايتها بالتحريك لأسباب لوجستية على الغالب. فأفلام مثل: ” بيرسبوليس ” للمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي والذي أنجزته مع زميلها الفرنسي فنسنت بارنو أو فيلم المخرج الإسرائيلي آري فولمان “فالس مع بشير” اختارت “التحريك” بسبب استحالة تقديم قصة عن الثورة الإيرانية كخلفية لتمرد فتاة من طهران على التقاليد المكرسة في المجتمع الايراني، او تلك التي نمت مع الثورة الاسلامية في ايران المعاصرة، في الفيلم الأول. أو تصوير الاجتياح الإسرائيلي العسكري لبيروت في عام 1982 ، بإنتاج إسرائيلي في لبنان في الفيلم الثاني.
ويمكن اعتبار أن خيار “التحريك” لفيلم المخرج الإيراني علي سمادي اهادي “الموجة الخضراء” والذي عرض في مهرجان “سندانس” السينمائي الاخير، وضمن التظاهرة الالمانية للدورة الاخيرة لمهرجان برلين السينمائي والتي اختتمت قبل أيام، محكوم أيضا باشتراطات السياسية، إذ تعيد مشاهد الرسوم المتحركة في الفيلم بناء يوميات مدونين إيرانيين سريين حظوا على شهرة إعلامية عالمية بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، وأثناء الاحتجاجات الكبيرة التي بدأت في إيران قبل أيام قليلة من الانتخابات الإيرانية الرئاسية الأخيرة في بداية شهر يونيو من عام 2009. إذًا يجمع الفيلم الشهادات التي نشرت على مواقع مثل “توتير” و “الفيس بوك”، ويحليها إلى دراما مؤثرة، تصل إلى القسوة أحيانا، وخاصة عندما تعرض بالتناوب مع بعض الأفلام الحقيقية الصادمة والتي صورها ايرانين عاديين لتلك الاحتجاجات، والتي وصل بعضها، وبسبب نشرها على موقع الفيديو “الفيس بوك” الى الكثيرين وقتها.

المخرج الإيراني علي سمادي

ويستعين الفيلم بشهادات 3 من المدونين. يبدأ معهم من بدايات الأزمة الإيرانية، ومع بدء التحضير للانتخابات الرئاسية الأخيرة، ليبقى معهم الى نهايات الاحتجاجات. احد المدونون اعرب ومع بدء التحضير للانتخابات الرئاسية عن شكوكه الكبيرة بان ينجح اي تحرك شعبي ضد الحكومة الإيرانية. الشاب الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين، انضم بعدها إلى المتحمسين إلى التغيير السياسي في إيران وبعد مشاركته في تجمع شعبي للمعارضة الإيرانية. مدونة شابة كانت تنتظر الفرصة لحدث كبير يهز الحياة السياسية الإيرانية، وانضمت بحماسة كبيرة الى مدونين آخرين كانوا يحاولون تسجيل ما يحدث في إيران ونقله إلى الخارج.
وتكشف بعض الشهادات تفاصيل لم تصل إلى الإعلام الواسع وقتها، بسبب الحظر الذي فرضته السلطات الإيرانية ، وطرد جميع المراسلين الأجانب، وبعد أيام من انطلاق الاحتجاجات الكبيرة. فالمدونة الشابة تتحدث عن أزمة بعض رجال الأمن الإيرانيين، والشعور بالذنب للعنف الذي تعاملوا به مع المعارضة المدنية، والذي وصل إلى القتل المخطط له، وعلى طريقة الاغتيال السياسي. فتنقل لمدونة الإيرانية الشابة كيف ان احد أقاربها من الذين يعملون مع الأمن الإيراني، قام مع زملاء له بقتل 3 من الشباب الإيراني المعارض في احد الشوارع الصغيرة في العاصمة الإيرانية طهران. وان هذا القريب قام بالاتصال بها، لكي ينقل لها أزمته والكثيرين من زملائه.
وتصف شهادة مدون شاب إيراني آخر، ظروف الاعتقال الذي تعرض له لمشاركته في الاحتجاجات ضد حكومة الرئيس الإيراني احمدي نجاد. فهو يصف السجن الضيق الذي وضع به مع العشرات، والاعتداءات التي كانوا يتعرضون لها من حرس السجن. والتي أدت إلى موت البعض تحت التعذيب. عندما يصل الفيلم إلى هذه الشهادة، يتجه التحريك نفسه الى الرمزية، فالمخرج يستعيض بمشاهد التعذيب، بآخر طويل لدماء تسيل من تحت باب السجن المغلق، وأصوات الألم للمسجونين تصم الآذان.
ورغم أن الفيلم نجح في الحصول على لقاءات مع شخصيات إيرانية معروفة مثل المحامية الإيرانية شيرين عبادي والفائزة بجائزة نوبل للسلام ، وآخرين من الإيرانيين الذين تركوا بلدهم ، إلا أن هذه اللقاءات ذاتها هي التي سحبت الفيلم إلى التقليدية. فهي تكشف ايضا عن النمطية التي تسقط بها شخصيات عامة في حديثها لكاميرات الأفلام أحيانا ، وعدم التميز بين الوثيقة الصورية التاريخية ، ولقاء تلفزيوني عابر.

أحد مشاهد الفيلم

كذلك اختار الفيلم تجاهل المظاهرات المليونية المؤيدة للرئيس احمدي نجاد، والتي كانت احد الأسباب التي أوقفت تظاهرات المعارضة. بالإضافة طبعا إلى تهديد الدولة باستخدام العنف ضد المحتجين على نتائج الانتخابات ، وغضب مرشد الجمهورية الإسلامية علي الخامنئي ، والذي عبر عنه في احد خطبه، من المعارضة ورموزها.
وينضم فيلم “الموجة الخضراء” إلى مجموعة أفلام تسجيلية إيرانية اهتمت بموضوع ما يعرف الآن بالثورة الخضراء الإيرانية، منها فيلم المخرجة الإيرانية هنا مخملباف “الأيام الخضراء” والذي عرض في دورة العام الماضي (2010) من مهرجان روتردام الدولي، والذي يسجل هو ايضا ومن داخل ايران، بدايات الحركة الاجتماعية والتي رافقت ترشيح مرشح المعارضة الإيرانية مير حسين موسوي للانتخابات الإيرانية. ثم تقدم بعاطفية زائدة وتشنج نهايات الحركة الشعبية، والخيبة التي أصابت جيل الشباب الإيراني والذي انحاز الكثير منه للمرشح موسوي.
كذلك عرض مهرجان برلين السينمائي في دورة العام الماضي وضمن تظاهرة “بانوراما” فيلم “احمر، ابيض، اخضر” للمخرج نادر دافودي، والذي يقدم هو الآخر يوميات الاحتجاجات الإيرانية لكن بدون البحث المعمق فيما تعنيه الانتفاضة الإيرانية للذين اعتقدوا لأيام قليلة بان غيروا بدون عنف مصير بلدهم.


إعلان