“ميرال”: عودة إلى مناقشة جادة لعمل سينمائي مهم 1/2

كنت أتخيل أن يكون فيلم “ميرال” Miral للمخرج الأمريكي (اليهودي) جوليان شنابل، الفيلم الأكثر إثارة للاهتمام، للنقاش، والجدل حول موضوعه ومحتواه في أوساط النخبة المثقفة العربية والإعلام العربي بشكل عام في 2010، باعتباره أول فيلم احترافي كبير مصنوع للجمهور العريض، يتناول تاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، منذ فيلم “حنا ك” الذي أخرجه الفرنسي (اليوناني الأصل) كوستا جافراس، والذي تعين على مخرجه فيما بعد أن يدفع الثمن باهظا، ويقدم فيلما آخر “يكفر به” عن تعاطفه مع القضية العربية، كما دفعت بطلته جيل كلايبرج الثمن أيضا، متمثلا في تجاهل هوليوود لها حتى وفاتها أخيرا.
أما “ميرال” الذي صور في عدد من المدن الفلسطينية داخل وخارج ما يسمى بالخط الأخضر، فلم يعرض سوى في اليوم الأخير من مهرجان أبوظبي، وعرضا واحدا في مهرجان الدوحة-تريبيكا فقط من بين كل المهرجانات السينمائية العربية لعام 2010، وغابت بالتالي فرصة مناقشته بشكل حقيقي يبتعد عن الانطباعات الأولية.
سيناريو الفيلم مأخوذ عن مذكرات رولا جبريل التي صاغتها في شكل رواية تروي فيها قصة حياتها، وهي الفلسطينية التي جاءت من قلب المأساة الى أوروبا لكي تصبح حاليا من أشهر مقدمات البرامج الشعبية في التليفزيون الإيطالي.

قصة الصراع
يروي الفيلم، أو يطمح إلى أن يروي، قصة الصراع الدائر في فلسطين، منذ عام 1948 حتى اليوم، من خلال التركيز على دور هند الحسيني، التي أنشأت بيتا لإيواء الأطفال اليتامى الذين فقدوا أباءهم في حرب عام 1948، واتسع هذا البيت الذي كان يأوي في البداية 55 طفلا فأصبح يستوعب ألفي طفل.
أما “ميرال” فلم تفقد والديها في الحرب، وهي التي ولدت في اوائل السبعينيات، بل فقدت أمها بعد ان انتحرت هربا من مصيرها الذي يرويه الفيلم بالتفصيل، فأودعها والدها “دار الطفولة” لكي تصبح في رعاية هند الحسيني، تلك الشخصية الفلسطينية “الأسطورية” التي تحدت كل الظروف غير الانسانية، ونجحت في الحفاظ على مدرسة تعليم الأطفال، وكانت ترى أن التعليم هو طوق النجاة الأساسي أمام الشعب الفلسطيني.
فيلم “ميرال” شاركت في إنتاجه شركات من فرنسا وايطاليا والهند وإسرائيل. وصنع أساسا لكي يخاطب الجمهور الأمريكي العريض. وقد بدأت عروضه العامة في السوق الأمريكية في شهر ديسمبر 2010. والمشاركة الاسرائيلية فيه مجرد تقديم خدمات للتصوير، وهو ما يحدث أيضا لافلام المخرجين الفلسطينيين الذين يصورون في اسرائيل مثل ايليا سليمان، ولا يجب التوقف امامه باعتباره نوعا من “المشاركة” الإسرائيلية في الإنتاج.
يبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (سيتكرر كثيرا استخدام لقطات من الأرشيف خلال الفيلم) لإعلان بن جوريون قيام دولة إسرائيل ووصول أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ثم مظاهر الاحتفالي الشوارع بما يطلق عليه الإسرائيليون “يوم الاستقلال” في 15 مايو 1949 ثم قيام الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى التي تنتهي بـ”النكبة” الكبرى.
ونرى لقطات لعشرات الأطفال يتحدثون عن فقدانهم لذويهم، وقد أصبحوا بلا مأوى في عرض الطريق، وهند الحسيني وهي تصطحبهم معها.
ونقفز الى حرب 1976 ودخول القوات الإسرائيلية إلى القدس. لكننا نعود في الزمن الى الوراء لكي نتوقف أمام قصة “نادية” (ياسمين المصري) التي تهرب من حياة الفقر والفاقة مع أسرتها المتعددة الأطفال، ووالدها الفظ الذي يسيء معاملتها، لتعمل راقصة في ملهى ليلي، ثم لا تستطيع أن تتحمل اهانة امرأة لها داخل حافلة، فتضربها بعنف ويقبض عليها وتحكم بقضاء ستة أشهر في السجن. وهناك تلتقي نادية بفاطمة، وهي ممرضة فلسطينية صدرت ضدها ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد بعد أن قامت بزرع قنبلة داخل دار سينما.
تدور حوارات طويلة بين المرأتين داخل السجن، حول معنى القتل، وكيف يصبح من الممكن قتل أناس لا تعرفهم، قد يكونوا من الأبرياء، وحول مغزى الاحتلال، وقسوة العيش تحت سطوته. ويصور شنابل عملية زرع القنبلة داخل دار السينما في “فلاش باك” حيث نرى السينما تعرض فيلم “نفور” Repulsion لرومان بولانسكي في تحية واضحة لهذا المخرج (اليهودي، البولندي الأصل) الذي كان وقت إعداد الفيلم موضوعا تحت الإقامة الجبرية في سويسرا.
بعد خروج نادية من السجن يزوجونها من رجل لا تحبه، تنجب منه طفلتها “ميرال” لكنها تختفي ذات يوم، ونعلم أنها انتحرت. وهذا هو الجزء الأكثر غموضا في الفيلم، وفي عام 1985 يقوم هاني زوج نادية بتسليم ميرال الى مدرسة الدير أي الى هند الحسيني.

المخرج جوليان شنابل

مشهد الجرافات
وفي 1987 تندلع الانتفاضة الأولى وتذهب ميرال الى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية لتعليم الاطفال. ويركز الفيلم هنا كثيرا على فلسفة هند الحسني في ضرورة التعليم للفلسطينيين، مع ضرورة أن يعرفوا دائما من أين جاءوا والى أي وطن ينتمون، في إشارة إلى توازن نظرتها، وعدم ابتعادها عن القيم الوطنية الفلسطينية.
ولكن سرعان مما تشهد ميرال كيف تلقى زميلة لها مصرعها برصاص القوات الإسرائيلية أثناء قمع الانتفاضة، كما تشهد هدم منازل قريتها بواسطة الجرافات الاسرائيلية، وتشريد العشرات من السكان. في مشهد من أعظم مشاهد الفيلم ولعله أيضا أكثر المشاهد من نوعها، “تعبيرية” في السينما، وهو مشهد يستغرق عرضه على الشاشة زمنا يوازي الزمن الحقيقي في الواقع، ويتم تقطيع لقطاته من زوايا مختلفة، مع تصاعد الموسيقى الحزينة المؤثرة التي تستخدم فيها آلات التشيللو والكمان، وتتناوب لقطات لعشرات الأشخاص من الأطفال والكبار وهم يتطلعون بأسى إلى ما يحدث أمامهم من هدم وتدمير، حتى يصل المشهد إلى ذروته في التأثير على المشاهدين، وبما يتجاوز عشرات المرات ما نراه يوميا في نشرات الأخبار والتقارير التليفزيونية. إن هذا المشهد وحده، يتجاوز أيضا فكرة الواقعية أو التصوير الواقعي لحدث تراجيدي، ليصل إلى فكرة “القهر” بالمعنى الشامل، أو وقوف الإنسان بكل انسانيته وعذابه ورغبته في مجرد العيش الكريم، عاجزا أمام جبروت الآلة، آلة الدمار التي ابتكرها الإنسان أيضا للقضاء على الأمل، وزرع الشقاء والحقد والرغبة في الانتقام. إننا نشاهد تلك الآلة العملاقة الجهنمية التي تقضي على رمز الحياة، أي البيت، كما لو كنا نشاهد وحشا من وحوش ما قبل التاريخ، وقد عاد لتهديد حياة البشر. إنه شيء فاقد أصلا لكل قيم الإنسانية. وهذا هو المغزى الذي يبقى في الأذهان طيلة الوقت، ولكن دون ان ينفصل في العقل البشري ابدا، عن صلته الوثيقة الثابتة بالبربرية الإسرائيلية العسكرية الغاشمة.
الطابع التسجيلي يسود النصف الأول من الفيلم (الذي يستغرق زمن عرضه 111 دقيقة). فنحن نشهد الكثير من الأحداث، خاصة الانتفاضة، مجسدة كما لو كانت مسجلة وقت وقوعها، في حين أن كل شيء في الفيلم مصنوع، أو أعيد تجسيده، بدقة مدهشة، وباستخدام كل امكانيات السينما الحديثة (تكلف انتاج الفيلم حسب تصريحات المخرج شنابل 15 مليون دولار).

نهاية القصة
في ظل هذا الدمار كله تسعى هند الحسيني بكل ما تملك من قوة، للحفاظ على المدرسة، وعلى الأطفال. ولكن بعد مقتل هديل صديقة ميرال، تتحول ميرال الى ناشطة، ترتبط بعلاقة مع شاب من النشطاء وتشارك في عملية تفجير داخل مستوطنة إسرائيلية عام 1990 ويتم اعتقالها (مع مائة آخرين) والتحقيق معها وتعذيبها لكي تعترف على زملائها، إلا أنها تصمد وتتمكن من الخروج بعد أن تتعهد بعدم المشاركة في العمليات ضد اسرائيل.
وفي النهاية تقنعها هند بمغادرة البلاد الى ايطاليا بعد ان تكون قد دبرت لها سبل مواصلة تعليمها هناك.
ولعل من أكثر نقاط الفيلم ضعفا وتهافتا واخلالا بالإيقاع، الفصل الأخير الذي يروي قصة “ليزا وسمير”. وليزا هي فتاة اسرائيلية يهودية، وسمير هو ابن عم ميرال. والاثنان يرتبطان معا بعلاقة عاطفية. لكن ليزا ابنة لضابط في الجيش الاسرائيلي. وتعترض والدة سمير على تلك العلاقة وترفضها، وتسعى بشتى الطرق لجعل ليزا تترك ابنها. أما والد ليزا فهو أيضا يتحفظ على تلك العلاقة لكنه يبدو أكثر تفهما، ويصر الاثنان على مواصلة تلك العلاقة، وتتجاوب ميرال معهما، في إشارة رمزية مباشرة تؤكد الفكرة الثابتة لدى أصحاب الأفكار الليبرالية في الغرب، أي فكرة ضرورة التعايش بين العرب واليهود، وأنه لا يوجد حل آخر، وأنه قد آن الأوان لوقف مسلسل القتل والقتل المضاد، وهو ما عبر عنه المخرج شنابل في المؤتمرالصحفي الذي عقد في مهرجان فينيسيا، عندما أصر على أنه كيهودي، كانت أمه مسؤولة عن ادارة فرع الهستدروت في أمريكا من أجل دعم إسرائيل، وجد أن من الضروري تقديم وجهة النظر الأخرى، من أجل تقريب المسافات بين الطرفين، وإن فيلمه يمكن أن يكون مادة جيدة أمام الرئيس الأمريكي وهو يفتح ملف الشرق الأوسط من جديد!


إعلان