النظام العربي: وحش “فرانكشتاين” يتمردُّ على صانعه

واحدةُ من الإنجازات العظيمة التي حققتها الثورات الشعبية في الوطن العربي، اهتمام الجميع بالسياسة، والحديث عنها، وهو الموضوع الأخطر الذي كانت الأنظمة العربية تخشاه، وتردعنا عن الدخول في تفاصيله، ومتاهاته، ومن أجل هذا الغرض، أنشأت مؤسّساتٍ رقابية تُغربلُ كلماتنا، أفعالنا، أفكارنا، لقطاتنا، وكلّ ما يتنافى، من وجهة نظرها، مع مصالح الوطن، والمُواطن، ولهذا، أتوقعُ بأن تكون معظم الكتابات الحالية، واللاحقة، في قلب الأحداث، أو تحوم حولها، وأجد اليوم حرجاً في الكتابة عن السينما التجريبية، الهندية، التسجيلية، والقصيرة… وأنا أشاهد مواطنين يموتون في هذا البلد العربيّ، أو ذاك، وخاصةً في “الجماهيرية العظمى”، بينما يُغالي القادة، والرؤساء في طغيانهم، وعنادهم الأسطوريّ.
في أحد أيام شهر مارس، والثورات مازالت مستمرّة، استمعتُ إلى أجزاءٍ من خطاب “القذافي” بعد تنفيذ قرار مجلس الأمن، شخصياً، لا أتحمّل سماع خطاباته كاملةً، يكفي حوالي خمسة دقائق فقط لمعرفة فحوى، ومضمون ما يريد إيصاله، حيث تتكرر الكلمات، والمعاني، وتتناقض، وغالباً، أشعر بأنني أشاهد رئيس عصابةٍ في فيلم هنديّ، أو تاموليّ، يتوعد، يسبّ، يشتم، يلعن، وينهي خطابه بشكلٍ مُفاجئٍ، وغريب، وينسحب من المنصة، وهو يعدّل من وضع أطراف ملابسه التقليدية، والتي تكاد أحياناً تطيح برأس شخصاً يقف، أو يمشي خلفه، وهي إشارةٌ واحدةٌ تجعلني أصفه بقلة الأدب، وأكثر من ذلك، يضحكني، ويستفزني عندما يرفع قبضته في الهواء، ويحركها بزهوٍّ، وهي ليست سلوكيات مُتزنة أبداً.
خطابه الأخير، وكلّ خطاباته، سوف تصبح مرجعاً لأدبيات الهزل التي يُتقنها المصريون، وسوف تتحول كلماته إلى ما لا يُحصى من النكات، والأقوال المأثورة، كحال أشباره، وزنقاته .
عندما بدأ “القذافي” يتفاخر ببطولاته، وتضحياته الخارقة، السابقة، والحالية، خلال مسيرته الثورية المُمتدة من المهد إلى اللحد، ويصف دول قوات الائتلاف بالتخلف، ويتوعد بأن يتحول العالم إلى “جماهيريات”، خرجتُ من منزلي بسرعةٍ كي لا أتقيأ فيه، أو أحطم جهاز التلفزيون الذي أحتاجه في هذه الفترة بالتحديد، وبينما كنتُ أفكر بالكتابة عن الثقافة السينمائية “المُتخلفة” في فرنسا (كواحدةٍ من الدول التي أشار إليها “القذافي”) مُستعيناً بنشراتٍ إعلامية لمهرجاناتٍ، وتظاهراتٍ تنعقد حالياً في باريس وحدها، وأتحسرّ على هذا الشعب الفرنسيّ “المُتخلف” أيضاً الذي يهدر طاقاته، أمواله، وخبراته في تنظيمها، بينما كان عليه أن “يقذفها” إلى “الجماهيرية العظمى” المُتألقة في تقدمها كي تجعل هواة السينما، والجمهور في قمّة السعادة.
كنتُ قد قررتُ الكتابة عن هذا الموضوع فعلاً (بدون التفكير برفع قبضتي في الهواء)، وبسماع الجزء الأخير من الخطاب، انسدّت نفسي، وتوترت أعصابي، وخرجتُ من المنزل متوجهاً نحو المقهى القريب، وفي طريقي فكرتُ، ومازلتُ أفكر:
ـ ما هي حصيلة تلك الإنجازات التي يتحدث عنها “القذافي” منذ أن حقق ثورته (التي يتغنى بها) حتى إنجازه الأعظم، الحرب على شعبٍ لا يريده ؟
الحقيقة، لا أدعي معرفةً معمّقة بالمشهد الثقافي في ليبيا، ولكنني، على الأقل، أزعمُ معرفتي بأحوال السينما فيها، ومع ذلك، أستنجدُ بكلّ المُؤرخين، النقاد، وخبراء الصناعة السينمائية كي يتذكروا معي مُنجزاً سينمائيّاً واحداً مُعتبراً، إنتاجاً، توزيعاً، وثقافة سينمائية. شخصياً، أتذكر “الرسالة”، و”عمر المختار”، فيلمين روائيين طويلين أخرجهما السوريّ “مصطفى العقاد”، وساهمت “الجماهيرية العظمى”، أيّ أموال الشعب الليبيّ، في إنتاجهما، ولم يكن غرض “القذافي” سينمائياً أبداً، ولكن، تحسين صورة وجهه المُرعبة التي أنهكتها عملية جراحية واحدة، أو أكثر أمام شعبه، والعالم، والتشبّه بالزعيم الليبيّ “عمر المختار”، ورُبما بالأنبياء أيضاً، وإرسال رسالة صبيانية إلى الغرب، إيطاليا بالتحديد، مفادها، بأنّ الشعب الليبيّ انتصر على الاحتلال، وسوف تكشف الشهور، وربما الأيام القادمة عن تورّط “القذافي” وعائلته، ونظامه في أبشع الصفقات التي لم تتحقق في عهد الاستعمار نفسه.
وماعدا تغييّر اسم “السينما” إلى “الخيالة” (من الخيال)، والمُشاركة الإنتاجية في عددٍ من الأفلام، كانت ليبيا غائبة تماماً عن المشهد السينمائي العربي، (وتبتعدُ سنواتٍ ضوئية عن المشهد السينمائي العالمي)، ولولا شغف، وحماس الناقد السينمائي الليبي “رمضان سليم” الذي ألتقي به في دمشق التي يعشقها، ويحرص على متابعة مهرجانها منذ سنين (ومهرجان الإسماعيلية في مصر الذي توقفتُ شخصياً عن متابعته لأكثر من سبب، ومنها تسيّبه المُعيب حقاً في دعوة لصوص الثقافة السينمائية، وكأنّ إدارته لا تدري ماذا يحدث في المشهد السينمائي النقدي العربي، وإذا كانت لا تعرف، فهي مصيبة، وإذا كانت تعرف، وتُطنش، فهي مصيبة أعظم، وتنطبقُ هذه السطور أيضاً على مهرجان وهران في الجزائر ).
ولولا المُبادرات السينمائية (مهرجان الشاشة العربية المُستقلة، وإخراج أفلام تسجيلية) التي أقدم عليها الليبيّ “محمد مخلوف” من منافيه المُتعددة (لندن، الدوحة، دبي، أبو ظبي، القاهرة) لوضع اسم بلده في الخارطة السينمائية العربية، لما تحدثنا إطلاقاً عن

المخرج الليبي محمد مخلوف

السينما في ليبيا.
في السعودية لا توجد صالات سينمائية، ولكن، نسمع من وقتٍ لآخر عن عروض استثنائية، وحتى مهرجانات سينمائية محلية، وإقليمية (توقفت)، ولكن، أتساءل، هل يوجد في ليبيا صالات سينمائية يرتادها الجمهور، ويتابع أول، وآخر الإنتاج العربي، والعالمي، أم أنّ الثائر “معمر القذافي” يعتبر السينما اختراعاً أجنبياً استعمارياً يهدف إلى السيطرة على الشعوب العربية ثقافياً، وربما أيضاً شكلاً من أشكال التخلف، وأماكن موبوءة تجمع العاهرات، القوادين، والصبية المسطولين،.. يتبادلون الإبر المُلوثة، الحبوب، السجائر الملغومة، وكؤوس الخمر، وهم قاعدين (من تنظيم القاعدة) يخططون للقيام بثورة، أو حتى انتفاضة صغيرة على الوطن، والمُواطن (وليس القذافي، وعائلته، ونظامه) بتحريضٍ من الدول الغربية التي تزوّدهم بالمؤن، العتاد، والأسلحة بغرض تحقيق أهدافٍ استعمارية غاشمة للسيطرة على خيرات البلاد، وتحويل الشعب الليبيّ إلى عبيد.
هذا لا يعني أبداً بأنّ حال البلدان العربية الأخرى أحسن حالاً، ولكن، يا أخّ “معمّر”، حتى السعودية نفسها تنتج أفلاماً روائية طويلة، وتسجيلية كلّ سنة، ومنذ بعض السنوات، بدأنا نشاهد حوالي 50- 60 فيلماً قصيراً في العام كنا نشاهد معظمها في “مسابقة أفلام من الإمارات” في أبو ظبي، ويتسنى لنا حالياً مشاهدة عدداً منها في “مهرجان الخليج السينمائي” في دبي، بدأ بعضها يحصد الجوائز في المهرجانات العربية، وأخرى تحظى بالعرض في المهرجانات الدولية، حتى أن “مهرجان الفيلم العربي” في روتردام يعدنا بالاحتفاء بهذه الإنتاجات الشبابية في الدورة المُزمع انعقادها آخر هذا العام وفق الأخبار الأخيرة المنتشرة في وسائل الإعلام العربية، وهنا، لا أفهم سلوكيات صحفيّ مصري في أوج حماسه للثورة المصرية، ولكنه بالمقابل، مازال يتعاطف، ويروج لمهرجانٍ سينمائيّ فاحت رائحة فساد إدارته ؟
وكي لا أشطح عن موضوعي، وأنسى الفساد الأعظم، ، فإنني حتى شهر يناير من هذا العام، كنتُ في كلّ مرة أشاهد “القذافي” على شاشة التلفزيون، أتذكر فوراً الأحياء/الموتى في أفلام الرعب، وفي قراءةٍ سابقة كتبتً عن هذه الرؤى التخيليّة، ولكنني، في زحمة الأحداث الدموية، نسيتُ الإشارة إلى تشابهٍ شكليّ، ومضمونيّ مع وحش “فرانكشنتاين”، وكما جاء في أدبيات هذه الحكاية الخيالية، فإن “فرانكنشتاين”، أو “بروميثيوس الحديث”، رواية قوطية، اعتبرت فيما بعد مقدمة للخيال العلميّ، كتبتها البريطانية الشابة “ماري شيلي” التي كانت عشيقة، ومن ثمّ زوجة الشاعر “شيلي”، ونُشرت في عام 1818، وهي محاولة “روبرت والتون”، لاستكشاف القطب، وتتكوّن تفاصيل أحداثها من قصة حياة “فيكتور فرانكنشتاين” التي جمعها “والتون”، يسردها الوحش على “فرانكشتاين” الذي صنعه، ومنحه الحياة، وتبرير كراهيته تجاه خالقه بسبب العذاب الذي عانى منه.

ومنذ عام 1910، بدأت السينما تهتم بفرانكشتاين، ووحشه مع فيلم بعنوان “فرانكشتاين” من إخراج (J. Searle Dawley)، بينما يعود تاريخ آخر فيلم عنه إلى عام 2005 مع “فرانكشتاين ضد المخلوق في خليج الدم) لمخرجه (William Winckler)، وما بينهما تمّ إنجاز حوالي 35 فيلماً سينمائياً عن هذا الموضوع.
اليوم، رُبما تكون هذه الحكاية الخرافية أقرب إلى الواقع، حيث تُحيلنا فوراً إلى العلاقة التي نشأت بين الدول الغربية، وبعض قادة الأنظمة العربية، ووصلت إلى مرحلةٍ بدأ البعض منهم يتمرد على صانعيه، “معمّر القذافي” نموذجاً.


إعلان