فيلم صيني تستفيد منه الحكومة السورية
ناصر ونوس
كان فيلم الافتتاح في “أيام سينما الواقع دوكس بوكس 2011” هو “القطار الأخير إلى المنزلHome Last Train”. وهو فيلم صيني من إخراج “ليكسن فان Lixin Fan” (وأورد هنا اسم الفيلم ومخرجه بالإنكليزية لمن يريد الاستزادة). يتناول قضية العمال المهاجرين داخل الصين. ففي الصين، وكما يتحدث الفيلم، هناك نحو مئة وثلاثين مليون عامل مهاجر من الريف إلى المدن الصناعية المتطورة. يلقي الفيلم الأضواء على شروط الأعمال القاسية التي يمارسونها في المصانع وأوضاعهم المعيشية البالغة الصعوبة. إنهم يعملون لساعات طويلة داخل معامل مكتظة بهم وبالآلات التي يعملون عليها. وعندما يعودون إلى مساكنهم. نجدهم يعيشون في شقق بالغة الصغر بالكاد تسمح لهم بالحركة داخلها. الحركة التي لا تتيح لهم سوى إعداد قوت يومهم والاستحمام والنوم في أسرة ضيقة. إنها شقق أقرب إلى الزنازين منها إلى الشقق الصالحة للسكن. لكن مأساة هؤلاء العمال المهاجرين لا تقف هنا. فهؤلاء العمال لا يحق لهم أخذ إجازات من عملهم إلا لمرة واحدة في العام، وتلك الإجازات عادة ما تكون خلال عطلة نهاية السنة الصينية التي تصادف فصل الربيع، يعودون خلالها إلى قراهم لتفقد عائلاتهم وذويهم وأخذ قسط من الراحة غالباً ما تنتهي بمأساة مثلما حدث مع عائلة “جانغ” الذي يتخذ المخرج من قصتها نموذجاً لهؤلاء العمال المهاجرين ويعرض قضية فيلمه من خلالها. إن “جانغ” وزوجته عاملان مهاجران من إحدى القرى الصينية يعملان في أحد مصانع الألبسة التي تصدّر منتاجتها إلى الغرب وسط ظروف عمل قاسية. ويعيشان في شقة بالغة الصغر بالكاد تصلح للسكن الآدمي. وعندما يريدان السفر والعودة إلى قريتهما لقضاء إجازتهما أثناء عطلة نهاية السنة يذوقان أشد أنواع المعاناة للحصول على تذكرة السفر والوصول إلى القطار ومن ثم الانتقال من القطار إلى عبّارة توصلهما إلى قريتهما عبر أحد الأنهر. وعندما يصلان إلى بيتهما في القرية بعد رحلة شاقة وطويلة يجدان مشاكل ولديهما بانتظارهما. فالابنة المراهقة تركت المدرسة، وهاهي تترك البيت بحثاً عن عمل في المدينة، وبالتالي لتدخل دورة الاستغلال نفسها التي يعيشها والديها. بينما الابن يتراجع تحصيله الدراسي يوماً بعد يوم. وكل ذلك بسبب غياب الأهل وابتعادهم عن الأولاد ورعايتهم لهم. وبالتالي يكون الثمن فادحاً بالنسبة للعائلة بكاملها. لكن ما من خيار آخر أمامهم.
![]() |
ملصق الفيلم |
لكن المأساة، مأساة العائلة والتي هي مأساة عشرات ملايين العمال المهاجرين، لا تتوقف هنا، فمع الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالعالم الرأسمالي عام 2008 يبين لنا مخرج الفيلم كيف أصبحت هذه المصانع خاوية من العمال وحتى من الآلات. وهي المصانع التي كانت تصدّر منتجاتها إلى الدول الغربية، وخصوصاً الألبسة. لكن مع الأزمة الاقتصادية هبطت القدرة الشرائية للمستهلك الغربي ولم يعد بوسعه شراء المنتجات حتى ولو كانت صينية. وهنا يبين لنا مخرج الفيلم كم أن هذا الاقتصاد العالمي هو اقتصاد معولم. بحيث أن أي أزمة تعصف بالدول الغربية ستترك أثرها حتى على أبعد مصنع ولو كان في الصين. بل حتى ولو كان في أبعد بقعة في العالم. كما يبين أن التحول الاقتصادي الذي أجرته الحكومة الصينية على اقتصادها لم يكن بديلاً صالحاً للنظام الاقتصادي الاشتراكي التي كانت الصين تسير وفقه. لقد تخلت الصين عن النظام الاقتصادي الاشتراكي وتحولت إلى ما أسمته باقتصاد السوق الاشتراكي. لكن هذا النظام الاقتصادي الجديد لم يجلب السعادة أو الرفاهية لأبناء الصين، ولم يحقق لهم العيش الكريم. بل على العكس من ذلك، زادهم فقراً على فقر، وبؤساً على بؤس. والدليل هو هذه الأوضاع المعيشية المزرية التي يعيشها نحو مئة وثلاثين مليون عامل صيني الذين عرض الفيلم معاناتهم.
لقد وجدت الحكومة السورية في النمط الاقتصادي الصيني الجديد قدوة تحتذى. فقالوا إننا له لمحتذون. فأتوا به وسموه “اقتصاد السوق الاجتماعي”. واتخذوا عدداً من الإجراءات الاقتصادية وأصدروا العديد من القوانين التي تتيح تطبيق مثل هذا النظام. وإلى الآن، وبعد نحو عشر سنوات، لم يلمس المواطن السوري أو يرى أياً من حسنات هذا النظام الاقتصادي الجديد. ولا أحد يعرف حتى الآن إلى أين يسير الاقتصاد السوري. وهنا، ومن مبدأ ضرورة إيصال الحقيقة لمن تهمهم وتعنيهم أو يفترض أن تهمهم وتعنيهم، اقترح على إدارة “أيام سينما الواقع” عرض الفيلم على الحكومة السورية خلال اجتماعها الأسبوعي ليشاهد الوزراء الأفاضل، وخصوصاً رئيس مجلس الوزراء ونائبه للشؤون الاقتصادية، ووزير الاقتصاد، ووزير المالية، ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل، ليشاهدوا بأم أعينهم إلى أي درجة من البؤس أوصل “اقتصاد السوق الاشتراكي” الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للشعب الصيني. علّهم يكفوا عن الاحتذاء بهذا النظام الاقتصادي ويبحثوا عن نمط اقتصادي مختلف يؤمن العيش الكريم للشعب السوري. وإذا حدث ذلك يكون مهرجان “أيام سينما الواقع” قد قدم أكبر خدمة للشعب السوري من حيث لا يدري منظموه، مثلما يكون مخرج الفيلم الصيني “ليكسن فان Lixin Fan” قد قدم بدوره للشعب السوري خدمة لم يكن يتوقعها، أو حتى تخطر في باله. وهنا تكمن الأهمية الكبرى للفيلم، والأهمية الكبرى للسينما، والسينما التسجيلية على وجه التحديد. أي عندما يصنع المخرج فيلماً يمكن أن يغير سياسات حكومات، ومصائر شعوب. من هنا، ومن غير هنا، نال هذا الفيلم عن جدارة ثلاث جوائز عالمية هي جائزة أفضل فيلم في “لقاءات الأفلام التسجيلية الدولية” في كندا عام 2009. وجائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في مهرجان أمستردام الدولي في العام نفسه. وجائزة أفضل فيلم تسجيلي في “مسابقة جوترا” في كندا عام 2010. وهو فيلم يستحقها جميعاً وربما يستحق المزيد مثلها. لقد بذل مخرجه جهوداً جبارة في إنتاجه، وخصوصاً عمليات التصوير، عندما صور هذه الحشود الضخمة المقدرة بالملايين للعمال المسافرين واكتظاظهم وتدافعهم لنيل تذكرة سفر، وانتظارهم القطارات، ومن ثم تدافعهم للوصول إلى القطارات والصعود إلى داخل عرباتها.
![]() |
ومرافقتهم خلال السفر والتنقل من وسيلة نقل إلى أخرى. والولوج إلى عوالم هؤلاء العمال وتصوير معاناتهم اليومية وطريقة عيشهم والتمكن من نقل مأساتهم. وهنا لا نعرف إن كانت قصة العائلة كلها حقيقية أم أن المخرج أدخل عليها بعض التعديلات بمشاهد تمثيلية، وخصوصاً علاقة الوالدين بالأبناء والشجار الذي نشب بين الأب والابنة والذي انتهى بالعراك والضرب. لكن ربما تكون هذه مشاهد تمثيلية لتزيد من درامية الفيلم وبالتالي لنكون أمام فيلم من نوع “ديكودراما”. أي الفيلم الذي يجمع بين الوثائقي والدرامي. وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن نوعه الفني، فإنه فيلم بالغ الأهمية. فهو فيلم استطاع مخرجه من خلاله نقل معاناة نحو مئة وثلاثين مليون عامل مهاجر من أبناء وطنه إلى العالم.