الأفلام السورية في مهرجان دوكس بوكس

ناصر ونوس

في الفترة الواقعة ما بين الثالث والعاشر من شهر آذار/ مارس الحالي عقدت الدورة الرابعة من “أيام سينما الواقع- دوكس بوكس”، في العاصمة السورية دمشق. وهي التظاهرة السينمائية التي تنظمها شركة “برو أكشن فيلم” بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما ورعاية ودعم عدد من الشركات والمؤسسات الإعلامية والتجارية والثقافية. وهذا العام امتدت عروض المهرجان لتشمل كلاً من محافظات حمص وحلب وطرطوس. وإن اقتصرت العروض على ثلاثة أيام في هذه المدن. ومن بين فعاليات المهرجان كانت هناك مسابقة بعنوان “أصوات من سورية”، وتضمنت ستة أفلام. وهو ما سنتوقف عنده في هذه العجالة.
أول أفلام هذه المسابقة كان “سقف دمشق وحكايات من الجنة”، وهو فيلم، واحد وليس فيلمان كما قد يتبادر لذهن القارئ للوهلة الأولى، من إخراج سؤدد كعدان وإنتاج قناة الجزيرة الوثائقية. والذي سبق ونال الجائزة الثانية للفيلم التسجيلي العربي في مهرجان دبي السينمائي 2010. والفيلم تدوين سينمائي لذاكرة المخرجة عن عائلتها وبيت أهلها والحي التي ولدت وترعرعت وعاشت فيه، وهو أحد الأحياء الدمشقية القديمة. عن الحكايات الخرافية التي كانت تدور بين جدرانه وزواياه وجنباته. تدوين سينمائي لهذه الحكايات قبل أن يطويها النسيان وتغيب عن ذاكرة من عاشوها وتوارثوها. وهو في الوقت نفسه إضاءة لقضية مصيرية بالنسبة لسكان هذه الأحياء. إنه فيلم مشغول بحب كبير للمكان ولسكانه وبخشية على هذه البيئة المهددة بالزوال أو الانقراض. كما أنه مبني بحرفية عالية بحيث لا يترك  أمام المشاهد مجالاً للملل أو الشرود إزاء قصص وحكايات قد لا تهمه كثيراً أو قليلاً.

الفيلم الثاني بعنوان “الشعراني” إخراج وتصوير حازم حموي. وهو عن فنان الخط العربي منير الشعراني. يتناول الفيلم سيرة هذا الفنان المبدع الذي عاش في الظل لعقود طويلة لأسباب خارجة عن إرادته. يظهر الفيلم جوانب من طفولة الفنان، والفجيعة الكبرى التي أصابته في تلك المرحلة والمتمثلة بوفاة والديه إثر حادث سير أليم تعرضت له الأسرة عام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي. ومن ثم مغادرة الفنان بلده سورية عام تسعة وسبعين متوجهاً إلى بيروت، وعمله هناك في مجال الإعلان والخط وتصميم أغلفة الكتب. وهنا نكتشف للمرة الأولى أن ذلك الفنان الذي كان يصمم الأغلفة الجميلة والمميزة لتلك الكتب اللبنانية في الثمانينات ويوقع باسم “عماد حليم”، لم يكن سوى منير الشعراني الذي اضطرته الظروف السياسية للتوقيع بذلك الاسم المستعار. كما يبرز الفيلم تنقل الشعراني بين المنافي بحثاً عن ملاذ آمن وعمل يضمن له العيش الكريم. لقد أظهر الفيلم الفنان منير الشعراني الذي يصنع من الخط العربي لوحات أخاذة، الفنان الذي يبحث عن أشكال جديدة للخط العربي والمطور والمبتكر للكثير منها. الفنان الذي يحول الأقوال المأثورة للحلاج وابن عربي والنفري وغيرهم إلى لوحات بالغة الثراء والجمال. لكن ما يؤخذ على فيلم “الشعراني” هو بنيته الفنية. فالمشاهد للفيلم يشعر وكأنه إزاء فيلمين منفصلين، فيلم عن حياة المواطن السوري منير الشعراني، وفيلم آخر عن الفنان المبدع منير الشعراني. فيلمان منفصلان عن بعضهما بفاصل مونتاجي. ينتهي الأول ليبدأ الثاني. فقد خصص المخرج “الفيلم الأول” للحديث عن إبداع الفنان، بينما خصص “الفيلم الثاني” للحديث عن سيرة المواطن. بينما كان  يفترض به أن يجد حلاً أسلوبياً يمزج “الفيلمين” مع بعضهما بعضاً. لكن ذلك لم يقلل من أهمية الفيلم بوصفه إضاءة على فنان مبدع عاش معظم حياته في الظل والمنافي.
ومن الفن الجميل إلى المرض الخبيث. وذلك في فيلم “صفقة مع السرطان”، والسرطان هنا حاضر بمعنييه الحقيقي والمجازي. فهذا الفيلم الذي أخرجه أديب الصفدي يتحدث عن الأسير السوري في سجون الاحتلال الإسرائيلي سيطان الولي؛ المواطن الجولاني الذي كوّن خلية سرية مع عدد من أصدقائه لمقاومة “سرطان” الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري المحتل. فاعتقلته قوات الاحتلال وزجت به في سجونها وحكمت عليه بالسجن لمدة سبعة وعشرين عاماً وهو مازال في التاسعة عشرة من عمره. لكن سيطان الولي أفرج عنه بسبب إصابته بمرض السرطان بعد أن قضى ثلاثة وعشرين عاماً من محكوميته. إن ما يؤرق سيطان الولي، ويحز في نفسه، كما يعبر، أن الإفراج عنه تم نتيجة لإصابته بالمرض وليس بموجب صفقة تبادل أسرى مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. كان يتمنى لو كان هناك من يدافع عنه ويطالب به ويتفاوض بشأنه لإعادته إلى أحضان الوطن. لكن مثل هذا لم يحدث. وبالتالي يعتبر هذا الفيلم بمثابة صرخة للمطالبة بهؤلاء الأسرى من رفاق سيطان.
لكن ما يمكن أن يؤخذ على فيلم “صفقة مع السرطان” أنه غرق في فلسفة تجربة الاعتقال والأسر على حساب كشف أساليب التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون والأسرى في سجون الاحتلال. كما أننا سمعنا عبارات في الفيلم أتت على ألسنة ذوي سيطان من قبيل “إن الجولان لا يستحق هذه الأعوام التي قضاها سيطان في السجن”، وهذا ينبغي أن لا يقال، مقارنة بآلاف الشهداء من أبناء الوطن الذين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن الجولان ومحاولة استعادته من العدو الغاصب. لكن الفيلم يبيّن في نهاية الأمر أن سرطان الاحتلال لم يستطع إيقاف عجلة حياة الأسير سيطان الولي الذي عاد لممارسة حياته اليومية في البيت بين عائلته، والمجتمع بين أصدقائه وجيرانه، والحقل بين أشجار التفاح.

“في انتظار أبو زيد” فيلم من إخراج محمد علي أتاسي عن المفكر الإسلامي المتنور نصر حامد أبو زيد الذي عرفت قضيته في منتصف تسعينات القرن الماضي بقضية أبو زيد. ومن يتذكر تلك الفترة يعرف كيف بدأت المشكلة عندما رفضت إدارة جامعة القاهرة ترقية الدكتور نصر حامد أبو زيد، وكان السبب غير المعلن هو أن بعضاً من إدارة الجامعة، وعلى رأسهم الدكتور عبد الصبور شاهين، كانوا قد تعرضوا لانتقادات أبو زيد لقيامهم بتقديم التغطية الدينية والشرعية لشركات توظيف الأموال التي نهبت أموال الشعب المصري. والقضية انتهت بإصدار حكم بتطليق أبو زيد من زوجته وإهدار دمه بوصفه حسب زعمهم “مرتداً” وهو من هذه التهمة براء. لينتهي الأمر بأبو زيد مهاجراً في هولندا، مدرساً في إحدى جامعاتها. يتوقف الفيلم الذي صوره المخرج على مدى ست سنوات عند أهم المحطات في مسيرة أبو زيد. ويكشف جوانب من فكره الإسلامي المتنور والثري. وهنا تكمن أهميته. أما فنياً فقد شاب الفيلم بعض الأخطاء في المونتاج تمثلت بظهور لقطات قافزة، وفي التصوير تمثلت بعدد من اللقطات المأخوذة من زوايا لم تكن هي الزوايا المناسبة، وهي أخطاء كان يمكن تلافيها بقليل من العناية.
من بين الأفلام السورية كان هناك فيلم قصير مدته سبع دقائق بعنوان “مدينة الفراغ” أول فيلم وثائقي لعلي الشيخ خضر. في هذا الفيلم تظهر اللغة السينمائية جلية واضحة حيث لا يلجأ المخرج إلى أي من تقنيات صناعة السينما سوى الكاميرا. ليس هناك استخدام للتعليق ولا للمقابلات. وإنما فقط كاميرا تصور هذا الفراغ  الذي يلف المدينة وقت الظهيرة. يصورها مدينة مهجورة ومقفرة ومتصحرة وخالية من الحياة، ولا شيء فيها سوى الفراغ.
كما كان هناك فيلم بعنوان “راقصون وجدران” صنعه إياس المقداد عن تجربة عاشها مع عدد من الراقصين العرب والأوروبيين، ويظهر كيف تحول الخدمة الإلزامية للشاب السوري دون تحقيق طموحاته في متابعة التعليم وتلمس المستقبل.


إعلان