صوت، وصورة من وحيّ الثورة

صلاح سرميني ـ باريس

الزمان: خارجيّ ـ نهار، يومٌ من أيام شهر فبراير 2011.
المكان: شارعٌ فرعيٌّ في أحد الأحياء السكنية من مدينةٍ ليبية.
لقطةٌ علويةٌ عامة تٌظهر يداً مُرتجفة تمتدُّ من شرفة منزلٍ، تصور، عن طريق هاتفٍ محمول، ما يحدثُ في الشارع.
صوتٌ نسائيٌّ باللهجة الليبية (من خارج الكادر): يريدو يحرقونا، يا كلاب، يا حقراء…
يختلط صراخ، وعويل نساءٍ بأصوات طلقات رصاصٍ مُتلاحقة.

***

فيما مضى، ومنذ سنواتٍ قريبة، كانت الكاميرا (الفوتوغرافية، والفيديوية) مصدر توجسٍّ من حراس الأنظمة القمعية، والمواطنين على السواء، ومهما تجسدت براءة الأهداف التذكارية، والفنية، كانت هذه الأدوات التعبيرية الصغيرة تسبب الانزعاج، المُصادرة، والعقاب أحياناً، ونعرف بأنّ رجال الأمن، والأمان هم الأكثر استخداماً لها كوسيلة توثيقٍ، وتسجيل نشاطات المُعارضين، والخصوم، وخاصةً، في المظاهرات، التجمعات، والاحتجاجات.
ومع التقنيات الجديدة التي لم تأخذها الأجهزة المُخابراتية بعين الاعتبار، أصبح من المستحيل السيطرة على الصورة، والتحكم في تداولها، وانتشارها، وبعد أن كانت الكاميرا تثير الاشتباه، ولا يجرؤ أحدٌ على حملها، أصبح التصوير اليوم علنياً، وحتى استعراضياً، ومع نهم الفرجة على الذات، والآخرين، فقدت الصورة خصوصيتها الحميمة، وخرجت من الدوائر العائلية، وحلقات الأصدقاء، وتحررت من صناديق، وألبومات الذكريات، وأصبحت قابلةً للعرض على الجميع، ورُبما فهم أصحاب العيون المُتدلية، والآذان المُتضخمّة هذه الظاهرة، فتوقفوا عن تعقب الآخرين، تصويرهم، وتسجيل أصواتهم كما الحال في السابق، واكتفوا بالدخول إلى “الشبكات الاجتماعية” بأسماء حقيقية، أو مستعارة للحصول على ما يريدون، وهم قابعون خلف مكاتبهم، لا يشعر بهم أحد، ويمكن المُبالغة أيضاً، بأنّ الكثير من المستخدمين يتلذذون رُبما بهذه المُراقبة الناعمة، ويتطوّعون برغبتهم، ورضاهم بإهداء كميةٍ وافرة من المعلومات، الأفكار، والصور لن يفرطوا بها بسهولةٍ لو تعرضوا يوماً لوسائل الاستجواب التقليدية المُفرطة في قسوتها.

وفي الوقت الذي لا أميل إلى الاقتناع بأنّ الثورات التي تشهدها البلدان العربية حالياً قد انطلقت من “الشبكات الاجتماعية”، وإنما من حادثةٍ فردية، فجرّت احتقاناً جماعياً، ولم يكن “محمد البوعزيزي” يفكر أصلاً في إطلاق ثورة، أجدني مشدوداً إلى تفاصيل كثيرة أثارت انتباهي تتعلقُ بصور، وأصوات هذه الثورات المُتتالية، وبشكلٍ خاصّ، الحضور الطاغي لكاميرات التلفونات المحمولة في كلّ لقطة خارجية (الشوارع، والساحات)، وبدونها، ما كان لنا متابعة الأحداث بهذه السرعة، والدقة مع غياب الصحافة التلفزيونية المُحترفة (في البداية)، منعها، أو صعوبة الوصول إلى بعض الأماكن، ومن ثمّ الفارق الكبير بين تقارير مراسلين محترفين تحتاج غالباً إلى ترتيباتٍ مُسبقة بالمقارنة مع تلقائية الصور التي تلتقطها كاميرات الهواتف المحمولة، ومنذ الصورة الأولى التي سجلتها، بدأ الشعب يصنع صورته بنفسه، وينجزُ لقطاتٍ تسجيلية تخصّه، وبالآن ذاته، ابتدع آليات إنتاج، وعرضٍ بسيطة، وإذا رفضت بعض القنوات التلفزيونية بثها، فقد وجد الجيل الشاب في التقنيات الجديدة بدائل عنها يستخدمها بسهولةٍ، واقتدارٍ، وهذه الخطوات المُتقدمة لا تمنحه أيّ ميزة، أو فضلٍ على جيلٍ آخر، حيث يفرض قانون الحياة، بأن يكون الابن أكثر خبرةً من أبيه بالكمبيوتر، والهاتف المحمول، ويستخدم معظم إمكانياتهما، ومميزاتهما الاتصالية، والتواصلية، ومن الطبيعيّ أيضاً، بأن يكون الأبّ أكثر معرفةً بها من الجدّ الذي تتخطى مشاغله، واهتماماته، ورُبما مداركه.
وهكذا أصبحت “الصورة الهاتفية” ـ إنّ صحّ التعبير ـ مطلوبة، وقليلة التكلفة، بالمُقارنة مع تقارير صحفية احترافية.
لقد استعانت الثورات الشعبية العربية الحالية بكلّ التقنيات التي كانت الأنظمة القمعية، وما تزال، تكرهها، وتخشاها، وحاولت، وما تزال، السيطرة عليها، وفشلت، وسوف تفشل، ونسيت، بأن الإنسان البدائيّ الأول كان يعبّر عن أحاسيسه، انفعالاته، ومخاوفه عن طريق الرسم، والنقش على جدران الكهوف التي كان يحتمي فيها.
***

في الساعات الأولى من صباح يوم سبتٍ من شهر فبراير الماضي، وبعد مشاهدة حوالي أربع ساعاتٍ من الأفلام القصيرة المُرشحة للمُسابقة الدولية لمهرجان الخليج السينمائي المُزمع انعقاده في دبي خلال الفترة من 14 وحتى 20 أبريل، تجولتُ قليلاً بين القنوات التلفزيونية العربية التي تقدمها خدمة الكابل في فرنسا أملاً بسماع خبراً عاجلاً يعلنُ عن سقوط “معمر القذافي”، هروبه، اختطافه، اعتقاله، أو أيّ مصير أبيض، أو أسود نتمناه لهذا الزعيم “المُلهم” إجراماً.

وبعيداً عن البرامج المُتراخية في آخر الليل، لفت انتباهي صور اللقطات الأخيرة من فيلم “عمر المختار” لمخرجه السوري الراحل “مصطفى العقاد” تبثه القناة التونسية تضامناً مع الثورة الليبية، صحيحٌ بأنني أمتعضُ من الدبلجة، ولا أميل إلى سماع ممثلين أجانب يتحدثون اللغة العربية، حتى وإنّ كانوا من طراز “أنطوني كوين”، و”أوليفر ريد”، .. ولكنّ، شدني الفضول لمُتابعة تفاصيل المشهد الأخير، اللحظات الأخيرة من حياة “عمر المختار”، وإعدامه في ساحةٍ عامة.
ومع أنّ الفيلم يحرص على تجسيد شخصيته في أبهى حالاتها، إلا أنها ضرورية، ومفيدة للمُقارنة مع صورة “معمر القذافي، سلوكه، وطبيعة تفكيره.
كان “عمر المختار” (في الفيلم)، وفي أصعب لحظات حياته، هادئاً، شجاعاً، مُتزناً، عاقلاً، حكيماً، وأكثر من ذلك يضفي الرعب على خصمه، ويكسب تعاطفه، واحترامه.
وعلى العكس تماماً، فقد أظهرت الصور التي شاهدها العالم كله بأنّ “القذافي” استعراضيّ، متسرّعٌ، متعجرفٌ، متهورٌ، كذوبٌ، ويفتقد مصداقية كلّ كلمةٍ يلفظها بصوته الخشن المُصاب بالصدأ.
من شاهده يلقي خطابه الدمويّ الأول، تبين له رُبما بأنّ فكرته البلهاء بالحفاظ على قصره الذي قصفته الطائرات الأمريكية في عام 1986 ليست دليل عدوانٍ أجنبيّ”غاشم”، ولكنها، بالأحرى، ذكرى إهانة كبرى، وكم هي ساذجة تلك اليد العملاقة التي تقبض على طائرةٍ أمريكية، وتسحقها، ونعرف جميعاً بأنها لم تكن أكثر من أمنيةٍ علنية لم تتحقق أبداً.
المتفرج الأكثر فضولاً، لاحظ ـ ربما أيضاً ـ ظهور مصابيح الإضاءة في الخلفية، وهي إشارة بأنه تمّ “إخراج” ذلك المشهد الخطابيّ التمثيليّ على عجل، وأنجزه فريق تقنيّ يفتقد الاحترافية، وأكثر من ذلك، كانت الكاميرا في مكانٍ، وزاويةٍ جانبية لا تتناسب إطلاقاً مع تلك اللحظات المهمّة، على عكس الصور الأخيرة لصديقيّه “حسني مبارك”، و”زين العابدين بن علي”، وإذا تمادى المشاهد في تفحصه، سوف يتذكر، بأنّ “القذافي” لم يكن ينظر إلى الكاميرا مباشرةً، أيّ الجمهور المُفترض، بل كان ساهماً في الأفق، مُوحياً بأنه يتحدث مع جموع غفيرة أمامه، وأتوقع بأنّ بعض العاملين في المشهد السمعيّ/البصريّ رُبما انتبهوا فوراً بأنّ شريط الصوت يخلو تماماً من أصوات، وهتافات المُتعاطفين مع “أخيهم”، ومن المؤكد بأنّ أحدنا تساءل، ضمناً، أو علناً، لماذا لم تتحرك الكاميرا وقتذاك نحو اليمين، والشمال كي تصور تلك الحشود الجماهيرية، وجاءنا الجواب لاحقاً عندما انتهى “القذافي” من خطابه بشكلٍ مفاجئ، وهبط من المنصة، وفي مرة واحدة فقط، تحركت الكاميرا قليلاً، وشاهدنا حفنةً من الأشخاص يقتربون منه بخنوعٍ، واحدٌ يعانقه، وآخرٌ يقبل يده، واكتشفنا الخدعة التي وضع نفسه فيها، وتوقع بأن نصدقها، وكان ذلك الخطاب واحداً من المواقف الاستعراضية التي يُتقنها، وكانت في السابق تُضحكنا، وأصبحت اليوم ثقيلة الدمّ، ودموية، وليس من قبيل الصدفة، بأنني في كلّ مرةٍ أشاهد صوره على شاشة تلفزيون، أتذكر شخصيات أفلام الموتى/الأحياء “الزومبي”، وأجدها قريبة الشبه منه، وأحياناً أتمادى في نوايايّ الخبيثة، وأتخيل بأنه، في لحظةٍ ما، سوف ينفصلُ فكه الأسفل عن وجهه، ويتدحرج، وتندلقُ إحدى عيناه من جحرها، وتتدلى.
وقبل أن أغرق في خيالاتي المُستوحاة من أفلام الهلع، والرسوم المُتحركة الهزلية، تنقلني “قناة الجزيرة” من هذا الكابوس، عندما يظهر على شاشتها لقطاتٍ مونتاجيّة أكثر عظمةً، وتفاؤلاَ.

***
الزمان: خارجيّ ـ نهار، يومٌ من أيام شهر فبراير 2011.
المكان: شارع في مدينةٍ ليبيبة.
لقطةٌ عامة تجمعُ حشداً من نساءٍ ملتحفاتٍ بملابسهنّ التقليدية، تتعالى حناجرهنّ احتجاجاً.
طفلةٌ صغيرةٌ في العاشرة من عمرها تقريباً تقف خلف حاجزٍ حديديّ، ترفع لافتةً، ويختلطُ صوتها بهتافات النسوة :
ـ دم الشهداء مايمشيش هباء، دم الشهداء مايمشيش هباء..


إعلان