عمر أميرلاي : رحيل العدسة الجارحة

 
رحل عمر أميرلاي فجأة دون مقدمات . رحل صاحب ( الحياة اليومية في قرية سورية ) باقتدار من دون أن يشعر للحظة بخيانة الفيلم الوثائقي له، فقد أخلص له ككائن حي، كما لم يخلص له أحد مثله ، وكأنه لم يكن مدربا على سواه . لم يكن يملك أميرلاي في ذلك سوى حجة الاخلاص لهذا النوع الذي ظل حتى وقت قريب عرضة للاهمال والتغييب. وإن كان أميرلاي قد أسس بحضوره لفيلم يقيم في الذاكرة التوثيقية العربية، فإنه يؤسس بغيابه لنقطة تحول ستعيشها السينما الوثائقية السورية التي لم تعرف مخرجا آمن بها كما هي حال أميرلاي صاحب الفطنة الخاصة ، ومجموعة من الأفلام المتفردة . عاش أميرلاي تحولات كبرى منذ أن كان طالبا في فرنسا ، وقد شهد بأم عينه ثورة الطلاب فيها ، وربما كما يشير هو في أمكنة أخرى ستكون هذه الثورة من شدت انتباهه نحو أهمية العين الوثائقية في اللحاق بالتطورات والسعي نحو “خرزها” واعادة توجيهها في الحياة الواقعية،  وهو يسبغ عليها أفكارا خلاقة ومعينا من التركيب الحر كما شهدنا عليه منذ بداياته الأولى .

الحياة اليومية في قرية سورية

وأميرلاي الذي بدأ مشواره مع ( محاولة عن سد الفرات ) لم يتوقف للحظة عن تأجيج مشروعه الوثائقي بما يكفي القول إنه واحد من صانعي مجد هذه السينما، حين لم تكن تغري كثرا من حولها، فضلوا العيش مع لعبة الممثل والاضاءة والديكورات، أما هو فقد اختار تجنب كل تلك المسميات لاعتقاد خاص أنها قد لا تعرف الإخلاص، وإنها في مرات كثيرة يمكن أن تجيء راوغة وخادعة ، ولهذا انصرف بيقين لا يعرف الفداحة والخسران نحو تنطيق المآلات الواقعية لكل الشخوص الذين مروا على أفلامه ، وأمام عدسته . في ( الحياة اليومية في قرية سورية ) ثمة حشود من الصوفيين والدراويش الذين لا يمكن مشاهدتهم سوى في فيلم جسور من هذا النوع ، ففي المآل البصري يمكن لهؤلاء الدراويش الاجتماع على الهامش درجة الإعجاب الهستيري بالطرق الخاصة بهم، ولولا هذا اليقين الذي ميّز سينما أميرلاي، لما أمكن البتة زرع هذه المحاولة في جسم فيلم ما يزال حيّا وطازجا، ويعي إمكانية أن يكون متنبئا بما ستؤول إليه الأحوال، وكأنه صوّر بالأمس، حتى من بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على إطلاقه في فضاء وثائقي لا يعرف الهدنة أو المهادنة، لجهة اختراع مضاء الوثيقة وحدة تنقيط علاماتها ، وهذا ما لم يتوفر إلا لمخرج من طراز عمر أميرلاي، صاحب العدسة الجارحة، التي لم تعرف أي نوع من فلترات الرتوش المزيفة . في فيلم ( الدجاج )، وكان موضوع حوار لي معه مرة، كان يعرف أميرلاي ويشترط منهجا للحوار يتطلب الدقة في نقل التفاصيل إلى الشاشة. يومها تحدث لي عن سبب إخلاصه للفيلم الوثائقي الذي تتوفر فيه كل شروط مراقبة الواقع ، وإعادة تنقيطه بما يضمن التغلغل فيه، من السطح، وحتى أعمق مساحات الوجود التي يفرضها. قال إنه سيخلص للفيلم الوثائقي ، لأن هذا الفيلم لا يغدر بصاحبه، كما تفعل أحيانا الأفلام الروائية بأصحابها . أراد عمر بأفلامه المتتالية أن يحلق مثل صقر جارح ، لأن الخراب عميم ، كما قال من حول الجميع .

أثناء تصوير فيلم الدجاج

أذكر يومها أن فيلم ( الدجاج ) عرض في ظهيرة يوم قائظ في معهد الدراسات الشرقية ، وكان لعمر أسبابه التي لم يفصح عنها لاختياره مثل هذا التوقيت . ربما كان يوجّه المشاهدين بغريزته نحو المصير نفسه الذي لف أصحاب المداجن ، بعد أن انتقلوا من زراعة القطن إلى تربية الدواجن . هكذا من دون رؤيا مسبقة ولا دربة تسمح بإعلاء شأن هؤلاء المربين وهم يخوضون غمار معارك دونكيشوتية تنتهي بأحاديث مطولة ومملة سرعان ما تتحول في خضم الاحباطات المتتالية إلى فشل ذريع ونقيق بشري لا ينتهي . هذه القدرة على إضفاء التهكم على موضوعاته رافقته في أفلامه كلها تقريبا ، لا بل أنه هو نفسه، لم يتوقف عن فرض جرعات تهكمية اشتهر بها في حواراته، بوصفه متخصص في صنع أفلام عن شخصيات سياسية غادرت عالمنا اغتيالا، كما هو حال بنازير بوتو ورفيق الحريري ، درجة إطلاق لقب ( عزرائيل ) على نفسه في ممازحات طويلة لم تنته إلا برحيله هو هذه المرة.

فيلم طبق السردين

في ( طبق السردين )، ثمة شيء شخصي يفرض حلا مأساويا . مضمون من دون مسلمات. حواره مع خالته عن السمك الذي منعوا من أكله في يافا مع قيام دولة إسرائيل، واكتفاء العائلة بطبق من السردين، اختصارا منها، لما كان قائما من قبل، هو نوع من الاستعارة للنكران .حينها كان عمر صغيرا ، وقد علقت بذاكرته رائحة السردين، التي كانت تفوح منتنة في أيام الصيف بقوة ، درجة تذكره إسرائيل دائما. وهذا ما تفعله الذاكرة المتيقظة التي تقوم على الروائح والألوان الأولى، فحين تفتح علبة السردين، وتفوح تلك الرائحة التي أشار إليها تضرب إسرائيل بقوة على الذاكرة والأعصاب، درجة الترنح والارتخاء باعتبارها المسؤولة عن تصنيف الحلول المأساوية ورسم مصائر الجميع، وليس لعائلة واحدة فقط، فقدت القدرة على تناول السمك الطازج، بل لعموم كل تلك العائلات التي وفدت من المأساة، وتركت وراءها الروائح والألوان التي اتفق على أنها هي من تشكل الذريعة المتفردة لإمضاء هذا الفيلم بهذه الطريقة المتهكمة والحرّة. ويقينا أن معالجة أخرى، لم يكن ممكنا لها أن تفرض مثل هذه الحلول المأساوية التي يفرضها المخرج، حين يصبح مآل ومصير العائلة معلقا في فضاء السردين المعلب، وهو ذات المصير الذي فرضته إسرائيل على الواقع العربي المعلب أيضا لحظة قيامها على أنقاض شعب، فرض أمثولته في الحياة وفي العيش، حين لم يكن ممكنا إلا استشعار ذلك عن بعد.

من فيلم “الطوفان”

ربما أراد أميرلاي استكمال ما بدأه رفيق دربه الراحل المسرحي سعد الله ونوس حين انحنيا معا على وضع تصورات (الحياة اليومية في قرية سورية)، وقررا الاحتفاء بهذا الواقع على طريقتهما، من خلال فرض أمثولة سينمائية صادمة ، لم يكن ممكنا وقفها أو تسييجها، فالبؤرة الواحدة من حولهما متسيّدة وتقول شيئا واحدا كان بمثابة فرض رؤية واقعية على سينما لا يمكنها أن تحيد أصلا عن وجهتها المقررة لها. إذ لن يخذل أميرلاي صاحبه، فيصور عنه فيلما وثائقيا متمهلا بعنوان ( ثمة أشياء كثيرة كان يمكن  للمرء أن يقولها ). كان بوسع أميرلاي ألا يتمهل  في صنع هذا الفيلم ، فثمة أشياء كثيرة فيه لم يقلها كاملة على جري عادة أفلامه، فالقدر حينها لم يرحم سعد الله ونوس،  وربما تتكرر الآن الصورة معكوسة، فعمر أميرلاي الذي غدر به قلبه فجأة ومن دون مقدمات كلينكية ، كان يصور فيلما عن نجمة سورية عرفت أمجادا سينمائية حين كانت سينما القطاع الخاص السوري متوهجة في سبعينات القرن الماضي ، وقبل أن يأفل نجمها وتعتزل ، كانت “إغراء” نوعا من النساء اللاتي  عشقن السينما بطريقتها وقدمتها بطريقتها ، ولم تطلب شيئا حيال شجاعتها وتهورها أحيانا. وهنا ربما سيكمن معنى فيلم أميرلاي الذي لم يكتمل تماما ( إغراء تتكلم ) . فمن المؤكد أن أميرلاي كان يعرف طريقه جيدا إلى هذه الممثلة التي أغلقت على نفسها ، وعلى مكنونها الشخصي الذي كاد يوما من بعد معالجة مأساوية صرفة أن يحول الجميع للعب في ساحة عمومية ، كانت فضاءها ورمزها ، فقد كانت ترفع بطريقتها من شأن الفيلم ليس في القطاع الخاص وحسب ، فسينما القطاع العام أيضا كانت ممتنة لها في بعض انعطافاتها الكبرى . لا أحد ينسى مشاركتها في فيلم ( الفهد ) للمخرج السوري نبيل المالح . هذا موضوع آخر ، كان بإمكان عمر أميرلاي أن يقوله لنا بطريقته ، فهو شيخ طريقة سينمائية ، وصاحب عدسة جارحة ، لا يمكن لها أن تتكرر دائما .

هامش :
* في العدد الأخير من المجلة الوثائقية  قراءة مطولة في فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) لكاتب المقال


إعلان