فزع ناتالي بورتمان من بلوغ الكمال

فيلم “ البجعة السوداء “ لدارين اورونوفسكي هو في النهاية فيلم ناتالي بورتمان. ويمكن القول، إنه لولا أداء هذه الممثلة، لما وصلنا هذا الفيلم كما وصلنا، ولما حمل هذه الرسائل الجوّانية المبطنة عن عالم أنثى  يتمزق  وينزف أمامنا دون أن يأخذ هذا الفعل أبعادا تجريدية، لأن حجم المشاعر هنا يغرق كل التأويلات الخاصة بفيلم يخضع الانسان لعالم الحب ونار الشهوات والظمأ المتعدد الوجوه للكمال المطلق، دون أن يترك شيئا ليذروه على الشاشة سوى تفاصيل الحكاية نفسها وقد أفضت إلى عوالم رحبة لم يكن ممكنا بلوغها لولا راقصة الباليه نينا، التي ستقدم من الآن فصاعدا باليه “بحيرة البجع” بطريقة لم يسبقها إليها

ناتالي بورتمان

أحد، حين تبلغ الكمال، كما تقول لنا وهي تتماوت، ولاتموت، بعد أن التبس عليها الموت ذاته، أو هو التبس على المشاهد نفسه، الذي لم يعد يفرق هنا بين ماهو واقعي وماهو متخيل، لأن نينا، لا تعود راقصة منحبسة على نفسها، فكي تصل مرتبة الكمال، لابد من أن تخرج من سجن المشاعر المضطرمة والمتأججة بفعل نقصان بقوة الدفع العاطفي الذي تغلق عليه طوعا، وأن تغادر ما كانت قد ارتضته لنفسها من طيبة وبراءة ودعة وطمأنينة تحتاج إليها البجعة البيضاء لا يمكن أن ترضي الجانب المظلم فيها، الجانب الذي يفرض علينا مشاهدته معها حين تنظر دوما في المرآة، ليقابلها “”بورتريه”” لها  أسود غامق يقود نحو البجعة الشريرة القاسية، ولا تعود محاولات إطلاقها قرينة بالنسخة الأصل التي توصّلها بيتر تشايكوفسكي في زمنه وفي فضائه ذي البعد الواحد، فما هو مطلوب هو قراءة مختلفة ونافرة تعتمد على أداء منفلت وشيطاني يخالف بياض الوجه الذي يميز ناتالي بورتمان وعلى خلط لهذا الزمان والفضاء في لعبة جديدة يجري فيها تكثيف المشاعر الانسانية بأبعاد جديدة ومتعددة، لا بل إن نينا سوف تجد كما يخبرها المدرب توما “ فنسنت كاسيل “ إنها الوحيدة التي تقف في طريقها وتهدد موهبتها ، نتيجة خوفها وجبنها، وهو ما تحرص عليه طوال الفترة التي تتنازعها فيها صراع البجعتين، فبدلا من الحكاية المعروفة التي ذهب إليها تشايكوفسكي، نجدها تعيش الصراع في داخلها وتتشظى بنتيجته فيزيولوجيا، فتشقق أطرافها وكتفها، وهو ما لا يبدو مفهوما في البداية، إذ تحيل هذه التشققات الجسدية إلى قراءة مختلفة في فلسفة الجسد المريض لاتتوضح إلا حين اكتشاف العالم المظلم الذي يسكن فيها، وهو العالم الذي تقضي وقتا فيه غير محدد، لتطلق منه البجعة السوداء التي يبدأ توما باكتشافها فيها حين يقبلها عنوة، فتعضه من شفتيه، فيدعوها من هذه اللحظة، لأن تتوحش وتنفلت حسيا وجسديا، فالطريق نحو هذه القاع المظلم في النفس سيكون معبدا بالشهوات وبالدم .
باليه “ بحيرة البجع “ للموسيقي الروسي بيتر تشايكوفسكي يحكي قصة فتاة جميلة تتحول إلى بجعة بيضاء على يد ساحر شرير، ويحول ابنته إلى شبيهة لها، كي تغوي الأمير وتوقعه بحبه . الفتاة الجملية لن يكتب لها الاستيقاظ إلا من خلال حبها للأمير، وفيما تنجح ابنة الساحر الشرير باغوائه في البداية،  يكتشف الأمير حجم الخدعة التي سيعيشها، فيعود إلى حبيبته، وهويوقن إن الحجب السحرية لن يمكن اختراقها، فيقرران الموت معا. ماستفعله نينا “ ناتالي بورتمان “ لا يعود مقتبسا من الحكاية المعروفة، فالحلم الذي تسيقظ عليه في بداية الفيلم يخبرنا أن خطأ دراميا مختلفا سيقود الحكاية نحو تفسيرات مختلفة، ربما يكون الجنس أحد مفاتيحها، وليس كل المفاتيح بالطبع، لكنه سيكون مقرونا بالشهوات والقسوة والمثلية المتخيلة والعواطف الحارقة، وهو ما ستقدم عليه نينا في وحدتها غير المكتملة، فثمة من يتلصص عليها وإن بشكل موارب ومجتزأ، سوف نلتقيه في قطار الذهاب والإياب وهو يأخذ أشكالا متحولة ومتعددة، وسوف تعيشه مع منافستها ليلي في الحانات الليلية، وبين شبان لاهين وفي فراشها وتحت وصاية أمها النائمة وهي مغمضة نصف إغماضة، ولن ترفض “ليلي” مشاركتها واقتسام هذه المشاعر  في لحظة انطفاء عارمة تقودها نحو هذا الجانب المظلم ليصبح أكثر نقاء وصفاء، وهو ما تكون بحاجته لتصل إلى تجسيد دور البجعتين بعد أن تتورم حالتها وتنفجر مشاعرها الجوانية، حين يخيل لها أن قد طعنت منافستها ليلي وقامت باخفاء جثتها في غرفة الماكياج الخاصة بها وما سنكتشفه حين تلهج على المسرح الراقص بأنها قد وصلت مصاف الكمال في أدائها، وأنها قد طعنت نفسها في لحظة غيبوبة نادرة الوقوع، إلا لم هم في مثل نقاء سريرتها. فيما يخص نينا على صعيد تأكيد ذاتها، فإنه مقدر لها أن تختار هذه المعادلة الصعبة في أداء، ربما هو الأهم في حياتها المهنية، فهي

المخرج لدارين اورونوفسكي

تنحني هنا على تقلبات النفس الانسانية وانحباساتها، ومحاولات إطلاق كل ما هو غائر في هذه النفس المعقدة الذي تمثله المرأة هنا بكامل تقلباتها والتواءاتها، ونينا تمكنت باقتدار من أن تعكس هذه الصراعات السيكولوجية  التي تنتج عن فن راقص أقل مايمكن أن يقال فيه، إنه طيران للجسد المثالي في بحيرة الشيطان الآدمي، وليس بحيرة البجع إلا صورة وكناية عن هذا الطيران الرمزي الذي يمثله جسد نينا وهو يدور ويتلوى ويتفتت ويتمزق على مسرح واه لاحدود له، ولا مساحات تخنقه أو تحده طالما أن الصراع بين البجعتين يستوي أبديا في جسد واحد، ولا يتعدى أن يكون جسدا انسانيا هشا وممزقا يقوم عبر تاريخه على خلق أدوات تعبير بالكثافة العاطفية ذاتها، وإن تلّون كما تتلّون المساحة المفروضة عليه، وهذا ما فعلته ناتالي بورتمان في “البجعة السوداء” حين غيّرت من السباحة النفسية في الدورين، فأتقنتهما حدّ صناعة الفزع الانساني من بلوغ مرتبة الكمال الذي استحقت عنه أوسكار أفضل ممثلة، ما كان ممكنا وصولها إليه قبل أن تتشقق روحها المدماة من قبل أن يتشقق جسدها ويتمزق أمام مرايا لم تكن متشابهة في كل لقطة أدمنت عليها نينا وهي تدور من حول الأسطورة الموسيقية لتحولها إلى حكاية يومية في حياة من يعيش معها، وكأن الموسيقى بذاتها تتحول إلى أداة مفترسة للمشاعر المبطنة وهي تتنقل بين بجعتين استعارتا اللونين الأبيض والأسود، المتشابكين أبديا، لتتصارعا في جسد امرأة مكتملة المشاعر وكثيرة الخوف والفزع اسمها ناتالي بورتمان .


إعلان