لفلسفة و الصورة

منزلة الصــورة
1. ضمن الفلسفة

هل أخطأت الفلسفة الصّورة؟ وعلى أيّ معنى يدور نظر الفلسفة في الصّــــورة و نظرنا في منزلة الصّورة ضمن درس الفلسفة ؟ هل يتعلق الأمر بحركة من الفلسفة قاصدة إلى التكفير عن ذنب تجاه الصّورة وتصحيح عدم إنصاف الفلسفة للصّورة مثلما يشير إلى ذلك Pascal Bonitzerو Jean Narboniفي حوار لهما مع جيل دلوز؟
تجد هذه الأسئلة وجاهتها في بعض ما ترسّخ من أحكام محتاجة إلى مراجعة جدية بخصوص الفلسفة و الصّورة وهي أحكام تقدمهما كما لو كانا نقيضين بإطلاق، إذ يجري النظر إلى الفلسفة على أنّها متحصّنة خلف قلعة العقل الذي لا يداخله إنفعال أو هي القول الذي يجسد مركزية اللّوغوس و الملتزم بأقصى مقتضيات العقل صرامة لتُرمى الصّورة بصرف النّظر عن أنواعها في دائرة الخيال والإنفعال و الأوهام .هكذا تتمّ التّضحية بالصّورة على مذبح العقل فلا يعترف لها بأدنى أصالة ذاتية أو بأبسط إستقلالية ليتمّ في المقابل التفاخر بقدرات العقل كما لو كان ” إلتزام العقل احترافا للصّلابة” أو كما لو كان الإلتفات إلى الصّورة إنحرافا عن المجرى السليم للتفكير…
و مع ذلك فإنّ العودة إلى بعض لحظات الفلسفة تكشف حضورا مكثّفا للصّورة كأنّه حضور ضدّ العقل والمفهوم، و رغما عنهما. يكفي أن نقدّم في هذا السّياق بعض الأمثلة للشهادة على ذلك، فكيف نتعامى مثلا عن الشكل المسرحي و الثوب الرّمزي للكثير من المحاورات الأفلاطونية وعن إستنجاد أفلاطون بالأساطير و الأمثولات لتبليغ مقاصده الفلسفية؟ وهو أسلوب في الكتابة لم يسلم من مؤاخذة هيغل الذي عاين فيه ضعفا نظريا وفقرا تصوّريا ليعتبر أنّ البداية الحقيقيّة، أي العميقة و النسقيّة للفلسفة إنّما يمثلها أرسطو. وكيف ننسى” أطياف ماركس” بحسب العنوان الذي منحه دريدا لكتابه حول ماركس؟  .فلينظر المرء مثلا إلى بداية “البيان الشيوعي” أو نهايته ليقتنع بأنّها كتابة مكتنزة بالأطياف والأشباح حتى لكأنّتا  أمام  شاعر حقيقي. وإنّا لنجد لدى فرويد أيضا هذا الميل ذاته إلى التشابيه و المجازات و الصّور حين يعمد إلى التمثيل المكاني لجغرافية الحياة النفسية ليقرّب لنا تصّوره لما هو نفسي عامة و لفرضية اللاّشعور خاصّة مثلما ينبّه إلى ذلك جاك دريدا 

الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا

 لكن قد يُشتبه في هذه الأمثلة لأن رصد هذه الأمثلة بالذّات (أفلاطون وماركس و فرويد) يوشك أن يثير الاعتراض : ألم يكن الأمر لدى هذه الأسماء متعلّقا بتصيّد الأوهام وبإرادة إستئصالها ؟ وهل في كثافة حضور الصّور ضمن نصوصهم ما يفيد ضرورة أنّ الصّورة لديهم كانت ذات منزلة إيجابية؟ ألم يتعلق الأمر بإدانة صريحة وصارمة للصّورة بإسم العقل ومن أفق الحقيقة : الحقيقة الاّنطولوجية لدى أفلاطون والحقيقة الاجتماعية لدى ماركس والحقيقة النفسية لدى فرويد؟. أليس الأنسب إن كنّا نريد تبيّن منزلة إيجابية للصّورة ضمن الفلسفة أن نيأس من هذه المرجعيات وأن نلتفت إلى غيرها؟ أليس الأسلم نظريا بأن نعمّم هذه الأمثلة لنقتنع بالمنزلة السلبية للصّورة ضمن الفلسفة ؟
ومع ذلك فإنّ هذا التعميم يُثير الإرتياب، و إنّ هذا الحكم الإختزالي و التبسيطي الذي لا يرى في الفلسفة غير التبرُؤ من الصورة لا يبدو في تقديرنا وجيها فمنزلة الصّورة ضمن الفلسفة ليست بالوضوح والشفافية والبداهة التي قد يُظن، بقدر ما هي منزلة مُلغزة و ملتبسة و إشكالية. حسبنا للتدليل على ذلك أن نذكّر بأنّ الإجماع داخل الموقف الفلسفي التقليدي السلبي من الصّور بمختلف أنواعها لم يكن متحققا ومعنى ذلك أنّه لم يكن موقفا متجانسا، فنحن واجدون من الإستثناءات ما يكاد يخرق ذاك “الإجماع” ويربكه.  فهذا أرسطو مثلا يثمّن الصّورة الشعرية حين يعتبر أن “الشعر أصدق من التاريخ”. وها هو النّقد الجمالي العربي القديم يعتبر في وجه منه بأنّ أعذب الشعر أكذبه. ومعنى ذلك أننا بدأنا نتدرّج للإعتراف بأنّ الصّورة حاملة للحقيقة والمقصود هنا الصّورة الشعرية تحديدا والصورة الفنية بوجه عام.
 أنّ الصّورة حاملة للحقيقة  فذاك ما سيتمسّك به De Vinciفي سياق مقارنته بين الرّسم – وهو أحد فنون الصورة – وفنون القول (مثلا الشعر والفلسفة) حين إعتبر أنّ الرّسم هو الأدقّ و الأصدق إنْ إتّصل الأمر بنقل حقيقة الطّبيعة والتعبير عنها : “يستحضر الرّسم للحواس مآثر الطّبيعة  بأكثر صدق ودقّة ممّا تستحضره الكلمات والحروف” . يقصد دى فنشي الصّدق و الدقّة في معناهما الإبستيمولوجي لأنّه يطالب الرسّام بأن يكون ذا دراية موضوعية بعناصر الطّبيعة : (الهواء و النار والماء والتراب)، وبثنايا الجسم الإنساني إن أراد أن يرسم. و هو يعتبر الرّسم علما بل هو العلم الأقرب إلى الطبيعة من غيره : “إنّه لأوفى بالإعجاب العلم الذي يستحضر أثر الطّبيعة من ذاك الذي لا يمدّنا إلاّ بعمل الإنسان أي الكلام والشعر وأشباههما مما يجري على لسان الإنسان” . الصّورة التي يقدمها الرّسم إذن أصـــدق و أدقّ لأنّها الأقرب إلى الوجود حتى لكأنّ الشّاعر و الفيلسوف مطالبان بأن يتعلما رؤية الوجود جهة الرسّام أو هما تلميذان يتهجّيان بعسر لغة الوجود في مدرسة الرسّام. وفعلا فإنّ دي فنشي يتمسّك بأنّ الرسّام هو صاحب الحقيقة الأولى للأشياء لا الشاعرلا و لا حتى الفيلسوف : “الحقيقة التي يبدعها الرسّام وهو الذي يضمر في نفسه الحقيقة الأولى لهذه الأجسام…” ، يقصد الأجسام الطبيعية. الرّسم إذن هو اللّغة الأولى للطّبيعة و للوجود أمّا الشّعر والفلسفة فهما من اللّغات الثّواني أو هما لغتان متسلّلتان إلى الطبيعة ولا تنبعان منها. لكأنّ الطّبيعة لا تقال إلاّ رسما وصورة أو لكأنّه يتعيّن على الإنسان ألاّ يتكلّم  وإنّما أن يرسم. لكأنّه يتعيّن على الإنسان أن لا يقول وإنّما أن يرى . فهل من باب الصّدفة  أن يكتب دي فنشي : “العين تخطئ أقلّ مما يخطئ الفكر”؟ فهل نحن أمام منعطف في تقدير مكانة الصّورة؟  لهذا السؤال ما يبرره: فالعين تستبق الآن العقل/الفكر. والصّورة ما عادت إبتعادا عن الواقع وإنّما صارت هي لغة الواقع ذاته. والصّورة ما عادت خطابا ينحرف عن الطبيعة أو يلحقها و يُضاف إليها وإنّما هي الطبيعة ذاتها وقد أعيد تشكيلها وخلقها وإبداعها. ولم تعد الصّورة محاكاة مستهجنة وإنّما صارت مع الرسّام خلقا و إبداعا. فهل أبلغ للتعبير عن هذا الإبداع وذاك الخلق من المماثلة التي يعقدها دي فنشي ما بين الرسّام و الإله؟ : “يريد الرسّام أن يرى جمالا يفتنه إذ هو سيّد خلقه فإذا شاء أن يرى وحوشا مرعبة أو مناظر ساخرة ومضحكة أو أخرى مؤثّرة فإنّه في ذلك ربّ وسيّد وإذا أراد … فإنّه المبدع لكلّ ذلك” . لكأنّ الرسّام ينازع الإله مهمّة الخلق و الإبداع أو لكأنّه ” يكفي أن يفرغ الإله  من مهمّة الخّلق حتّى يتفرغ  لها الرسّام”.

ليوناردو دفنشي

بيّن إذن أنّنا أمام تقويم آخر للصّورة، وأمام تثمين حقيقي للصّورة. لكن ينبغي أن نحذر الإنخداع والتسرّع في الحكم لأنّنا نخشى أن نستبدل بداهة كاذبة ببداهة كاذبة : تسلّم الأولى بإقصاء الصّورة في المطلق وتسلّم الثانية بجدارة الصّورة في المطلق. ما يبرر هذا الحذر هو أنّ أفق الحقيقة مازال هو ذاته الذي يحكم نظر دي فنشي إلى  الصّورة وإنْ كانت الصّورة المرسومة في نظره هي أنسب مدخل إلى الحقيقة. ثم إنّ القول بأنّ العين هي المنفذ إلى الحقيقة و أنّ العين أقلّ قابلية للخطأ من الفكر و العقل لا يجب أن يحجب عنا أن العين لدى دي فنشي هي نافذة الرّوح في إطلالتها على العالم، أمّا يد الرسّام فإنّها فكره ذاته مثلما يشير إلى ذلك دي فنشي : ” وبالفعل فإنّه يجب على ما هو موجود في الكون … أن يكمن بادئ ذي بدء في فكر الرسّام قبل يديه” .الفكر/الروح/العقل إذن هو الذي يقود اليد والعين والجسد. فهل إبتعدنا حقّا عمّا سيُنبّه إليه ديكارت لاحقا : “حين أرى أنا أرى بعين الرّوح”؟ وهل غادرنا الموقف التقليدي إجمالا الذي كان يرى أن أقوى حواس الإنسان أي العين – مثل الحواس الأخرى – محتاجة إلى سند العقل وتوجيهه وإشرافه؟  بل إننا لملزمون على الشكّ إن كانت الرؤية – إلى هذا الحد – فعلا حسيّا وحركة جسدية أم هي موقف عقلي و تمثُّل يحوّل الأشياء إلى أفكار وتصورات. فهل نزعم أن الحواس إجمالا والعين تخصيصا تحررت من نير العقل و إستبداده أم نقرّ بأنّ العين بعدُ لا ترى أو هي بعدُ قاصرة إنْ لم تكن غائبة أصلا ؟
ربما وجدنا في هذه الأسئلة بعض ما حرك ميرلوبونتي لإعادة إستنطاق تجربة الرّسم لا فقط ضمن كتابه : “العين والعقل”، – وهو كتاب سيحاول قدر الإمكان منح الأوّلية والأولوية للعين على حساب العقل – وإنّما كذلك ضمن مقال آخر له حول Cézanne ورد ضمن كتابه “المعنى واللاّمعنى”  .وربّما أمكننا أن نفهم لماذا يصل ميرلوبونتي إلى حدّ المماهاة بين مهمتي الرّسام والفيلسوف ضمن كتابه : “تقريظ الحكمة” حين لاحظ أن الفيلسوف يتفرّس الوجود مثلما يتفرّس الرسّام الوجه. فهما كائنان منذوران للطبيعة وللوجود وإنتباههما إلى العالم المرئي إنّما القصد منه أن يهتديا إلى نمط فعل ما يحضر في حواسنا وملكاتنا الإدراكية. كأنهما يريدان مباغتة الوجود لحظة التشكّل و إلتقاط كيفيّة تكوّن الموجودات وإنْ إختلفت آليات التّعبير لدى الفيلسوف والرسّام . وهما لا يميلان إلى ترجمة العالم ضمن مفاهيم وأفكار واضحة بقدر ما يحاولان تركه يعبّر عن ذاته. وقد تحدث تجربة التعبير هذه عبر المفهوم أو عبر الصّورة. لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ تجارب التعبير حاملة لإدراكاتنا. ذاك الإدراك الذي يمثّل المشكل الرئيسي للفلسفة حسب ميرلوبونتي. أمّا الرؤية فهي سبيلنا إلى الإدراك. فلعلّ لغز الرّؤية هو لغز الفلسفة ذاتها. و هو موضوع تقاطع الرسّام والفيلسوف والشّاعر و الموسيقي… لأنّ ميرلوبونتي يتمسّك بأنّ مهمّة الفلسفة هي أن تعلّمنا كيف نرى الوجود و ندرك العالم : “لا يبقى لفلسفتنا سوى أن تشرع في فحص العالم الفعلي” . الرسّام إذن – مثل الفيلسوف – مطالب بأنْ يقيم في العالم لا أن يحلّق فوقه. فكيف تكون رؤيتنا رؤية فعليّة لا رؤية عقلية؟ وكيف نستعيد فعل الرّؤية ونتخلّى عن فكرة الرؤية؟

كامل الدراسة


إعلان