غزة.. قصيدة فلسطين

ربما هي المرة الأولى التي يتعامل فيها المخرج الجزائري خير الدين مبروك، مع القضية الفلسطينية، من باب السينما، ولكنها بالتأكيد ليست المرة بالنسبة للمخرج المصري سمير عبدالله، الذي سبق أن رأينا له غير فيلم وثائقي أوقفه لتناول شؤوناً وجوانب من القضية الفلسطينية، كان من أهمها دون شك فيلم «كتّاب الحدود»، عام 2004، الذي رافق فيه مجموعة من كبار أدباء العالم (جلّهم من حملة جائزة نوبل للآداب)، في زيارتهم إلى فلسطين.
هنا، ومن أجل تحقيق فيلم وثائقي يرصد آثار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، نهاية العام 2008، مطلع العام 2009، تلك العملية الشهيرة التي أُسميت «عملية الرصاص المصبوب»، سوف يحضر المخرجان (سمير عبد الله، وخير الدين مبروك)، دون تصورات محددة لما سيفعلانه، بل بفعل هاجس محدد هو أن ينجزا فيلماً وثائقياً يمكن له أن يقدم مساهمة في فضح العدوان الإسرائيلي، من خلال تسليط الضوء على الآثار الدامية والمدمرة التي خلفها هذا العدوان.
لا سيناريو محدداً، ولا خطة واضحة. الهدف والعنوان هو المحرك لهذه الرحلة، التي ستسير بلا كثير من الهُدى، أو المنهجية. سنعرف بدايتها زمانياً ومكانياً: في اليوم الثاني من وقف العدوان (أُعلن وقف العدوان يوم 18/1/2009). ومن خلال معبر رفح (ممر العبور ما بين مصر وفلسطين)، يدخل المخرجان برفقة دليلهما الفلسطيني (عبد الحليم أبو سمرة)، وسيرافقهم (عوض الخوالدة)، أحد العاملين في «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان».

عوض الخوالدة

فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، هو إنتاج مشترك، يحمل أسماء أربع دول، معاً، هي: مصر, فلسطين, فرنسا, الإمارات العربية المتحدة. تمَّ الإنتهاء من العمل فيه عام 2010، وكان له أن عُرض في مهرجان دبي السينمائي الدولي الأخير، نهاية العام 2010، مشاركاً في مسابقة «المهر العربي للأفلام الوثائقية»، حيث جرى عرض النسخة الكاملة منه، والتي تبلغ مدتها 98 دقيقة، فيما قرأنا عن وجود نسخة مختصرة، للعرض التلفزيوني، تبلغ مدتها 55 دقيقة، بل قرأنا أن النسخة تحمل عنواناً آخر، هو «قطاع غزة.. اليوم الموالي»!..
يقوم فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، على رحلة طويلة يقوم بها المخرجان، برفقة الدليل، يتنقلون خلالها في أنحاء قطاع غزة. يبدأ الفيلم من لحظة عبور «معبر رفح»، ويكاد لا ينتهي، أو من الممكن أن ينتهي، في أي لحظة!.. خاصة وأن المخرجين لم يحددا، أو لم يوضّحا، أي منهجية، أو أسلوبية، أو تيمة، يمكن لها أن تكون ناظم هذه الرحلة، أو أداة توجيهها، سواء أكان من حيث ملاحقة م��ضوعات، أو أشخاص، أو حالات، أو وقائع.. أو أكان من ناحية الانتظام الجغرافي، عبر مسار ما، ذاك الذي يمكن له أن ينظم تلك المحطات التي تنتقل الرحلة عبرها، أو المواقع التي يتوقف عندها، أو النقطة التي ينتهي إليها!..

معلقة فيلم “غزة قصيدة فلسطين”

انعدام هذا الأمر، كان له بالضرورة أن يجعل من الفيلم بنية مفتوحة، يمكن لك أن تضيف لها ما تريد، وتحذف منها ما تريد. ولعل هذا هو السبب الذي جعل من الممكن للمخرجين الحصول على نسختين من الفيلم ذاته، تكاد النسخة الأولى منهما تبلغ ضعف الثانية، من ناحية المدة الزمنية (الأولى 98 دقيقة، الثانية 55 دقيقة)، وهو ما يعني القدرة على الاستغناء على الكثير مما مرّ على مشاهد النسخة الكاملة، دون أن يتخلخل بناء الفيلم، أو تتضعضع مقولته!..
نعتقد، جازمين، أن هذه الملاحظة تبقى آفة أيّ «فيلم طريق»، خاصة إذا لم يتمّ ضبط «فيلم الطريق» بما يحدّده، كأن يكون واضحاً، على المستوى المكاني: من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي. أو أن يكون واضحاً، على مستوى الموضوع، في إطار تيمة معينة، أو غاية مقصودة. وهذا مما لم يتوضّح في فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، إذ أنه اكتفى بالغاية العليا، والمقولة العامة، وقام برحلته، بشكل يصعب، حتى على العارفين بقطاع غزة، وفق أي منهج يتحرك، وأي طريق يسلك!.. عزّز من ذلك أن الفيلم اقتصد جداً في استخدام الغرافيك، فاكتفى في البداية بتحديد مكان قطاع غزة بالنسبة لفلسطين عموماً، ولعل كان من المناسب له ولنا أن يستخدم الغرافيك لتوضيح معالم الرحلة واتجاهاتها ومحطاتها ومواقعها.
في المقابل، فإن الفيلم، وفي الوقت الذي حرص على الاقتصاد الواضح بإظهار الصور الدامية، وأشلاء الضحايا، خاصة وأن أحداثه تالية لوقف العدوان، وبالتالي فإن ما ظهر من مشاهد قصف وعدوان وسقوط شهداء وجرحى، إنما هي استعانات أرشيفية مما سبق لكاميرات أخرى أن صورته من قبل.. نقول: في هذا الوقت، تماماً، فإن الفيلم قد شاء التركيز على الشهادات والتصريحات التي سيدلي بها فلسطينيون كثر، كان للفيلم نصيب مقابلتهم، أكثر من التركيز والاشتغال على الصور، الأمر الذي ذهب بالفيلم إلى لحظات نافرة، ليس من كثرة الكلام، فقط، بل من وقوع الكلام في مطبّات الإرتجال حيناً، ومآزق الخطابية والإنشائية، في أحيان أخرى.
دقائق طويلة يمنحها الفيلم لهذا أو ذاك، ولهذه أو تلك.. إنه يتركهم يتحدثون للكاميرا، دون توقّف، تارة فيما يخصّ شؤون السياسة، وأخرى بالتاريخ، وتالية فيما يخصّ صراع الحضارات، وغيرها الكثير مما يمكن أن يرد على ألسنة، ترتجل الحديث أمام كاميرا، بدت غير مستعجلة، ولا تأبه للوقت!.. وإذا انتبهنا إلى أن المتحدثين، في عمومهم، هم من الناس البسطاء العاديين، المحدودي الثقافة، فعلينا أن نتخيل ما الذي سيقوله الكثيرون منهم!..

بل إن الفيلم الذي شاء (دون أن ندري السبب، أو المبرر) إيراد الكثير من المقاطع الصوتية لإلقاء الشاعر محمود درويش مقاطع من قصائده الشهيرة، سيمنح دقائق طويلة أيضاً من وقته لأحد الفلسطينيين، ذاك الرجل الذي سيقدم مداخلات مطوّلة في السياسة والتاريخ والفكر، لا يمكن الاعتداد أبداً بحصافتها. وسوف يقرأ، ما بينها، بعضاً مما كتبه، باعتبارها قصائد من نظمه، في الوقت الذي يمكن ببساطة الانتباه إلى أنها لا تمتّ للشعر بصلة، ولا يمكن مقارنتها مع ما سمعناه من مقاطع درويش المنتخبة، في فارق مذهل الهوّة.
فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، للمخرجين المصري سمير عبد الله، والجزائري خير الدين مبروك، هو نموذج لفيلم النوايا الحسنة. فيلم التضامن العاطفي الجارف، مع ضحايا العدوان الإسرائيلي. إنه نموذج للفيلم الاستقصائي، الذي ينطلق من رغبة مخرجيه، ومنتجيه، في التعامل مع قضية إنسانية وسياسية؛ قضية ينبغي لها أن تؤلم الضمير العالمي، وأن تحركه من أجل الوقوف والتصدي لهذه الممارسات الوحشية. ولكنه في الوقت نفسه، هو نموذج الفيلم الذي يتسامح بالكثير موضوعياً وفنياً، إلى حدّ الاسترسال، أو الاستسهال، وكأنما دون كثير من الاهتمام بالمنجز الفيلمي، الذي سبق أن تحقّق في هذا الصدد.
ومع فيض الملاحظات هذه، لا بد لنا من القول إن هذا النوع من الأفلام، الذي ينتمي إليها فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، يمكن له أن يكون قادراً على التوجه للرأي العام العالمي؛ مخاطبته، والتأثير في مشاعره، وربما اكتساب قدر كبير من التعاطف، ولكن ذلك سيكون من باب التعاطف مع ضحايا بسطاء!.. لن يقدّم الفيلم معرفة عميقة بقضيتهم، إلا من ناحية بُعدها الإنساني، وإن حاول تقديم أي معرفة، على ألسنة الضحايا أنفسهم، فإنها لن تكون معرفة جادة أو عميقة. إنها معرفة الارتجال السريع، والقول الراهن المسترسل.
كان الفيلم يحتاج للكثير من الضبط، وتحاشي الوقوع في مطبات الثرثرة، التي لا طائل منها. كان عليه ضرورة التخلص من الشهادات المسرفة في كلامها العادي، سواء التي يقوم البعض بالحديث بلغة فصحى، ما فوق واقعية، حتى تصل إلى درجة الخطابات المثيرة للضحك. أو تلك التي يقوم المتحدثون خلالها التشدق بلغة أدبية، تتكئ على كنايات ودلالات، لا تتناسب مع واقعية الشهادات، ومواقع المتحدثين!..

كما كان على الفيلم ضرورة الابتعاد عن السخرية الشوارعية من مفهوم الانتصار: «كمان انتصارين زي هيك، ما بيظلّ ولا فلسطيني في غزة»!.. هذه التي كرّرها الفيلم أكثر من مرة، بل إنه بدأ منها، في مشهد خارج تماماً عن بنية الفيلم، سابق على انطلاق أحداثه، بما لا يليق بفيلم سينمائي. وإلا كيف يمكن لنا قبول رؤية مشهد يأتي قبل انطلاق رحلة المخرجين، وقبل رؤية دخولهما قطاع غزة، يُقال فيه هذا الكلام، ومن ثم نعود، قبيل نهاية الفيلم، لرؤية المشهد ذاته؟.. لا أدري وفق أي منطق يمكن أن يكون ذلك؟.. أو كيف يمكن للمخرجين، أو المونتيرة «كاهنة عطية»، قبول ذلك؟..
بعيداً عن هذه الملاحظات جميعها، وعلى الرغم منها، لا بد من ذكر أن فيلم «غزة.. قصيدة فلسطين»، للمخرجين المصري سمير عبد الله، والجزائري خير الدين مبروك، يبقى واحداً من الأفلام الوثائقية التي حظيت بإقبال شعبي، وتكريم رسمي، كان منها أن نال «جائزة فرانس تلفزيون الكبرى للفيلم الوثائقي، والريبورتاج المتوسطي للفيلم الوثائقي»، وورد في تقرير اللجنة أن «هذه الجائزة تكافئ المخرجين، اللذين تمكّنا من استجواب وعرض الأحداث، والإصغاء لضحايا الاعتداء الإسرائيلي، الذي استهدف السكان المدنيين». وفي هذا المجال هو حقّ لا جدال فيه.


إعلان