علي حسن الجابر… مات واقفا
قال قائل: هل مات علي حسن الجابر ؟؟. فنادى مناد في النفوس إن عليا لم يمت بل مات قاتله أم أبو عبد الله فقد خلد حيث رقد وانتشر ذكره حيث كان عمر المختار يفتح للشهادة بابا. رقد جسده غير بعيد عن عمر المختار. أما روحه فمع المختار في جنة ربها تتبوأ مقعدها وتزيد. لقد توقفت العبارة حيث ترقرقت العبرة. توقفت عبارة عمر المختار عندما قال : “أما أنا فستكون حياتي أطول من حياة شانقي..” وكانت.. دوت تلك العبارة في طريق سلوق بنغازي ليرسم علي حسن الجابر بدمه نفس المعنى الذي خلد عمر المختار في الضمائر..
ما مات علي ولكن قناصه مات حينما أطلق الرصاصة. كانت الكاميرا تمد في حياة علي نحو المدى. ستكون حياتك يا أبا عبد الله أطول من حياة كل الطغاة لأنك اخترت الخلود. “والمرء ذكر بعده”..
بيبة ولد مهادي كان يجلس على يسار علي حينما جاء الرصاص الغادر مع المغيب معلنا أن هناك في الدنيا من الأشرار ما يوهم بطمس الحقيقة وإخماد صوتها. وأن هناك من يعتبر الجزيرة خطرا على وعلى بقائه بلبوس البشاعة والظلم المقيت.
التقنيا بيبة في وقفة الاحتجاج والمساندة التي أقامتها شبكة الجزيرة تأبينا واعترافا بجميل الشهيد علي حسن الجابر وعزاء لأسرته ولأسرة الجزيرة ولأسرة الإعلام الحر في العالم. تحدث لنا بيبة عن شمائل الشهيد وعن رفقته الطيبة ولحظاته الأخيرة قبل استشهاده.
********
“لا تعرف صاحبك إلا في السفر “…
صحيح أن علاقتي بالشهيد كانت محدودة في الدوحة ولكننا عندما قضينا مع بعضنا البعض أسبوعين في بنغازي تعرفت إلى طود شامخ ورأيت شخصا يحمل في داخله طيبة تفيض على من حوله.. كان رجلا سمحا شهما خلوقا عابدا صابرا متسامحا مع كافة الناس..
رحمه الله.. ما علمت عليه من سوء كان كثير المزاح معنا وكان أكبرنا سنا وخلقا. ومهنيا كان علي حسن الجابر يمتلك حسا صحفيا بحكم تجاربه ومسيرته الإعلامية. ففي أكثر من مرة كان يلفت نظرنا إلى أفكار أو معلومات نستأنس بها في تغطياتنا. وحتى في مهمته الأخيرة ونحن في الطريق إلى مدينة سلوق مسقط رأس شيخ الشهداء عمر المختار كان يقول لي : اسألهم عن تاريخ القرية وعن تراثها وعن عدة تفاصيل أخرى. وفعلا قبل أن نسأل بادر الناس من تلقاء أنفسهم يتحدثون عن تاريخ مدينتهم ورجالاتها. فلم يكن المرحوم مجرد مصور.. وحتى عندما كنت أقف أمام الكاميرا كان يساعدني في تأمين اتصالات ومعلومات تفيدنا.
![]() |
بيبة ولد مهادي يؤبن صاحبه في وقفة الاحتجاج والوفاء في مقر الجزيرة |
أيام بنغازي .. وظهر المعدن الطيب..
كنا نسكن في نفس الفندق ولكن الشهيد علي كان في غرفة مع الزملاء منصور الأبي وأشرف ابراهيم. كانوا ثلاثة في غرفة واحدة وكانوا مستمتعين بجمعهم. علما وأنه كان كل واحد منهم يستطيع الاستقلال بغرفة لوحده ولكن دماثة علي وهو رئيسهم المباشر جعلتهم يخيرون السكن في غرفة واحدة.. وفي الحقيقة سكننا الفعلي كان مكتب الجزيرة في بنغازي لا نفارقه إلا لتغطية خارجية ثم نعود. أحيانا نقضي عشرين ساعة في المكتب ولا نعود إلى الفندق إلا للنوم لسويعات ثم نعود.
عيون تراقب وآذان تتنصت وخطر ليس ببعيد…
أحسسنا في أكثر من مرة بأننا مراقبون من نظرات بعض الغرباء ومن تنصت بعضهم الآخر ومن الحركات الغريبة التي لا نفهما فقلت للزملاء يبدو أننا مستهدفون وطلبت الحذر. لكن الزملاء وعلى رأسهم الشهيد علي لم يتزعزعوا بل اعتبروا ذلك إشاعة ولا يجب أن تؤثر في عملهم. ووصل الأمر إلى أن غيّرنا غرفتنا في الفندق ولكن علي وفريقه تمسكوا بغرفتهم وواصلوا نشاطهم دون أي تأثر وواصلنا عملنا على تلك الوتيرة. وكنا كلما خرجنا في مهمة تصوير إلا وتوقف علي رحمه الله أكثر من مرة لشراء الماء والعصائر والفاكهة لكل الفريق.. كان يغمرنا بكرمه ونحن في أحلك الظروف وكأننا أولاده وهكذا كان مع زملائه الذين يشاركهم غرفة الفندق.
هل لاحظت عليه خوفا عندما تشتد عليكم الأمور وتستشعرون الخطر ؟
لم ألاحظ عليه أي خوف ولا أعلم هل كان يشعر بخوف أصلا أو ربما حتى إذا انتابه خوف هو من طبيعة البشر كان يخفيه عنا. وساعدته تجربته في الحياة ووقاره وسنه على أن يتحلى بالحكمة بحيث لا نرى منه إلا ما يشجع على مواصلة العمل كي لا نشعر بالارتباك.
يوم الحادثة… يوم طويل.
.
في ذلك اليوم المشؤوم بتقييم البشر العاديين وهو يوم مبارك بتقييم ميزان الشهداء، كيف ابتدأت الرحلة ..؟
كان لنا عمل كثيف نكاد لا نلتقط أنفاسنا من كثرة المواعيد. وكان الزملاء في الدوحة في اليوم الذي سبقه قد طلبوا مني تأمين لقاء مع أحد قياديي المجلس الوطني الانتقالي الليبي وأن يكون ضيفا في الحصاد أحاوره أنا على عين المكان. ولكن لأسباب نجهلها ربما أمنية أو غيرها لم يتيسر لنا ذلك. ولكن في آخر لحظة قبل خمس دقائق من موعد الحصاد دخل علينا قاض يسمى حذيفة وهو المنسق بين المجلس الانتقالي والمجلس العسكري. جاء كضيف لم يكن مقررا فاتصلت بالدوحة لأستشيرهم فوافقوا على خروجه معنا في المنتصف. وليس لدينا إلا خمس دقائق.. فقلت لعلي الجابر بسرعة يا أبا عبد الله لدينا مقابلة الآن (دي تي آل).. فشعرت بأنه كان ممتعضا قليلا من الفوضى التي حدثت في برنامج لقائنا في المنتصف ولم يتوان عن نقد غياب التنظيم الذي اختل قليلا لظروف خارجة عن نطاقنا. ورغم ذلك جهز نفسه بسرعة وأتممنا اللقاء. في الصباح اتصلت به واعتذرت ممازحا على “خرقنا لنظام عمله” ليلة البارحة.. فضحك كثيرا ومازحني.
![]() |
كلنا علي جابر.. لكنه كان سباقا نحو الشهادة |
الشهادة تنادي.. وروح الإيثار كانت تعبد الطريق نحو الجنة ؟
في ذلك الصباح بدأنا العمل على الترتيب لمهمتنا في مدينة سلوق ولكن قبلها كان علينا تصوير تقرير عن مستشفى الأطفال في بنغازي وانتدب للمهمة الزميل أشرف إبراهيم. عاد أشرف من مهمته بعد الظهر. حينها كنت أنا وعلي نجمع المعلومات والاتصالات وننجز المقابلات. وبمجيء أشرف قررنا الانطلاق نحو سلوق وكان مقررا أن يذهب أشرف ولكن عليا لاحظ شيئا من الإرهاق على زميله فقال له لا عليك أنا سأذهب بدلا منك. ولما أصر اشرف حلف عليه علي وقال له “أنت كنت الآن في مهمة ولا يجوز أن نرهقك أكثر. فقط سأنهي آخر مقابلة وسننطلق”. وكانت آخر مقابلة صورها الشهيد كانت مع عبد الحفيظ غوقة المحامي ونائب رئيس المجلس الانتقالي والناطق باسم المجلس.
المؤمن الصالح يقول ما يراه ..
“ونحن في السيارة وقد حزمنا أمورنا لاحظت جلبة لافتة للنظر.. فقلت لعلي ممازحا : أبا عبد الله يبدو أننا سنختطف اليوم.. فلم يزد إلا على الابتسامة وهو يقول : وسيخرج على شاشة الجزيرة خبر عاجل عن خطفنا” .. كان ذلك قبل ساعتين من استشهاده.
ثم انطلقنا نحو سلوق. وأنجزنا عملنا وزرنا قبر شيخ الشهداء عمر المختار وكانت هناك مظاهرة صورناها. وكان الأهالي في غاية الحفاوة بنا وأخذوا صورا معنا. كان الجو عاديا لا يوحي بشيء مختلف. وعبّر المواطنون عن آرائهم وفندوا دعاية النظام الليبي عن موالاتهم له وأصروا على موالاتهم للثورة. كانت الساعة حينها تقترب من السادسة مساء.
طريق العودة إلى بنغازي.. الطريق نحو الخلود.
في طريق العودة كنت أنا على يسار الشهيد والزميل ناصر هدار جنب السائق. لم يكن الطريق يوحي بأي خطر. وفجأة حدث الهجوم وحسب ما يقول السائق إنه رأى في مرآة سيارته شخصين ملثمين يستقلان سيارة خلفه هي التي جاء منها الرصاص.
وهذا يفسر لماذا ذهب الرصاص كله في اتجاه اليمين أي في اتجاه الشهيد. حيث أن المجرم كان يجلس على يمين السائق في السيارة المتربصة بنا فكان مرمى بندقيته هي جهة اليمين حيث كان القدر قد اختار عليا وكان يمكن أن أكون أنا أو ناصر. بل إن ناصر نجا بأعجوبة حيث إنه أصيب برصاصة تجاوزت عليا وخدشت أذنه.
كان الأمر مباغتا ومفاجئا بحيث لم نستطع رؤية السيارة التي أطلقت الرصاص. وكان همنا الإسراع إلى أول مكان آمن ولم أكن حينها أعرف أن عليا قد استشهد. فلما رأيت الدم في أذن ناصر الجالس في المقعد الأمام قلت لعلي : هيا علي صوّر .. صوّر ما حدث لناصر ولكنه لا يجيب…
![]() |
جنازة الشهيد.. يرقد باسما في الدوحة لأن روحة في دوحة جنة ربه |
بأول قطرة نزلت من دمه زُف علي عريسا إلى الجنة…
لم نسمع من علي إلا أنينا سريعا خفيفا ثم انبعثت “أشهد أن لا إله إلا الله ..” لتقطع صمته قبل أن يسلم روحه….
والله ما تلفظ بغيرها…
أسرع سائقنا رغم تلف إحدى العجلات اليمنى للسيارة. وبعد مسافة وصلنا إلى منطقة اسمها الهواري وجدنا مجموعة من الثوار الذين قدموا لنا المساعدة ونقلوا الشهيد إلى سيارة أخرى وأسرعوا به نحو بنغازي.. ثم أوقفوا لنا سيارة أنا وناصر لنلتحق بالشهيد إلى المستشفى.
رمزية اللحظة والمكان…
عندما زرنا ضريح شيخ الشهداء عمر المختار كنت أتحدث عن رمزية اللحظة والمكان. فلما استشهد علي أحسست أن قدرا جبارا ونعمة إلهية جعلت روح علي ترقد حيث رقد شيخ الشهداء. لقد كان علي الجابر جميلا في حياته وجميلا في ميتته .. لقد مات حيث يخلد العظماء.