بدايات العروض السينمائية في فلسطين
تؤكد بعض الروايات أن حركة إنشاء دور العرض والصالات السينمائية في فلسطين ارتبطت بمصر، التي كانت أكبر مركز لعرض وصناعة السينما في المنطقة العربية. ويُقال إن أول دار سينما في فلسطين افتتحها مصريون في القدس عام 1908، وهي دار «أوراكل»، ثم سينما «عدن»؛ أول سينما في تل أبيب عام 1914. وفي هذه الروايات جميعها نجد أن ثمة تأكيداً على الدور الريادي لمصر في المجال السينمائي، في فلسطين، على الأقل على مستوى العرض وإقامة دور السينما وصالاتها. وقد كان من المعتاد، قبل ذلك، أن تتم العروض في الفنادق أو في قاعات أو صالات أو ساحات، قبل أن تنشأ أمكنة خاصة للعرض السينمائي.
وهنا يمكننا أن نستعين بشهادات البعض ممن عاصروا تلك الفترة، وعايشوا وقائعها، فالسيد ميشيل صيقلي ، يذكر أن أول دار للعرض السينمائي في فلسطين أُقيمت في حيفا، وهي دار «عين دور» التي أقامها يهود ألمان، ثم دار «أوريون» (لعلها أوديون، أي عدن) في مدينة القدس، وكانت هذه الدار السينمائية ليهودي مصري!..
ويقول السيد صيقلي: «أثناء متابعتي لأحداث فلسطين في أمريكا (أي عبر السينما) لفت انتباهي تلك الآلات السينمائية، وسألت المسؤولين عنها، واشتريت أربعة أزواج من الماكينات بسعر 300 دولاراً للماكينة الواحدة، وكان الدولار (الأمريكي) وقتها يعادل عشرين قرشاً فلسطينياً، وشحنتها إلى حيفا».. ويذكر صيقلي أنه استأجر في العام 1939 مبنى «سينما الأهلي» في مدينة عكا، من مالكها الحاج محمد اللبابيدي، وبدأ العروض السينمائية في تلك الدار، بالمشاركة مع السيد محمود ماميش، الذي سبق أن كان شريكاً مع (عيتاني أخوان) أشهر أصحاب دور السينما في لبنان.. وكانت بداية عروضه السينمائية في 2/9/1939 بفيلم «ميشيل ستروغوف»..
ويقول صيقلي إن ثماني ماكينات تشغيل كانت لديه، وضع اثنتين منها في سينما «الأهلي» في عكا، بينما شغَّل الماكينات الست الباقية في قسم الترفيه، المخصص لجيش الحلفاء، في تجمّع للجيش الإنجليزي يسمى «سيدني سميث كامب»، وفي ثلاثة مخيمات للجيش البريطاني، في العفّولة، والكرمل، وعكا، فقد كانت الحرب العالمية الثانية في 1/9/1939. ويشير إلى أن تذكرة حضور العرض السينمائي كانت بقيمة 5 قروش للجندي، و10 قروش للضابط.
وكان من الطبيعي أن تتالى عروض الأفلام السينمائية، في مدن فلسطين الرئيسة، حيث كان عدد من الموزعين يقومون بجلب الأفلام السينمائية من خارج فلسطين، ويوزعونها على دور العرض. ويذكر صيقلي أنه كان في عكا موزعو أفلام، مثل «أفلام النيل» لأصحابها يوسف البنا وتلحمي، وقد استأجروا سينما «ركس» في القدس، من مالكتها، وهي البطريركية الأرثوذكسية. وكان السيد ميشيل صيقلي يذهب إلى القدس كل يوم إثنين، وإلى يافا وتل أبيب، كل يوم خميس، للحصول على أفلام من شركات التوزيع الأمريكية..
أما بصدد الأفلام العربية، فيقول صيقلي إنها كانت قليلة جداً، رغم أن تكلفتها كانت رخيصة، إذ كان يباع الفيلم بسعر يتراوح بين 600 و800 جنيهاً فلسطينياً، ومع ذلك فإنه استكثر أن يطلب منه مبلغ 300 جنيهاً فلسطينياً لقاء فيلم «قيس وليلى» من بطولة بدر لاما، وذلك بذريعة أن الفيلم لن يدرَّ ربحاً، بسبب انخفاض سعر التذكرة. وفي تحليل هذا الموقف نجد أن المزاج الجماهيري كان يتجه بشكل أساسي نحو الأفلام الأجنبية، تحديداً الأمريكية، إذ أن صيقلي لا يشير إلى امتعاض مماثل بصدد الأفلام الأجنبية (الأمريكية تحديداً)..
بدر لاما
وعلى كلّ حال، فلم يكن لصاحب أي دار عرض سينمائية، في فلسطين، أن يتجاهل وجود السينما المصرية، بل لابدّ منها. وعلى هذا نجد أن ميشيل صيقلي سعى للتعرُّف إلى السيد أنطوان خوري، أحد أصحاب «نحاس فيلم»، الذي شجَّعه للذهاب إلى مصر، للحصول على أفلام مصرية، وهذا ما كان، إذ ذهب صيقلي إلى مصر في العام 1942، من أجل عقد صفقات للحصول على أفلام مصرية، ويذكر أن فيلم «ابن الصحراء» من بطولة بدر لاما، كان باكورة الأفلام التي اشتراها، وصار منذ ذاك الوقت يشتري نسختين، من كل فيلم مصري يريد عرضه؛ نسخة أولى من أجل عرضها في فلسطين، والثانية من أجل عرضها في الأردن.
أما الدكتور أحمد صدقي الدجاني ، فإنه يعود إلى أوراق مذكراته ليستعيد بعض التفاصيل عن العروض السينمائية التي كانت تتمّ في فلسطين قبل العام 1948، وذلك من خلال تجربته الشخصية، فيذكر أن أول فيلم شاهده كان فيلم «الوردة البيضاء» الشهير لمحمد عبد الوهاب، في عرضه الأول، في دار «سينما الحمراء» في يافا. ويتحدَّث الدجاني عن ضخامة مبنى دار السينما، وأناقته، وكثافة الازدحام في السينما، وعلى أبوابها، كما يذكر، من جهة أخرى، مبادرة المدرسة للذهاب بطلاب المدرسة لمشاهدة فيلم عن ماري أنطوانيت، والثورة الفرنسية، في حفلة صباحية، خاصة بالطلبة.
وتعود ذاكرة الدجاني إلى أيام الأعياد، التي غالباً ما كانت ترتبط بمشاهدة العروض السينمائية لأفلام الأعياد، هذه الأفلام التي غالباً ما كانت أفلام مغامرات وخيالات وإضحاك، وهو طقس استغرق تقريباً طيلة القرن العشرين. ومن تلك الأفلام ما كان «أجنبياً»، ومنها ما كان «عربياً» (وينبغي ملاحظة أنه حتى الآن ما زال يقصد بعبارة «الأفلام العربية»، غالباً وبشكل كبير «الأفلام المصرية»).. فكما يذكر من الأفلام الأجنبية «طرزان» و«شيتا» و«سابو» و«البساط السحري» وأفلام لورديل وهاردي، والأخوة جروشو، وسبنسر تراسي، وكاترين هيبورن، وسيدني بواتييه.. كذلك تحضر في ذاكرته أفلام مصرية، كان أبطالها من أمثال بدر لاما وفؤاد الجزايرلي وعلي الكسار وبشارة واكيم وشرفنطح وحسن فايق وشكوكو وإسماعيل ياسين ونجيب الريحاني ويوسف وهبي وفاطمة رشدي وروحية خالد وعزيزة أمير وأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وصباح وفريد الأطرش وتحية كاريوكا وزكي رستم وصلاح نظمي ويحيى شاهين وزوزو نبيل وفؤاد شفيق وعبد الوارث عسر ومحمد عبد الوهاب ورجاء عبده وراقية إبراهيم..
ابراهيم وبدر لاما
فكان من الأفلام العربية (المصرية) التي ذكر الدجاني أنه شاهدها في فلسطين، قبل العام 1948: (شمعة تحترق، بنت ذوات، بنات الريف، ليلة ممطرة، ممنوع الحب، رصاصة في القلب، الماضي المجهول، غرام وانتقام، انتصار الشباب، غني حرب، لعبة الست، سفير جهنم، سيف جلاد، جوهرة، برلنتي، سلامة، دنانير، لست ملاكاً، أول نظرة، هذا جناه علي أبي، خاتم سليمان..). والدجاني تعرَّف، من خلال هذه الأفلام، إلى نجوم مصر والقامات الإبداعية فيها من طراز أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونور الهدى وأسمهان.. وأدرك مكانة كل منهم لدى الجمهور.. واستطاع التمييز بين الأفلام الهامة، والأفلام العادية، أو البسيطة، إن لم نقل التافهة، فقد أسف لمشاهدة أفلام من طراز (نجف، ما أقدرش)، بينما احتفظ لنفسه بالتهنئة لمشاهدة الأفلام الراقية.
ولا شك أن الحديث عن أفلام هابطة أو ساذجة، من جهة، وأفلام ممتازة أو راقية، من جهة أخرى، هو تقييم فني ومعرفي، مما يعني أن السينما كانت بطبيعة دورها تمثّل إحدى وسائل المعرفة والتواصل بين الناس، إن لم نقل وسيلة تثاقف وإطلاع.. فيفصح الدجاني عن إدراكه حقيقة أن السينما «أداة تثقيف تتضمّن أحياناً فناً رفيعاً يتألف من عدة فنون».. فعالم السينما زوَّده بمعلومات ومعارف جديدة، خاصة وأن العروض السينمائية ساهمت، من جهة أخرى، في انتشار المجلات والصحف الفنية، سواء التي كانت تكتب في مجال الفن السينمائي، كعلوم أو معارف، أو تلك التي تترصَّد أخبار الفنانين السينمائيين، وأحوالهم..
ومن النقاط البارزة التي يشير إليها الدجاني في أوراقه، أن السينما كانت الوسيلة الأساسية التي عرَّفت المشاهد الفلسطيني بمصر، فعبر السينما تعرّف الفلسطينيون، وشاهدوا على الشاشة الكبيرة مصر (أمّ الدنيا)، بمدنها وشواطئها ومنتجعاتها وجبالها ووديانها وصحرائها وآثارها، وأهراماتها.. وشاهدوا القاهرة، بشوارعها ومناطقها ومبانيها وجسورها، ومحطاتها.. وشاهدوا النيل العظيم، النهر الخالد، بضفافه ومراكبه والجسور والكباري الناهضة عليه، أو بالعوامات السابحة على أطرافه.. كما عرفوا، من خلال السينما المصرية، الريف المصري، والفلاح، والعمدة، والعزبة، والباشا وفيلته.. وعاشوا الصراعات وقصص الميراث والحب والخيانة التي صوَّرتها تلك الأفلام.. وتابعوا المغامرات، فانتشوا لانتصار الخير وهزيمة الشر، ورأوا في انتصار الفقير انتصارهم، ولو كان فقط على الشاشة.
العروض السينمائية، كانت البوابة التي ولج منها المتلقّي الفلسطيني، بكل الدهشة والانبهار، إلى عالم مصر، التي طالما سمع عنها عبر الأغاني الشهيرة، في ذات الوقت الذي تعرّف فيه على لبنان، من خلال مشاهدة ما صُوِّر فيه من أفلام، ومنها فيلم «غرام وانتقام» وسمع وشاهد أسمهان وهي تغني وتمثّل، كما عندما شاهد فيلم «أول نظرة» من بطولة المطربة اللبنانية صباح، وبرهان صادق..
وعبر السينما استعاد المشاهد الفلسطيني صوراً من الماضي العربي والإسلامي، من خلال عدد من الأفلام التاريخية، فتكوَّنت لديه صور باهرة، تجسِّد تلك الأيام الزاهية التي عرفها العرب والمسلمون، في عصورهم الماضية..
وكانت فلسطين قد عرفت، منذ مطالع القرن العشرين، زيارات فنية عديدة لفنانين مصريين، يذكر منها زيارة أم كلثوم إلى مدينة يافا عام 1929، وزيارة الفنان يوسف وهبي مع فرقته المسرحية إلى مدينة يافا، كما أنه فيما ما بين عامي (1920-1930) زارت المدن الفلسطينية فرق مسرحية مصرية مرموقة، منها فرقة جورج أبيض وفرقة الريحاني وفرقة رمسيس وفرقة أمين عطا الله وفرقة فاطمة رشدي وفرقة علي الكسار.. وهذه الجولات الفنية المسرحية كانت من المؤسِّسات للتواصل الثقافي، المباشر والعميق، بين فلسطين ومصر.
يوسف وهبي
ولكن المسرح لم يكن السبيل الوحيد للتواصل الفني والإبداعي مع مصر، حينذاك، إذ قامت «إذاعة الشرق الأدنى» التي كانت تبثّ من مدينة يافا، بدايةً، بدور هام ومميز، فقد كان الاستماع لهذه الإذاعة من أهم وأبرز الطقوس التي يمارسها الناس، سواء في بيوتهم، أو في المقاهي.. فانتشر الاستماع لأغاني أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وألحان حليم الرومي، واهتم الناس بالإصغاء إلى تراتيل من القرآن الكريم، كان يتلوها المقرئ الشيخ فريد السنديوني.
الهوامش :
– طلعت شناعة: «ميشيل صيقلي: فلسطين، الأردن»، في «السينما والتاريخ» وهو كتاب غير دوري، يشرف على تحريره الناقد سمير فريد، ويصدر في القاهرة.
– د. أحمد صدقي الدجاني: «الفن والسينما في فلسطين قبل العام 1948»، نشرها في «السينما والتاريخ»، وهو كتاب غير دوري، يشرف على تحريره الناقد سمير فريد، ويصدر في القاهرة.