“ميرال”: عودة إلى مناقشة جادة لعمل سينمائي مهم2/2

مشاكل السرد والإخراج
ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال، الجوانب والإشكاليات الفكرية في فيلم “ميرال” لجوليان شنابل، وتطرقنا لما يتضمنه الفيلم من قضايا وجوانب تتعلق بالصراع العربي الفلسطيني.
هذه الرغبة الملحة في اطلاع الجمهور الأمريكي على القضية بتفاصيلها ولو من خلال فيلم واحد محدود المساحة والزمن، هو الذي يؤدي في واقع الأمر، الى وقوع الفيلم في الكثير من المشاكل الفنية.
من هذا المشاكل أولا: السقوط في الطابع التعليمي المباشر، من خلال الشروح، والتوقف، والسرد الذي يستخدم الوثيقة المصورة، لكي يذكر ويربط، ويجعل التعقيدات التي شهدتها المنطقة خلال أكثر من نصف قرن، شديدة التبسيط بل والتنميط أيضا كما نرى في الجزء الخاص بتردد ميرال بين الانتماء النهائي لحركة المقاومة المسلحة، أو الخضوع لقيادات منظمة التحرير التي كانت قد بدأت الترويج لخطة أوسلو. هنا يوجد الكثير جدا من الحشو والمشاهد الزائدة، والحوارات العقيمة التي لا تضيف بل تقطع مسار الأحداث. وإن كانت تحاول أن تقدم “تلخيصا” للتناقضات بين الأجنحة الفلسطينية المتصارعة.
ثانيا: ربما يكون ما يميز الجزء الأول من الفيلم ذلك التصوير البديع باستخدام الكاميرا المحمولة الحرة بطريقة فنية، في لقطات طويلة، من اليسار الى اليمين، ثم إلى أعلى، ثم تهبط الى أسفل مجددا، بحيث تصبح اللقطة مشهدا كاملا، تحيط بالمكان وبتفاصيله الموحية الخاصة التي روعيت فيها أكثر درجات الدقة، مع البشر، بملامحهم وملابسهم وسلوكياتهم المميزة: في الفيلم نسمع الآذان، ونرى المصلين، والمضربين، وأصحاب الحوانيت الصغيرة، ومرتادي المقاهي، وتلاميذ المدارس ودورهم في الانتفاضة، والقوات الإسرائيلية تغلق الطرق وتضع المتاريس والحواجز، وتقوم بأعمال الدورية والتفتيش، ومظاهر الموت والدفن والصلاة على الميت.. الخ
إلا أن هذا التشكيل البديع سينمائيا سرعان ما يختل بسبب ذلك الخلل في طريقة القص، الحكي، أسلوب السرد، البناء (وكلها تعبيرات مختلفة عن جانب واحد هو الـ narrativity  فنحن نبدأ عام 1994 أي من نهاية الأحداث عمليا بعد أوسلو، لكي نعود الى 1948 وتأسيس اسرائيل، ثم الحرب، ثم 1967 ثم الانتفاضة وهكذا. ولكن السرد يتوقف لكي يقدم وجهات نظر متباينة، أولا الفيلم يبدأ من وجهة نظر هند الحسيني، وتمر 40 دقيقة قبل ظهور ميرال، التي يفترض أنها الشخصية المحورية في الفيلم، لكننا نذهب قبل ذلك لنتعرف على والدتها “نادية” ثم الى زميلتها في السجن “فاطمة”، وكل له قصته، وله وجهة نظره في الأحداث، مما يخلق فوضى غير منظمة، واضطرابا فكريا في مسار الفيلم وليس فقط فيما يتعلق بسلاسة البناء، فمن الممكن أن يتمحور الفيلم بين الماضي والحاضر، ولكن مع التركيز دائما، على موضوعه الأساسي.

المخرج جويليان شنابل أثناء التصوير

 العنصر الثالث يتلخص في أن الفيلم، نتيجة لهذا التشتت في الرؤية والرغبة في رواية كل شيء، يفتقد وحدة الأسلوب، فهو تارة يشبه فيلما بوليسيا من أفلام الاثارة السياسية، وتارة أخرى يبدو كعمل وثائقي أو توثيقي من خلال الافراط في استخدام الوثائق ومراعاة الدقة التسجيلية في اعادة تصوير الأحداث التاريخية، ومرة ثالثة يتجه نحو الميلودراما أو أسلوب المسلسلات soap opera في لعبه على المصادفات والأنماط التبسيطية والتقابلات المصنوعة لخدمة فكرة “التعايش” مثلا، ومرة رابعة يبدو كعمل “تعليمي” موجه.. وهكذا.
ورغم الجهد الواضح في أداء دور ميرال تبدو الممثلة الهندية فريدا بنتو غريبة على الدور، بل وعن الأماكن التي تدور فيها الأحداث في فلسطين، وغير منسجمة لغويا وشكليا ودراميا مع الممثلين الآخرين ومنهم الكثير من الممثلين العرب وعلى رأسهم هيام عباس التي تبدو الأكثر بروزا وتألقا في الفيلم، في تقمصها لدور هند الحسيني ببراعة جديرة بالتقدير والثناء بحيث يبدو الدور وقد كتب لها خصيصا.
هنا يصبح استخدام اللغة الانجليزية معظم الوقت، مفتعلا خاصة عندما نشاهد رجلا وزوجته يجلسان على السرير في غرفة النوم، يتبادلان الحديث بالانجليزية بلكنة فلسطينية، أو عندما تخاطب ميرال صديقها الناشط الفلسطيني بالانجليزية، ويخاطب الضابط الاسرائيلي ابنته بالانجليزية بلكنة اسرائيلية قوية.. وهكذا، وهو ما يساهم في “تغريب” الفيلم وان كان دفاع المخرج شنابل عن هذا  الاختيار يتركز على رغبته في وصول الفيلم الى الجمهور الأمريكي بسهولة كما أوضحنا!
وأخيرا لا أجد مكانا هنا للظهور الرمزي للممثل الأمريكي وليم دافو، ولا للممثلة الانجليزية العظيمة فانيسا ريدجريف، من زمن الانتداب البريطاني، ووجود قوات الأمم المتحدة بعد حرب 1948، وهو استخدام لاثنين من كبار الممثلين يبديان، كما هو معروف، تعاطفا مع قضية الشعب الفلسطيني، وبهما، يظن شنابل أنه سيضمن نوعا من الشعبية لفيلمه.
وقد يكون أخطر ما في رسالة الفيلم أنه يدين على نحو ما، فكرة النضال المسلح، دون أن يطرح بديلا حقيقيا يصلح تبنيه من جانب المجموع، بل يكتفي بتقديم حل فردي “طوباوي” يتمثل في ضرورة البحث عن التعليم، والتمسك بفكرة التعليم كوسية لمقاومة الاحتلال أو الوقوع في التطرف، وهي رؤية ساذجة تبدو كما لو كانت تطالب الشعب الفلسطيني بمغادرة أراضيه بحثا عن التعليم وفرص العمل في أوروبا!
ولكن رغم كل الملاحظات السلبية على الفيلم، إلا أنه يساهم بشكل ما، في إضاءة بقعة من الضوء أمام الجمهور في الغرب، على ذلك الملف الملتبس، ويصور بشكل قوي وغير مسبوق، معنى العيش الفلسطيني تحت الاحتلال، وما يمكن أن يولده ذلك اليأس والإحباط، وتلاشي كل فرص تحقيق السلام يوما بعد يوم، من لجوء إلى كل أشكال التطرف والعنف. وهو تحذير سينمائي غير مسبوق في السينما الروائية الغربية الموجهة للجمهور العام.


إعلان