12 عاما من حياة عائلة اندونسية

محمد موسى

مع فوز فيلم “وقفة النجوم” للهولندي ليونارد راتيل هيميرش بجائزة افضل فيلم في الدورة الاخيرة من مهرجان “أدفا” للافلام التسجيلية في امستردام في شهر نوفمبر الماضي، يكون المخرج قد حقق سبقا ربما لم يحصل عليه اي مخرج تسجيلي في العالم، فسلسلة الافلام التي ينشغل بها منذ عام 1999 (انجز منها 3 افلام لليوم) عن عائلة “شامشودين” الاندونسية قد حصلت على الجائزة العالمية الثانية من المهرجان ذاته، وبعد ان حصل الجزء الثاني من السلسلة  في عام 2004 على جائزة كبرى هناك.ومع جائزة مهرجان “أدفا”، والذي يعد واحد من اكثر مهرجانات السينما التسجيلية الاوربية جدية. فاز الجزء الاخير من السلسلة، بجائزة أفضل فيلم تسجيلي في فئة السينما العالمية، في الدورة الاخيرة لمهرجان “سندانس” السينمائي الامريكي، حيث يقال ان مدير المهرجان النجم روبرت ريدفورد تحمس شخصيا لعرض الفيلم في المهرجان.

المخرج ليونارد هيميرش

وإذا كان هناك ما يجمع سلسلة المخرج الهولندي ليونارد راتيل هيميرش مع مواطنه جورج سلاوزر، والذي قدم هو الآخر باخراج اربعة افلام عن عائلتين فلسطينيتين تعيشا في بيروت، ورافقهما لسنوات طويلة في منعطفات حياتها، وقدم تشابك الذاتي والعام لافراد من تلك العائلتين، الا ان الاختلاف الجوهري في تلك السلسلة عن سلسلة المخرج “هيميرش”، يدخل في مفهوم “العلاقة الجدلية المعقدة بين المخرج التسجيلي بموضوعاته وشخصيات افلامه”، فلا يمكن تجاوز أهمية النقاش الذي اثاره حتما، اهتمام مخرج هولندي،، اوربي، يهودي الاصل هو جورج سلاوزر بعائلات فلسطينية مهجرة من بلدها، على مسار السلسلة التي انجزها لحد الآن. صحيح ان الكثير من هذا “النقاش” لم يظهر على الشاشة، وطمر تحت طبقات الخجل والكياسة العربية، واحيانا عقد الذنب الاوربية، لكن المخرج جورج سلاوزر تحدث بصدق كبير، وخاصة في الجزء الاخير من السلسلة، والذي حمل عنوان “وطن”، وعرض في الصالات الاوربية في بداية هذا العام، عنما عنته سنوات، من مرافقة فلسطينين لاجئيين في تغيير معتقداته، ووجهات الطرق التي سلكها في حياته. هذا الحضور الجدلي البارز لجورج سلاوزر يقابله غياب مطلق لليونارد راتيل هيميرش. فالأخير الذي اختار لسلسلته الشهيرة هذه ان تكون بدون مقابلات، يغيب بحضوره الجسدي والصوتي تماما عن الفيلم، ولا يتم الاشارة ابدا الى وجوده، ليكون الغياب بذاته مصدرا للاسئلة، بعضها فني،وآخر له علاقة بالرابطة الخاصة التي تربط المخرج بالعائلة،والتي تتجلى في مشاهد عدة، وخاصة في المشاهد العائلية الحميمية، او تلك التي يسودها العنف، والتي ظهرت متفردة بتلقائيتها، وعدم تاثرها بحضور “غرباء” من خارج العائلة.
صحيح ان المخرج نفسه هو الذي اختار تلك المشاهد وغيرها لتظهر في النهاية في النسخة التي قدمها للمهرجانات السينمائية، وتعرض حاليا للجمهور في صالات سينمائية منتخبة في هولندا،اي انه كان متحكما في بناء وايقاع الفيلم بعد الانجاز، لكن بالعودة الى معظم مشاهد الفيلم الطويلة او القصيرة، يمكن تاكيد ان المخرج كان واعيا تماما، بالاسلوب الذي اختاره للفيلم اثناء التنفيذ ايضا، وايضا الى الاثر الذي سيثيره غيابه التام، كمحرك او دافع للنقاشات القليلة بين الشخصيات، والتي جرت في الفيلم، وعدم الانجرار وراء اغراء دفع الشخصيات الى وجهات معينة، لتسجيل ردود الافعال. حتى ان القضايا والتي يفترض ان تكون عاجلة كالعلاقة المضطربة بين المسلمين والمسيحين في اندونسيا اليوم، بدت اقل الحاحا، عندما قدمت ضمن نسيج الحياة اليومية هناك. لتستحوذ مشاكل اخرى مثل: الفقر، الفروقات بين المدينة والريف والذي قدمت منه العائلة، على اهتمام الشخصيات.
 وحتى من دون العودة الى الجزء الاول من السلسلة “وقفة الشمس”، والذي عرض في عام 2002، و “وقفة القمر” في عام 2004، يملك الجزء الاخير من السلسلة “وقفة النجوم”، الحياة والاستقلالية الخاصة به، فالجزء الثالث الجديد يتشكل حول الحفيدة “تاري” والتي فقدت والدتها في حادث سير عندما كانت طفلة، لتقوم الجدة بتربيتها. الفيلم يبدأ مع الايام التي تسبق حصول الفتاة المراهقة على شهادتها الثانوية، ويتبعها في محاولاتها للحصول على فرصة الدراسة الجامعية، وسط ظروف معاشية متردية. مع قصة الفتاة، نتابع مرافقة أفراد العائلة الآخرين، والذين ساعدت مقدمة الفيلم الاخير، بالتذكير بالاحداث التي مرت عليهم في السنوات العشر الاخيرة وقدمت في الجزئيين الاولين من السلسلة، فالجدة، المحور في العائلة، مازلت تواصل حياتها، وواجباتها، للعائلة التي انفصلت عقائديا عنها، فالولدين الوحيدين اختار ترك المسيحية (ديانتهما الاصلية) وإعتناق الديانة الاسلام، لاسباب مختلفة، احدها رغبة الابن الاصغر بالزواج من امراة مسلمة، والاخر اختار طواعية “الاسلام” ، العقيدة المتصاعد فكريا، في البلد الاسلامي الاكبر في العالم.

لقطة من الفيلم

لا يبدو ان “الدين” واختلافاته يثير الكثير من الاضطراب داخل العائلة، سوى بعض الغضب، الذي تثيره محاولات الام المخلصة في مسيحيتها، بزرع هذه العقيدة عند الاحفاد. عدا ذلك تبدو العائلة متحدة كثيرا في صراعها ضد الفقر، واخيرا خلف رغبتها في ارسال الحفيدة “تاري” الى الجامعة، من اجل حياة افضل، لن تكون ممكنة، دون التعليم الجامعي.

جمال العادي
يحفل الفيلم الذي يقارب طوله الساعتين بمشاهد تسجل بواقعية شديدة، تفاصيل صغيرة من حياة العائلة. هذه المشاهد تكتسب اهمية كبيرة في التعريف بالعائلة، مانحة الفيلم ايضا، الروح التسجيلية الصرفة. قوة تلك المشاهد، يعود ايضا بسبب عادية بداية بعضها، قبل ان يحدث شيء ما، يزيد من حيوية تلك المشاهد. ما تقوم به الكاميرا المستعدة للمخرج وفريقه، هو متابعة ما يحدث لاحقا، وتقديم معظمه في الفيلم. أحد هذه المشاهد، والتي من المؤكد بانها كانت معقدة التنفيذ كثيرا، هو قيام حفيد العائلة الذي لا يتحاوز عمره الخامسة، باخذ مجموعة من الملابس المنشورة على حبل الغسيل، والهرب معها داخل الممرات الضيقة للحي الفقير الذي تعيش في هذه العائلة، لتتبع الكاميرا في انسيابية فعالة حركة الطفل. كذلك مشاهد خلافات ابن العائلة الاصغر مع زوجته، والتي انتهت امام الكاميرا، بالاول يحطم عدة المطعم الصغير الذي تديره زوجته.
من الممكن الحديث عن هذه المشاهد واخرى، ركزت بشاعرية طافحة على الجمال المختفي خلف عادية التفاصيل اليومية للبيت والحي الفقيرين في العاصمة الاندونسية جاكارتا، وتاثيرها في تشتيت الدراما المفترضة عن العائلة بطلة الفيلم، لكنها هي ايضا من منحت الفيلم الهوية الخاصة التي يحملها، وهي ايضا التي قربت افراد تلك العائلة الاندونسية المثقلة بالهموم، بهذه الحدود المدهشة من المشاهد.


إعلان