«نشيد الحجر»الوثيقة في مواجهة الدراما، أو موازاتها

في «نشيد الحجر»، عام 1991، يعود المخرج ميشيل خليفي، إلى سيرته الأولى، من حيث الاعتماد على منهج بناء فني مزدوج، يمكن أن يُسمَّى بطراز «دوكيودراما»، حيث سيمازج فيه بين التسجيلية الوثائقية، من جهة، والروائية الدرامية، من جهة أخرى، في خطّين متوازيين ومتفاعلين، في آن، على الأقل كما كان قد فعل من قبل في فيلمه «الذاكرة الخصبة» الذي كان قد مضى على إنجازه، حينذاك، قرابة العشر سنوات.
ويمكننا اعتبار أن استخدام المخرج خليفي لهذه المنهج، قناعةً منه على أنه قادر بذلك على تقديم «صورة» الانتفاضة الفلسطينية، فيما هو تسجيلي وثائقي، والتأسيس لفلسفة مفهوم «التضحية» الذي يشكِّل جوهر الانتفاضة ومرتكزها، فيما هو روائي درامي. ففي هذا الفيلم سيرصد خليفي، على المستوى الروائي الدرامي، امرأة فلسطينية، أربعينية «تؤدي دورها الفنانة الفلسطينية القديرة: بشرى قرمان» ويبحث في علاقتها بحبيبها، الذي كان قد دخل السجن (المعتقل بصيغة أدقّ) لأسباب نضالية، وذلك بسبب انخراطه في صفوف الثورة الفلسطينية!.. وهي بطبيعة الحال كانت تهمة كافية للزجِّ بالفلسطيني خلف قضبان الاعتقال، بأحكام خرافية تصل إلى عدد من المؤبدات، وسنوات تُعدُّ بالمئات!..

ميشيل خليفي بين أحمد الراشدي وعمر الشريف 
يتسلم جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دبي السينمائي 2009

يبدأ الفيلم منذ لحظة اللقاء بينهما، الآن، وبعد انقضاء التجربة وتمامها، ويكشف من خلال هذين النموذجين، أي المرأة وحبيبها، جيلاً محدداً من أجيال الشعب الفلسطيني، يمكن القول إنه «جيل الثورة»، أي الجيل الذي واكب انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلَّحة عام 1965، وهما سيمثَّلان الخط الروائي الدرامي في الفيلم، دلالة على أنهما يعبران عن الحكاية الفلسطينية، بموازاة الجيل الجديد الذي سيشكّل وقود الانتفاضة، أي الجيل الذي أُسمي بأطفال الحجارة، أو «جيل الانتفاضة»، الذي يبرز في الفيلم، تسجيلياً، فيوضح منطقه المختلف، وطموحاته الناهضة.. وهو الجيل الذي يمثل الخط التسجيلي الوثائقي، بما يدلّل أنهم التعبير الراسخ عن الواقع والحالة الفلسطينية.
عملياً، تبدأ أحداث القصة في فيلم «نشيد الحجر» عند أوائل السبعينيات من القرن العشرين، عندما بدأت قصة حب فلسطينية، كان من المفترض أن تكون عادية، ككل قصص الحب، ولكن قصة الحب هذه لن تدوم إلا أياماً معدودات، إذ ستنتهي باعتقال الرجل بسبب «نشاطه المعادي» للاحتلال الصهيوني!.. وجملة «نشاطه المعادي» إنما تعني في الواقع ثوريّة هذا الرجل، وهو لن يكون استثناء أو تميزاً في هذا المجال، إذ أن آلافاً مؤلَّفة من الفلسطينيين، زجَّ الاحتلال بهم خلف قضبان الاعتقال، بسبب التهمة ذاتها؛ تهمة النشاط المعادي للاحتلال، التي كانت ذات شيوع إبان صعود وانتشار الثورة، نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، من القرن العشرين..
يدخل الرجل المعتقل، ويغيب في ظلماته، محكوماً بالمؤبد، فتهاجر المرأة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. هكذا دون مبرر درامي قوي، فكم من النساء الفلسطينيات ممَّن انتظرن سنوات طويلة، متعلِّقات بأمل أن يخرج الرجل «حبيباً، أو زوجاً، أو ابناً، أو أباً، أو أخاً..» من خلف القضبان. لكن حدث هجرة المرأة، كما نراه في الفيلم، يبدو معبِّراً عن حالة الانكسار الذي أصاب قصة الحب، هذه، وانكسار محاولة العيش العادية، بأمن وسلام، التي يريدها الفلسطينيون، ككلِّ البشر. هذه الحياة العادية التي تبدو عصيّة على محاولات الفلسطيني، وهو منكوب ومنكود بالاحتلال.
الانكسار والوقوف على حافة اليأس والقنوط، ربما كلّها مما أسَّس للانتفاضة الشعبية التي اشتعلت في الوطن المحتل، عام 1987، ليستعيد الناس حيويتهم وألقهم، ويتعزَّز أملهم في وطنهم المستعاد.. والانتفاضة في الفيلم لم تكن مجدِّدة لنضال الفلسطيني وأمله وحلمه، فقط، لكنها أيضاً ستجدِّد قصة الحب المكسورة، حتى لو كان ذلك بعد مرور ثمانية عشر عاماً على بدايتها الأولى..

نبدأ مع فيلم «نشيد الحجر» وقد اندلعت الانتفاضة، وتأجَّج أتونها، والمرأة تعود من الولايات المتحدة الأمريكية إلى فلسطين لتجري بحثاً حول مفهوم التضحية في المجتمع الفلسطيني، فتلتقي حبيبها الذي خرج من السجن بعد أن أمضى فيه خمسة عشر عاماً، ليس لأنه أنهى السنوات التي حكم الاحتلال عليه بها سجناً، بل إثر عملية تبادل أسرى، نعرف أنها في الواقع حصلت في العام 1985 باسم «عملية الجليل». وسنعرف أن الرجل بعد إطلاق سراحه لن يعود للانخراط في «نشاطه المعادي» للاحتلال، بل سيعمل في إحدى مؤسسات الإغاثة الزراعية. بما يدلّل على حقيقة التغيرات التي أصابته بعد العقد والنصف من السنوات التي أمضاها خلف القضبان.. ربما كسرت روحه، أو هشَّمت أحلامه، وأطفأت إرادته وعزيمته.. ربما.. لكننا سنرى طبيعة الأداء الذي يقدّمه الممثّل «مكرم خوري»، ومدى الهدوء والسكينة التي تتلبَّسه في تحركاته وأقواله.. بشكل لا يدلّ على أيّ فعالية ثورية راهنة لديه..
وبمقدار ما تبدو شخصيتا الشقّ الروائي، في فيلم «نشيد الحجر»، أدبية لغوية، أكثر منها حيّة نابضة من لحم ودم، فإن الشخصيات الكثيرة التي يقدمها الشقّ التسجيلي الوثائقي ستأتي بكل واقعيتها الحقيقية، إذ أتت من دون أي تشذيب وتأنُّق، بل إنها استطاعت التعامل مع الكاميرا بكل عفوية، وأطلقت لذاتها كلّ العنان للتعبير بقوة وجرأة ووضوح عمّا يصيبها من عنت قوات الاحتلال، وممارساتهم الهمجية.. وتعبِّر في الوقت ذاته، وعلى رغم كلّ ألمها ومصابها ومعاناتها، عن إصرارها وصمودها، وأن لا خيار لها إلا في مواجهة الاحتلال، وفي خضمّ الانتفاضة..
هكذا سنجد أنفسنا، في هذا الفيلم، أمام جيلين فلسطينيين متتالين. الجيل الأول منهما، ويُفترض بنا أن نسمّيه «جيل الثورة»، فهو الجيل الذي شهد انطلاقة الثورة الفلسطينية وانخرط في صفوفها ومارس شيئاً من فعالياتها ونشاطاتها، وها هو يبدو هنا محبطاً منكسراً، يعبِّر في حالته عن عموم الحال الذي آلت إليه الثورة عند نهاية الثمانينيات، بينما الجيل الثاني منهما هو ما ينبغي أن نسمّيه «جيل الانتفاضة» الذي بدأ تفتح وعيه وانطلقت فعاليته في المرحلة التالية لازدهار الثورة والمنظمة وصعودها، بل بالموازاة مع انحدارها وتراجعها ووقوعها في قبضة العجز وقلّة الحيلة والانكفاء، في منافٍ جديدة، على مسافة آلاف الكيلومترات.
لقد وجد المخرج ميشيل خليفي نفسه، وهو يريد الولوج في ميدان الحديث عن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة، أمام وجهين يبدوان متناقضين في الحالة الفلسطينية، إذ جاءت الانتفاضة كثورة جماهيرية شعبية عارمة، في ذات الوقت الذي أدار القادة العرب الرسميون الظهر للقضية الفلسطينية، وانشغلوا عنها!.. فكان فيلمه ليقول إن «جيل الانتفاضة» هو من سيعزف «نشيد الحجر».. فهو جيل الأمل، والجيل المجدد للحلم الفلسطيني، وسيبدو جيلاً ناهضاً رافضاً للانكسار، يمتلئ بإرادة المقاومة والمواجهة والثبات والصمود، إنه يقاوم حتى بالحجر، ويدرك أن معركته على الأرض، وفي الميدان.. وسيكون من المؤلم تلك المقارنة بين هذين الجيلين، لكن خليفي يذهب إليها بأفكار جريئة، وبقوة ووضوح، جعلت من المشاهد التسجيلية وثيقة وشاهداً على الفعاليات اليومية للانتفاضة المجيدة.

ينتصر فيلم «نشيد الحجر» لجيل الانتفاضة، إزاء تهافت جيل الثورة، وانكساره. كان ذاك في العام 1991. وإذا كنا نعود الآن للتوقف أمامه، فإنما نفعل ذلك تمهيداً للتوقف أمام فيلم وثائقي آخر، سيأتي بعد عشرين عاماً، تماماً في العام 2010. فيلم يضع لنفسه مهمة تفحص المآلات والمصائر التي ذهب إليها «جيل الانتفاضة»، بإرادتهم، أو في غفلة منهم، فيكون الحديث عن الجيل الثالث: «جيل الجدار»، تحت عنوان صريح: «أطفال الحجارة.. أطفال الجدار».


إعلان